مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

الخلافة اصطلاح بشري لا تنزيل إلهي

د.طه حامد الدليمي

بدايةً إليكم هذا السؤال:

هل أوجب الله تعالى إطلاق اسم (الخلافة) على النظام الذي يحكم دولة الإسلام؟ واسم (الخليفة) على حاكم الدولة؟ والجواب كلا وكلا. ومن توهم أن الأمر بخلاف ما قلت فليأتنا بنص شرعي معتبر.

أما (الكتاب) فأطمئنكم أنه خلا كلياً من ذكر كلمة (خلافة)! ولم يذكر منصباً رئاسياً بهذا الاسم أو قريباً منه! وأما الحديث فلا يصح حديث واحد: لا سنداً ولا متناً، من الأحاديث التي وضعتها (المؤسسة العميقة) في سبيل إنشاء وإشاعة وترسيخ مفهوم (الخلافة)؛ توصلاً لإشاعة الفوضى بين المسلمين، وإعادة دولة الفرس المجوس المتخلفين. ثم كيف يصح حديث في أمر أصولي خطير هو النظام الذي ينبغي أن تبنى عليه دولة تنطق باسم الله، ثم لا نجد أساساً ولا ذكراً لهذا الأصل في (الكتاب)؟! ومن خدعته ترقيعات المرقعين لحديث (خلافة على منهاج النبوة) فليخبرني لأفصل له ضعف الحديث ومخالفته لقواعد التحقيق والشرع العظيم.

لنطرح سؤالاً صادماً تطير لوقعه كل شياطين الجهل والجاهلية: هل في نصوص الشريعة ما يحدد ماهية نظام (الخلافة) بنقاط مفصلة تعطي صورة واضحة لهذا النظام المفروض علينا من قبل من نصّب نفسه (ناطقاً رسمياً) عن الله جل في علاه؟ أم إن الواجب هو إقامة الحكم بالشريعة بقطع النظر عن الاسم الذي تسمى به الدولة: سلطنة، مملكة، إمارة، رئاسة… وهكذا. والاسم الذي يلقب به رأس النظام؟

الخلافة والملك في الكتاب الكريم

في الوقت الذي ورد لفظ (المُلك والمَلك) في القرآن الكريم (30) مرة – عدا ما تعلق من ذلك بجناب الله تعالى – لم يرد فيه منصب ديني سياسي باسم (الخلافة)، ولا حاكم شرعي باسم (الخليفة).. جاء لفظ (الخليفة) في (الكتاب) مرتين. ولكن مرةً في معرض ذكر خلق أبينا آدم عليه السلام: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30). وها أنتم أنتم لا ترون في النص الشريف ما يصرح بأنه منصب سياسي يأتي على رأسه شخص له لقب هو (الخليفة).

ومرة في معرِض ذكر داود عليه السلام: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (ص:26). وداود ملك! قال الله عنه: (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) (البقرة:251). والملك عند (الخلافتية) لا يكون خليفة؛ فكيف إذن جمعت لداود الخلافة والملك؟! والنص في كتاب الله! إن هذا يعني أن القرآن لا يعنيه التفريق بين الملك والخليفة، إذ المهم فيه هو حقيقة الحكم لا اسمه أو شكله.

لم يتوقف الأمر عند ما ذكرت فقط! بل ورّث هذا الخليفة لابنه المُلك بنص (الكتاب): (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) (النمل:16) قال ابن كثير: أي في الملك والنبوة.إهـ. لا. ويحدثنا التاريخ المرقوم أن ابنه سليمان ورّث الملك لابنه رحبعام، أي لحفيد الخليفة أو الملك الأول داود عليه السلام. وقد أثنى الله تعالى فيه على ملوك كطالوت وملكة سبأ.

وبقية تصريفات جذر (خ ل ف) لا علاقة لها بالسياسة وأنظمتها ومناصبها، إنما هي ألفاظ لا تفيد أكثر من معنى التعاقب فتذهب جهة لتحل بعدها جهة أُخرى. فيذهب جيل ليخلفه جيل، ويذهب شخص ليخلفه شخص، بغض النظر عن الأمر الذي يجري عليه الخِلْف أو التعاقب. يقول تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (يونس:14). ويقول: (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (يونس:73). وهو ما عناه سبحانه بكلمة (الخليفة) عندما أخبر الملئكة بالأمر فكان جوابهم (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30). ففهموا من ذلك أن الخليفة يمكن أن يكون فاسداً يسفك الدماء!

لهذا جاء التأكيد في (الكتاب) على مضمون الحاكمية لا على شكل الحكم، كما في قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ*أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:49،50). وجاء البيان فيه عن واجبات الحاكم وصفاته لا اسمه ولقبه، كما في قوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج:41). هكذا خلا القرآن العظيم من ذكر (الخلافة): لفظاً ومعنى. وأما (الخليفة) فورد، ولكن بالمعنى الموضوعي اللغوي لا بالمعنى السياسي الاصطلاحي.

لقب ( الخليفة ) في تاريخ دولة الإسلام

لُقِّب أول حاكم في الإسلام أبو بكر الصديق رضي الله عنه بلقب (خليفة رسول الله). بمعنى أنه الرجل الذي خلف النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو خليفته. واللفظ مأخوذ من أقرب لفظ لغوي يمثل من يحل محل النبي. وليس من لفظ شرعي منصوص عليه؛ فليس لهم أن يتقدموا عليه أو يتأخروا عنه. ومن الأدلة على ذلك أن عمر رضي الله عنه كان لقبه الرسمي لقباً آخر هو (أمير المؤمنين). وهو لقب سياسي غير ملزم شرعاً، كان يمكن أن يختاروا غيره من الألقاب المناسبة للتعبير عن منصبه. ولا بأس أن يطلق عليه لقب (الخليفة أو خليفة المسلمين) كلفظ لغوي مناسب للحال. وإنما كلامنا في إيجابه حصراً.

وفي كيفية تلقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بـ(أمير المؤمنين) شاهد يضاف إلى ما أسلفت. روى الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح (ومثل هذا يعتضد به في التاريخ ما لم يتعارض مع الشرع ولا ما هو أرجح منه) عن الشفاء بنت عبد الله أن لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم قدما المدينة فأتيا المسجد فوجدا عمرو بن العاص فقالا: يا ابن العاص استأذن لنا على أمير المؤمنين. فقال: أنتما والله أصبتما اسمه فهو الأمير ونحن المؤمنون. فدخل عمرو على عمر فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ما هذا؟ فقال: أنت الأمير ونحن المؤمنون. فجرى الكتاب من يومئذ. والروايات في هذا كثيرة متضافرة. ولو كان النبي e علّم الصحابة أن الحاكم الذي يخلفه يجب أن يسمى (خليفة)، أو فهموا عنه هذا الأمر، ما تحيروا في ذلك، وما عدلوا عن هذا اللقب إلى سواه.

وكان جميع حكام المسلمين على مدى (13) قرناً يلقبون بلقب (الخليفة) مع أنهم كانوا ملوكاً على قواعد (الخلافتية). وهذا يدل على أن المسلمين منذ عهد النبوة لم يكونوا يفرقون بين معنى لفظ (الملك) ومعنى لفظ (الخليفة)؛ فالخليفة ملك: أي يملك الأمر، والله سماه (ولي الأمر) فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59). كما أنه خليفة: أي يخلف غيره في منصب الملك.

الخلاصة

لا يعني الإسلام شكل الحكم أو اسمه إنما حقيقته ومضمونه، وهو الحكم بالشرع بما فيه ركناه العظيمان: العدل والشورى. ثم أطلقْ عليه – بعد ذلك – ما شئت من أسماء: خلافة، مُلك، رئاسة، إمارة. وليكن شكله وزارياً أو رئاسياً أو وسطاً بين هذا وذاك. كل هذه وغيرها تفاصيل وكَلها الله تعالى إلى البشر، وليس لأحد أن يجبر أحداً على اتباع اسم أو شكل باسم الشرع. والحكم من جنس السياسة، والسياسة داخلة في باب (العاديات) لا باب (العبادات)؛ والأصل في (العاديات) الجواز ما لم يرد دليل بالمنع. وقد استمر الحكم الإسلامي ثلاثة عشر قرناً – كما أسلفت – وكان يسمى (خلافة) مع أن مدة حكمه تكاد تكون كلها ملكاً، حسب رأي الخلافتية، ويسمى ملوكه خلفاء. فقد بدأ تداول الحكم بين الأقارب منذ عهد علي بن أبي طالب حتى آخر خليفة أو سلطان. بمن فيهم عمر بن عبد العزيز وصلاح الدين الأيوبي ومحمد الثاني بن مراد الثاني الملقب بـ(الفاتح).

2022/6/7

 

 

اظهر المزيد

‫12 تعليقات

  1. الأسم هوه كلمه يلقب بها شخص او شيء لتميزه عن غيره اي انه ليس ذو اهميه بالغه

    و الخلافه اطلقت لترمز إلى أن ابو بكر (رض) خليفه الرسول (ص) اي الذي جاء بعده لنفس المنهج او الطريق اي انه ليس لقب يدل على ملك وغيره
    ومثلاً على ذالك فأن محمد بن سلمان خليفه سلمان هو خليفه لملك ابوه (مَلك مُلك ابوه بعده)
    ليس علينا الوقوف على الأسماء لان الأعمال اهم .

    جزاك الله خير يا شيخنا على هذا التوضيح سدد الله قلمك يا خير المجددين

  2. جزاك الله خيرا دكتور طه ع هذه المقالة الجميله التي تحتوي ع العديد من المعاني الكبيره ….
    حقا ان الخلافه اصطلاح بشري لا تنزيل الهي
    انها حتى ليس لها صله بكتاب الله وانها كلمه صنعت من عقول جامده لا فكر لها …..
    وانهي كلامي بالشكر والتقدير والاحترام لدكتور طه الدليمي ولجميع اخوتنا أهل التيار السني 🤝✨

  3. جزاك الله خيرا على هذا المقاله الجميله المليئة بالكلام الجميل والأفكار الكبيره وشكرا لك على توضيح هذه المفاهيم الصحيحه. إن (الخلافه)اصطلاح بشري واليس التنزيل شرعي في القرآن الكريم. وشكرا لك ولجهودك
    على كتابه المقاله الجميله تحياتي لك ولأهل التيار السني 👏🌹

  4. جزيت دكتور على هذه الألتفاته الرائعه 👍🏻✨
    الكثير من الناس عن هذا الموضوع ولايعلمون مفهوم (الخلاقه) الصحيح وإنما يصدقون كل ما هبَ ودب، ويفهمون مصطلح (الخلافه) على انه فرض السيطره على الاشخاص واخضاعهم لما يشائون وكما ذكرتَ حضرتك ان اهم شي في (الحكم والخلافه)
    هما: العدل و الشورى ولكن قليل جدا من حكام او رئساء اليوم من طبقوا هذين الامرين بال الشرطين.

  5. جُزيت خيرا شيخنا التفاته رائعه لبيان مفهوم يوهم به من هو من أصحاب العقول الركه بأنه اصطلاح شرعي مبني على اساس التملك شرعا…. بينما هي اصطلاح معنوي بشري بمعنى التعاقب حيث جيل يخلف من بعده جيل اخر لذا لا وجود لنص شرعي يحدد ماهو نضام الخلافه بنقاط مفصله تعطي صوره مبينه له من قبل من نصب نفسه ناطقا رسميا عن الله عز وجل
    بمعنى اخر ان الخلافه هو يحل محل اخر كما فعل الصحابي ابا بكر الصديق رضي الله عنه حينما لقب خليفه رسول الله…
    🦋 🌹🌹

  6. بارك الله فيك دكتور على هذا المقال الرائع.
    الخلافه كما ذكرت حضرتك مصطلح لغوي معنوي ولم تذكر كنص شرعي في القرآن الكريم بينما الكثير من الناس يأخذون هذا المصطلح بشكل جدي ومبالغ يستخدموه لحكم الناس وفرض آرائهم.
    بالنهايه من واجبنا كأصحاب مشرع تصحيح هذا المفهوم الخاطئ لدى الناس وغيرها الكثير من المفاهيم.
    بوركت جهودك د. وجزاك الله خير الجزاء.

  7. الخلاصة هي ما ذكرت شيخنا .. فيها العسل المُصفى وعلى كل ( الخلافتية ) أن كان لهم عقل يرجح او عين تُبصر فالخلاصة في هذا المقال تكفي اللبيب
    جزاك الله خير شيخنا الكريم

  8. جزاك الله خيرا شيخنا الفاضل أدلة واضحة من القرآن الكريم على بيان مفهوم الخلافة والملك الخلافة مصطلح لغوي والملك مصطلح شرعي أهل السنة بحاجه لهذه الثقافة حتى تصل إلى هدفها الحقيقي عن طريق القرآن الكريم وسنة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾

  9. حين ننظر إلى مسألة انتقال الحكم لا نجد إلا خطوطا عامة وهذا هو الطبيعي الذي يرفضه الخلافتية الذين غيّب وعيهم وفهمهم الجمود الفكري عن حقيقة أن الدول والمجتمعات تتطور ولا تصنع في قوالب جاهزة

  10. زادك الله علما وهدا على هذا التصحيح والتعديل بعد الأعوجاج، دام سنين عددا،
    لقد جلبت لنا هذه المفاهيم الويلات وأسقطت لنادول وضاع فيها الكثير…..

  11. إذن كل إنسان يعمل بما أمر ألله ويسير وفق منهاج الربانية فهوا خليفة الله في الأرض
    جزاك الله خيرا شيخنا المجدد لهذا الاستنتاج القيم عن موضوع (الخلافة) وما خلفه الزائغين واسائتهم إلى الدين.

  12. موضوع خطير راح ضحيته كثير من دماء المسلمين من اجل مصطلح خلافة والخلافة الراشدة بسبب السوابق الذهنية وحديث خلافة على منهاج النبوة تحليل رائع كافي و وافي جزاك الله خير وزادك علما

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى