مقالاتمقالات أخرى

العصر الذهبي للدولة الأموية

اعتماد الانجازات الاجتماعية، لا السير الشخصية في التقييم التاريخي (4)

أ. العنود الهلالي

“كان من نتيجة استقرار الدولة في عهده أن زادت ماليتها وتكدست خزائنها بالأموال، وأعطى رواتب لذوي العاهات من العميان والمجذومين وغيرهما، ومنح كل مُقعد خادمًا، وكل ضرير قائدًا. وأهتم اهتماماً خاصاً بحملة القرآن فخصص لهم الرواتب وقضى عنهم ديونهم”.

لن يتبادر إلى ذهنك عند قراءة هذا الوصف إلا اسم واحد اعتاد الناس سماعه عند ذكر العدل والعطاء مع ديباجة مطوّلة من الثناء والمديح الذي لا يقصد به إلا الذم لغيره من خلفاء الدولة الأموية وما ذلك إلا بسبب الانحيازية العتيقة التي أورثتها لنا كتب التاريخ فليس في بني أمية عادلٌ راشد إلا عمر بن عبد العزيز!

هذه الانحيازية هي نتيجة لانعدام الموضوعيَّة التاريخية التي تقتضي تركَ التحيُّز والتحزُّب لفئةٍ أو مذهبٍ أو جماعة، وتفرض النظر المتوازن والمحاكمة العادلة للمواقف والأشخاص. وقد ذكرت في عدة مقالات سابقة بعض الضوابط التأصيلية في قراءة التاريخ وكتابته التي بينها الدكتور طه الدليمي في كتابه “هكذا نقرأ التاريخ وهكذا نكتبه” ونستكمل في هذا المقال تطبيقها على خامس خلفاء الدولة الأموية أبو العباس الوليد بن عبد الملك بن مروان، إضافة إلى ضابطٍ آخر مهم وهو: قراءة ما بين السطور.

الوليد بن عبد الملك رحمه الله

بويع الوليد بن عبد الملك خليفة بعد وفاة والده الذي أرسى أركان الدولة وذلل كل المصاعب وترك دولة مستقرة متحدة. وكان الوليد خير من استلم هذه الدولة، وأعظم من رعى هذا التراث ونمّاه واهتدى بسيرة والده وعمل بالتوجيهات التي أوصاه بها.

أولا: اعتماد الانجازات الاجتماعية، لا السير الشخصية في تقييم عهده

بسط المسلمون في خلافة الوليد بن عبد الملك أيديهم على أكبر بقعة من العالم القديم المعروف آنذاك، واتسعت دولتهم على نحو لم تشهده من قبل، وبرز في هذا العهد الميمون عدد من القادة الأكفاء الذين اتسموا بالقدرة العسكرية والمهارة الحربية وعُرفوا بالشجاعة والتضحية، فقاموا بعبء هذه الفتوحات وأعادوا للأذهان ذكرى الفتوحات التي تمت في عهد الصدر الأول وما تلاه من فترات زاهرة على عهد أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان وساعده الأيمن الحجاج الفاتح. وفي هذا يقول الذهبي في ترجمته للوليد: “أقام الجهاد في أيامه وفتحت فيها الفتوحات العظيمة كأيام عمر بن الخطاب”.

وإلى جانب سياسته الخارجية الناجحة نجد سياسته الداخلية تكاد تكون علامة فارقة في تاريخ الدولة الأموية. فعند النظر إلى الجانب الاجتماعي نجد أن الوليد أولى هذا الجانب اهتماماً ورعاية كبيرة؛ فكان يعطي الناس ويجزل لهم في العطاء خصوصاً المرضى فقد اعطى كل ضرير خادماً يقوم على خدمته، ووفر للمجذومين الحجر الصحي وخصص لهم عطاءً يغنيهم عن سؤال الناس. واهتم ببناء المستشفيات وأقام دورا للعجزة والمسنين. وكان يزور الأسواق بنفسه، ويراقب ارتفاع الأسعار وهبوطها، ويشجع الصناع والحرفيين، وكان يصرف رواتب لجرحى الحرب، ويعد الوليد أول من انشأ داراً للضيافة[1].

أما في الجانب العمراني: فقد تميز عهده بإنجازات باهرة في مجال العمران والجوانب الحضارية. وقد أولى المدينة المنورة عناية خاصة فأمر بتوسعة المسجد النبوي الشريف، وفي دمشق عاصمة الخلافة قام بإنشاء مسجد دمشق الكبير (الجامع الأموي) ويعزى إليه فكرة عمل المحاريب المجوفة في المساجد، وإقامة المآذن، كما أرسل إلى عامله على مصر البارع المحنك قرة بن شريك العبسي بتجديد جامع عمرو بن العاص. وأصلح كذلك الطرق التي تربط بين أجزاء دولته المترامية الأطراف.

ثانيا: الانحيازية والانتقائية في تطبيق الضوابط العلمية

كل هذه الإنجازات التي سجلها التاريخ ويشهد لها الواقع يُغض عنها الطرف ولا تذكر إلا قليلا نتيجة للتقديس والتدنيس المسبق الذي تجذر في الثقافة السنية تجاه خلفاء الدولة الأموية.

بينما لو نظرنا إلى ما سطره المؤرخون في سيرة الخليفة عمر بن عبد العزيز سنجد الكثير من التبجيل والثناء والإشادة بعدله وورعه وتقواه؛ وما نتج عن هذا العدل من إصلاحات فاقت إصلاحات وانجازات كل خلفاء الدولة الأموية. وما من داعم لهذا الطرح إلا المرويات التاريخية التي تعتبر خليطاً غير نقي من الأخبار والحكايات التي ليس لها غاية إلا تقديس بعض الشخصيات والانتقاص من أخرى.

ثالثا: قراءة ما بين السطور

حتى نتمكن من قراءة النص التاريخي قراءة أقرب إلى الحقيقة نحتاج إلى تقنيات تستنطق النص – أو ربما تسكته – وتستخرج خباياه التي لا تفصح عنها حروفه المسطورة. ومن هذه التقنيات (قراءة ما بين السطور) وليس السطور نفسها[2].

لذا وجب أن نسأل: لماذا يتم التركيز على خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله القصيرة جدا والتي تعد الأقل انجازا مقارنة بإنجازات خلفاء آخرين من بني أمية؛ فخلافة عمر بن عبد العزيز تكاد تخلو من الفتوحات والنهضة العمرانية، أما الإصلاحات الاجتماعية في عهده فلا تختلف كثيرا عن إصلاحات غيره من الخلفاء، بل أن الاصلاحات الاجتماعية التي تمت في عهد الوليد بن عبد الملك أكثر بكثير مما تم في عهد عمر بن عبد العزيز. حتى أن بعض انجازات الوليد تم نسبتها لعمر بن عبد العزيز فتجد من يقول: (وفي فترة ولايته – أي ولايته على المدينة في عهد الوليد – نعمتْ المدينة بالهدوء والاستقرار، وشعر الناس بالأمن والعدل، وقام بتجديد المسجد النبوي وتحسين عمارته) بينما الثابت تاريخيا أن الذي أمر بتوسعة المسجد النبوي الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك الذي عهد بهذه المهمة إلى ابن عمه وواليه على المدينة عمر بن عبد العزيز، فبعث إليه بالأموال والرخام والفسيفساء وبثمانين صانعا من الروم والقبط من أهل الشام.

إن هذا التفخيم لعهد عمر بن عبد العزيز والمبالغة في وصفه بالعدل والتقوى ماهي إلا دسيسة شعوبية ليعتقد الناس أنه ليس في دولة بني أمية خليفة راشد سواه. فالتقط الطعم كثير من المؤرخين وخاصة المتأخرين منهم؛ فبالغوا في الثناء وزادوا في التمجيد حتى اضطروا إلى نسبة إنجازات غيره إليه للخروج بنتائج تؤيد تصوُّراتهم تجاه الحقبة الأموية.

 

2022/10/3

_______________________________________

[1]– ابراهيم زعرور وعلي أحمد، تاريخ العصر الأموي السياسي والحضاري.

* دار الضيافة: دار يقيم بها المرضى الفقراء من الرجال والنساء لمداواتِهم إلى حين برئِهم وشفائهم.

[2]– د. طه حامد الدليمي، هكذا نقرأ التاريخ وهكذا نكتبه.

اظهر المزيد

‫10 تعليقات

  1. بارك الله فيك اختِ العنود التفاته تاريخية ممتازه✨
    في التقييم التاريخي اعتماد الانجازات الاجتماعية اهم من السير الشخصية للشخصيات التاريخية، الناس تنظر للأنجازات لالصفات الشخصية التاريخية وتحكم على الشخصية ع هذا الاساس ان كانت شخصية ناجحة ام العكس

  2. ولازال الفكر السني يثبت لنا يوما بعد يوم أن قراءته للتاريخ هي الأصوب بين كل هذا الركام.
    شكرا لك على هذا المقال المسدد استاذة عنود ورحم الله خلفاء بني أمية الدولة العظيمة التي مهدت للحضارة التي سطع نورها بعد ذلك في بغداد والاندلس

  3. رحم الله الوليد بن عبدالملك ووالده وعن بني امية اجمعين
    انجازات الفرع المرواني لا تقل أهمية عن انجازات الفرع السفياني في الدولة الأموية. فمعاوية رضي الله عنه أسس هذه الدولة العظيمة وجمع كلمة المسلمين بعد التمزق، ومروان وعبدالملك رحمهما الله حافظوا على هذه الدولة وحموا بيضة الإسلام وجاهدوا في الله حق جهاده. وانجبوا نجباء صنعوا حضارة عظيمة ومهدوا للعصر الذهبي في العصر العباسي

  4. بارك الله فيكِ اختنا العنود وجزاك الله خير الجزاء على هذه المقاله ذات الالتفاته الراقيه 🌹🌷

  5. بارك الله في جهودكِ

    الدولة الاموية صاحبة الانجازات العظيمة حطمت رأس فارس في عهد الخليفة الاموي معاوية ابن ابي سفيان (رض)

    رحم الله بني أمية جميعاً

  6. تشويه صورة الدولة الأموية من قبل الفرس ومواليهم حسداً وكرهاً من عند أنفسهم سبب هذه الكراهية لأنهم سادوا الأرض في زمانهم على نهج ومسار الدولة الراشدة دولة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وماكان استقرار ورفاهية عمر عبد العزيز في حكمه إلا بفضل القائد الأموي عبدالمالك بن مروان وسيف الحجاج .

  7. قبل أيام كنا نشاهد مسلسل الحجاج رحمه الله
    يوجد فيها طعن وتشويه لكن مما شاهدناه
    كره عمر بن عبدالعزيز لحجاج رحمه الله
    ولم يحبه بحجة أنه ظالم وطاغية
    أما الخلفية عبد الملك رحمه الله لم يهبه لما يقوله عمر بحق الحجاج ولقبه بسيف الأمويين المشرق
    وهذا ما رفع عمر بن عبدالعزيز وجعله القدوة المميزة بين الأمويين وهذا ما سعى إليه الفرس في نشر هذه الثقافه السوادء بيننا وتسقيط الدولة الأموية إلا عمر بن عبدالعزيز!! وللأسف هذا ما يعاني منه تاريخنا لوثة الفارسية غطت إنجازات حضارية لدولة الأسلام الأموية
    بوركتي أستاذة عنود لما تقدميه من مقالات تاريخية

  8. مقالة رائعة وضعت قواعد لمن يقرء التاريخ فكلنا وقع في فخ الاعلام والثقافة الشعوبية دون النضر والتمحيص في حقائق التاريخ وخاصة التاريخ الاموي ،
    واعجبتني مقولتك الحجاج الفاتح👍
    جزاك الله خيرا 🌾🌾🌾

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى