ديوان القادسيةقصص وخواطرمقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

قفص إيفين مقتطف من الفصل (18) في رواية (هكذا تكلم جنوبشت)

بمناسبة حرق معتقل (إيفين) بطهران يوم أمس[1]

د.طه حامد الدليمي

( 5 )

 

كانت (مشهد) في أقصى شمال شرقي إيران وِجهتي الأولى ضارباً شيطانين بحجر: أتعرّف على هذه المدينة الدينية الشهيرة، وأزور معتقل (بست سنگ) للأسرى العراقيين فيها. لكن من أي نقطة أبدأ؟

حركت الغلالة أمام عينَي من مكان محدد فيها كما علمني (جنوبشت)، فكأن خريطة طبعت في خاطري. قررت البدء بجبل (كوسنگي) المطل على الضريح الذي تشتهر به المدينة. وكوسنگي بالفارسي تعني الجبل الحجري.

وأنا أطل من قمة الجبل بعد غروب الشمس بقليل وقد أخذ الليل يتسلل بهدوء إلى المكان أرى مدينة خضراء تحيط بمعبد أبيض. المعبد الأبيض في الوسط وكل شيء من حوله أخضر، والشلالات تتلبس الجبل من قمته إلى أسفل السفح.. كل ذلك جعلني أقول بعفوية: الله! ما أجمل هذا! رأيت في قمة الجبل مقبرة لقتلى الحرب، كان الإيقاعَ الوحيدَ الذي بدا نَشازاً في ذلك اللحن. الظاهر أن القبر والعزاء والمظلومية ناشبة بالقوم أينما كانوا! صرفت نظري عن المقبرة وأخذت بالنزول. المياه تتحدر إلى أسفل عبر شلالات متواصلة صنّعت بطريقة تجعل كل شلال مختلفاً عن سابقه ولاحقه! المياه تتدفق بقوة، صوت الخرير كثيراً ما يعزل أذنيك عما حولهما ويَقصر انتباهك على ما أنت فيه. أنت في حاجة إلى حذر شديد كي لا تنزلق، وفي المجرى ألقيَتْ صخور زيادةً في التحوط.

واصلت النزول.. الحدائق ذات الشجر المتنوع في شكله وحجمه تحيط بك من كل جانب، تتخللها بحيرات ونافورة صناعية كبيرة ونافورات صغيرة وأوراد وجِلسات استراحة.

واصلت النزول حتى خرجت من الحديقة وبدأ الطريق يقترب من نهايته. على الرصيف كانت ألعاب يدوية للأطفال. وثمت (كشك) قريب لشرب العصائر، كان أطيبها عصير (آب طالبي) أي عصير البطيخ (أو الشمام). وكنت كلما أردت شيئاً أزحت الغلالة فاندمجت في المحيط.

كان الليل قد ربض بكلكله على المكان حين هبطت المدينة.

أثارني معبدها الشهير بضخامته وزخارفه وتهاويله.

الصور المتنافرة لوجوه الناس تنبئ أنهم من بلاد شتى. النساء يلبسن أشكالاً من الحجاب مختلفةً حد التنافر، من (الچادور) الذي يلف المرأة من أعلاها حتى أسفلها، إلى شيء ليس له من الحجاب سوى الاسم، وهو الغالب. وذوو العمائم والطرابيش لا يختلفون كثيراً عن أمثالهم في أضرحتنا.

الأشياء نفسها في مراقدنا تدور في مراقدهم مع اختلافات بسيطة.

عجبت لنساء يلبسن (الچادور) بالمقلوب، كثيراً ما يقفهن رجال من مختلف الأعمار، يتبادلون كلمات وإشارات وضحكات. ثم بعد وقفة أو بضع وقفات يتم الاتفاق ويخرجون معاً من الصحن. عرفت أن هذا أحد الأساليب التي تعلن بها المرأة عن أنها جاهزة لـ(المتعة) أو (الساغيه) الكلمةِ التي طرقت سمعي كثيراً وأنا أطوف بالمكان.

أشياء وأشياء رأيتها، وأشياء لم أرها.

تلبثت هناك حتى الصباح. تذكرت أنني قدمت في مَهمة غير ما أنا فيه؛ قلت: “هذا يكفي”. ومضيت أريد معتقل (بست سنگ).. لكن ليس قبل أن أزور ولو سريعاً بعض المعالم الدينية والسياحية والأسواق. وهكذا تجولت في شارع خسروي ووقفت عند مرقد خواجه ربيع، وأبي السلط الهروي، وقدمگاه (أي موضع قدم الإمام الرضا) وبازار رضا وبازار ترقبة وبازار جنت، وشلالات (أخلمند) ومنتزه (بارك ملت). ولم أغادر المدينة حتى تعنيت مزار الفردوسي الذي وقفت عنده وخاطبته قائلاً: “أنت الذي تقول: تفٌّ تفٌّ لك أيها الفلك الدوار؛ العرب الحفاة العراة آكلو الضباب يدوسون أرض إيران الجميلة! أين مصيرك الآن أيها الحاقد الجهول!”. وتففت عليه مرتين، ومضيت.

 

( 6 )

  كان الوقت ضحىً عندما استوقفني سور عالٍ تطل برؤوسها من ورائه أشجار الحوَر. باب كبير مغلق في أعلاه قطعة تعريفية بالسجن، وبين يديه أفراد من العسكر ينتشرون على غير نظام. تسللت بخفة إلى الداخل. بهو واسع فيه جمع كبير لا تحتاج إلى خبرة لتعرف من زيهم أنهم أسرى. بعضهم شبه عراة! وبعضهم يرتدي ثياباً من (الجنفاص) الذي تصنع منه أكياس المؤن! سحناتهم تنطق بعراقيتهم. أقبل جنود بقزان كبير فيه جتٌّ مطبوخ كأنه أنزل من النار قبل ساعة.

“علف البقر يا مجرمون!”. وكأنهم ينظرون إليّ قائلين: “أنت للآن ما رأيت شيئاً”.

تفرست في الوجوه. واضح أنهم منهكون وجائعون. لفت انتباهي أحدهم له غمازتان أخذتا ترتجفان، وشارب طفق يضطرب. يتحرك إلى الأمام ثم يتراجع. “ما لهذا المسكين!”. ثم لم ينشب حتى ركض بسرعة وهجم على القزان! مد يده ليغرف شيئاً مما فيه فلحقه جنديان رفساه في وقت واحد على مقعدته فحولاه في لحظة إلى سابوح. غط في المرق ثم خرج وقد امتلأت ثيابه وجيوبه بالجت المطبوخ. كرّ راجعاً ليتخلص من سياط الجنود فتلقاه الأسرى يتلقفون ما على ثيابه وجسده من بقايا الجت ويلتهمونها بشغف ثم يلحسون أيديهم وأصابعهم!

كنت في حاجة إلى أن أتلاعب بخط الزمن إلى الوراء تارة وإلى الأمام تارة. لم يعلمني (جنوبشت) سوى الرجوع إلى الوراء.. لقد حرّم عليّ النظر إلى المستقبل.. ماذا أفعل؟ هل أُخرج الخوصة؟ ما الذي سيقوله عني وأنا لما أبدأ رِحلتي بعد؟

عدت إلى ما بعد ظهر أمس لأرى وجبة الغداء.. وانتظرت إلى ما بعد الغروب بساعة لأرى مجموعة من العسكر يحملون قزاناً كبيراً. اقتربت من حافته.. أها، فيه رز. تفرست فيه، وهالني أنه مخلوط بعيدان وقش. قلّبه العسكري بمِغرفة فإذا حصى يظهر ويختفي مع كل تقليبة! قبل أن ينقضي عجبي بدأ المشهد يتنوع أكثر، ويتحدى قابليتي على الصمود ضد الغثيان. “حشرات! نعم حشرات..!”. شعرت كأن القزان يسخر مني ويقول لي بهدوء: “ما الذي يزعجك؟ أليست الحشرات في النهاية بروتينات؟ والبروتينات مادة أساسية للجسم؟”!

ألقى العسكري المِغرفة وتناول قدحاً زجاجياً كان في طرف من القزان، وصار صف من الأسرى يتقدمون وفي يد كل واحد منهم إناء. والعسكري يغرف بالقدح غُرفة واحدة لا تقبل التثنية. وكل شخص ونصيبه: قد يأتيه الكأس ملآنَ، وقد يأتيه منصَّفاً، وبين كل عدة غرفات تحشر كتلة من الرز الملتصق ببعضه في مقدمة الكأس فلا يدخل بعدها شيء.

أحد الأسرى أخذ حصته وانزوى يلوك وهو يبكي!

حركت أحد الزرين اللذين في الرداء فأتاني صوت كأنه خارج من مذياع.. “هذا أسير اسمه حسين عبد. مبتلى بمعدة غير طبيعية. حصلت مشكلة بينه وبين عريف الفصيل أيام كان في العراق، ولم يحُلها سوى آمر (الوحدة) الذي أمر أن تضاعف حصته من الطعام خمس مرات زيادة على حصة بقية الجنود. وهو اليوم على ما تراه”!

ونظرت إلى الماء فإذا هو متغير اللون! لا يخلو من القش والحصى.

يا إلهي! إنني أرى ديدان بيضاء تشبه يرقات الذباب تعلو وتهبط كأنها في احتفال!! كان الأسرى ينفخون في الآنية ثم يشربون ما فيها.

لم يخل المنظر المدهش من شخص يضع يده على بطنه ويتقيأ! وتحرك زر المذياع: “هل قرأت قائمة الممنوعات؟”. وقبل أن أجيب أخذ يسرد على أذني بعض مكوناتها الغريبة: النوم حتى نهاية الدوام. القلم، الورق، الكتب. المذياع. الخواتم. الصور. الرسائل. الكلام مع الحراس. الاحتفال بالأيام الوطنية والقومية والدينية الخاصة.

قطعت على الصوت سرده المتواصل وسألت: والاحتفال بعيد الفطر والأضحى؟

هما يومان مهملان في إيران، وقد يؤجلان يوماً أو يومين. ولا تعطل الدوائر سوى ليوم واحد. ونادراً ما يهنىء إيراني إيرانياً فيهما. فإذا ذكّرهم أسير قالوا له: “هذا عيد كسافة عيد أرَب”.

أما لهم عيد يحتفلون به؟

بلى.. يوم نوروز 21 آذار. يتلقونه قبل مجيئه باثني عشر يوماً بالنيران على رؤوس الجبال وفي السفوح والطرقات والرقص والموسيقى والملابس الزاهية والزيارات والاختلاط وعقود المتعة وأنواع الشذوذ والليالي الحمراء. وتتحول إيران من أقصاها إلى أقصاها مسرحاً للاحتفال.

وانقطع الصوت.

وسألت: وأين بقية الممنوعات؟ لم يأتني رد! قلت: لا بأس سأراها بنفسي!

أخيراً، وبعد أن يئست من البحث.. قررت الخروج من السجن. ما تركت وجهاً إلا وتفرسته، ولا أذناً إلا وهمست فيها: “رحيم سلمان، رحيم سلمان”. أزيح الغلالة عن وجهي للحظات وأسأل: “هل تعرف أسيراً اسمه رحيم سلمان؟”. بعضهم يجفل، وبعضهم يثبت، ومنهم من يقول مندهشاً: “من أنت؟”. واحد من النزلاء صرخ: “جاسوس! جاسوس!”. أعيد الغلالة إلى موضعها وأختفي في الحال. وتتعدد ردود الأفعال. المهم أن أحرك الوسط بهذا الاسم. وأتأكد تماماً من سلامة البحث.

وأنا أبتعد عن السور الرعيب الذي يندفن خلفه آلاف من الأحياء، استعرضت في خاطري أسماء السجون: برندك، آراك مخصوص، الداودية، كركان، منجيل، الحشمتية، ساري… وكان آخر ما مر في الشريط معتقلَ إيفين بطهران.

قلت: “إليك يا إيفين”.

 

( 7 )

لا يختلف سجن (إيفين) في مظهره الخارجي كثيراً عن سجن (بست سنگ)، رفعت بصري إلى القطعة التعريفية في أعلى الباب الكبير الذي يؤدي إليه، كانت زرقاء اللون وقرأت بخط عريض: (بازداشتگاه اوين) أي معتقل إوين. وتساءلت: “وما إوين؟”. تأملتها قليلاً فلمحت تحتها تعريفاً بالحروف الإنجليزية (Evin House Of Detention) فتذكرت أن القوم يقلبون الفاء واواً والواو فاء.

جنود بملابس عسكرية مختلفة الأشكال أمام الباب الخارجي بعضهم يحملون بنادق. بناء قديم بطابقين، إلى يمينك شباكان كبيران يطلان إلى الخارج.. كل شباك من طابق. شجر الحَوَر يشاغل الفضاء في كل مكان! ووادٍ يفصل بين بناية المعتقل الكبيرة وجبلٍ تتناثر عليه البيوت. وإلى يسارك كابينة حراسة تتسع لشخص واحد.

في الداخل قضبان وجدران تتبادل المواقع فيما بينها بالتناوب. في أقفاص تكرر نفسها حتى إذا ما انتهى الشريط تحولت إلى شريط آخر موازٍ وآخر وآخر حتى يكتمل المعسكر. أشخاص يمسكون بالقضبان، وجوه شاحبة يطل اليأس من كل قَسِمَةٍ فيها، ومن خلفهم ترى العنابر مزدحمة بالنزلاء. تقدمت قليلاً فرأيت رجلاً مشبوحاً كالصليب على قضبان شباك وقد لوى رقبته وهو يئن. اقتربت منه، كانت شفاهه ذابلة وعيناه زائغتين ويهمس بصوت خفيض متقطع: “ماء ماء”. ثم يغيب عن الوعي. وحين خطوت قليلاً إلى الداخل وجدت المشهد يتكرر ثلاث أو أربع مرات!

مضيت في تجوالي الكريه حتى شاهدت زنزانة انفرادية مساحتها متر في نصف متر، مربوط فيها كما يربط الحمار أو الكلب رجل كبير السن متهدم الجسد. لا شك في أنه قد جُنَّ! ثوبه ممزق، متلطخ بعَذَرَته التي تنتشر في الزنزانة. فجأة فتح عينيه وضحك ضحكة مخيفة وصاح: “بابا طالب.. طالب”. وبكى، ثم طوّح بيديه وعاد إلى الضحك ثانية! بعد قليل تقدم منه حرسي، يضع منديلاً على أنفه، وفي يده الأخرى جفنة فيها ماء صبه فوق رأسه. أخذ الربيط يرتجف ثم انزوى وعلى وجهه ملامح خوف وذلة لا تخفى!

لم أحتمل حتى حركت الزر وأخفضت الصوت: “مناف عبد اللطيف من الأنبار.. جُنَّ من كثرة العذاب. لا يُسمح لأحد بالاعتناء به، ولا تنظيفه إلا مرة واحدة كل عشرة أيام. يُصب على رأسه الماء البارد صباح مساء. أصيب بعجز القلب، يعطى خمس حبات دواء كل ثلاثة أشهر. على هذه الحال منذ أربع سنين ونصف السنة”!

هذا شاب مكتوف الأيدي إلى الخلف، ملقى به ووجهه إلى الأرض، يضطرب ويفحص برجليه. أحد الأسرى يتقدم منه يريد إعانته. ما هذا! الحارس يسحب مسدسه، يطلق على رأسه النار ويرديه قتيلاً! وظل الشاب على وضعه يضطرب وكأن شيئاً لم يكن. لكن صوتاً اخترق الصمت وسط ذهول المعتقلين: “يحيى العراق.. تسقط إيران”. يصمت قليلاً ثم يهتف بحماس: “يعيش القائد صدام حسين.. يسقط الخميني الدجال”. وصرخ الحارس: “خفه شو سگ كثيف!” وهو يسدد فوهة المسدس نحو فمه ويطلق رصاصتين، يخرس بهما صوت إنسان شريف لا صوت كلب قذر كما وصفه ذلك الحارس القذر.

لم أحتمل مزيداً من المشاهد؛ لا بد أن أتقوى بفاصل ولو قصير، أسترد به نفسيتي التي تحطمت. لكن ليس قبل أن أتفرس الوجوه كلها، وأنفض كل زاوية في المكان.

وتحرشت بي مشاهد عديدة مشابهة لِما ذكرت. حاولت تجاوزها بسرعة، ونجحت. لكن مشهداً أجبرني على التوقف رغم أنه مقرف جداً!

شاب لا يتجاوز الثلاثين من العمر جالس على الأرض يحيط به عدد من الحراس، وصفٌّ طويل من الأسرى يمرون به يبصقون عليه بالتتابع، بعضهم يتظاهر بالبصق عليه وبعضهم يبصق ويمضي، لكن بعضاً منهم يتنخم ويتنخم ثم يلطشها بوجهه كأنها ذرق بطة! البصاق يملأ وجهه، يتناثر على شعره ويسيل على صدره، يتجاوز بطنه إلى الأرض، والشاب لا يملك حولاً ولا قوة، مستسلم كلياً لا يتحرك ولا يعترض. لكن حتى لو حاول أن يفعل شيئاً هل يغني ذلك عنه شيئاً؟

“ما جريمة هذا؟”، وضغطت الزر.

“اسمه معاوية!”.

“طيب وإذا؟”.

“سلامتك”.

“و بس؟!”.

“بس”.

 

( 8 )

عند الباب كانت ترابط بضع حافلات تدور محركاتها، يتقاطر على أبوابها أسرى… صعدت إحداها فانطلقت بنا إلى محطة قطار. إنها نقلة إلى سجن آخر. ودسست نفسي بين الجموع وأخذت أتجول في عربات القطار.

بعد أن قمت بمسح الوجوه جميعاً، عاودت التجوال بهدوء. توقفت عند رجل يتلوى ويصيح دون رحمة من الحراس. لا أحد منهم يسعفه أو يواسيه أو يأبه له. وفتش رفاقُه حتى عثروا من بين الأسرى على طبيب، يدعى رَيسان. فحص د. ريسان المريض، وسأله عدة أسئلة، ثم انفرجت شفتاه عن الحكم.. “أنت مصاب بالتهاب الزائدة الدودية”! لم يكن هناك من مجال لمجاملة. خيّره بين أن يتركه يموت، أو يُجري له عملية جراحية. وتساءل المريض بصوت ضعيف:

– كيف؟!

قهقه الطبيب بمرارة. كان وجهه مزيجاً من الغضب والسخرية والعبوات المتفجرة. رفع وجهه إلى السقف يريد السماء وقال:

– لدي شفرة حلاقة تمكنت من تسريبها!

– افعل ما تشاء.. ليس لديّ خيار.

“عملية جراحية كبرى بشفرة حلاقة! لا، غير معقول (ومسحت كفيّ ببعضهما عدة مرات) أبداً غير معقول”.

وهمس الصوت في أذني: “طيب انتظر وانظر.. لن تخسر شيئاً”.

“ومن أين سيأتي له بالتخدير؟”.

“هاهاها التخدير!”.

ودون توجيه أو تأخير اجتمع خمسة أو ستة أشخاص.

إنهم يعرفون دورهم جيداً.

قيدوا رفيقهم بأيديهم ووضعوه تحت أجسامهم وأمسكوا به كما يمسك بالثور الذي يطرح للذبح. نعم أمسكوا به وكتفوه وأخذ الدكتور ريسان (يذبحه) بـ(المشرط)! وبحلقتُ بعينيّ غير مصدق بهذا الذي يجري أمامي! “يا إلهي! شفرة حلاقة غير معقمة.. بلا تخدير.. وخيوط قذرة وأدوات أُخرى بسيطة! لا اعتراض على حكمك”.

وتمت العملية! ولم يمت المريض، بل تابعته فإذا هو قد تماثل للشفاء، وإن بعد حين!

* *

وصلنا إلى سجن (آراك مخصوص) في مدينة (آراك) جنوب غربي العاصمة طهران. كان أول ما لفح وجهي مشهد أسير على شجرة ممسكاً بجذعها ينادي بصوت مرتفع تغزوه حشرجة مزعجة: “قاق.. قاق.. قاق…”، مقلداً صوت الغراب، وأحد الحراس يصوب نحوه بندقيته، يستمع بارتياح لهذا (اللحن الجميل). وكلما سكت أو توانى حرك بندقيته بانفعال وهدده: ” ادامه شما را بکشند” استمر وإلا قتلتك.

قلت: “كان الله في عونك”. على أن هذا يهون حتى كأنه لا شيء أمام غيره من المشاهد. لم يكن أمامي إلا أن أتركه وأمضي أبحث عن عمي بين العنابر والوجوه.

وكثرت المشاهد. حتى عرض لي شيء صعقت له! لا يمكن أن أتخيله واقعاً في عالم الإنسان ولا الحيوان… ولا الشيطان! مجموعة من الأشخاص واضح أنهم أسرى يقيدون أسيراً بإحكام بحيث انقطعت حركته وكأن أنفاسه كتمت أيضاً، وجندي يدخل سنارة صيد في إحليله، حتى إذا تم المطلوب تركوه بيد الجندي يسحب السنارة بخيط من النايلون! الأسير مستسلم كلياً، لا يملك من حيلة سوى الإسراع متفاخجاً حتى لا يسبقه الخيط، لكن الجندي الملعون في كل مرة يتلتل الخيط فيصرح الأسير ويقفز. وتذكرت يوم جاءني مريض إلى عيادتي وقد علقت بإبهام يده سنارة، فخدرت إصبعه من جذره ووسعت مدخل السنارة شيئاً فشيئاً وهو يختلج حتى سللتها. ليس ما أرى إصبعاً، إنه إحليل!

وطفقت أتحسس الوجوه.. أين عمي رحيم؟

وأسرعت كي لا أطيل المكث في غمرات هذا الكابوس! وبعد أن استفرغت ما لدي من وسع قررت الخروج وأنا أقول: “لا يوجد هنا رحيم ولا راحم. لماذا يا جدتي لم تسميه ظالماً أو جباراً ؟ لربما كنت عثرت عليه من أول لحظة!”.

في الطريق إلى الباب الخارجي رأيت رجلين بلباس عسكري يمشيان أمامي ويتلفتان! وفجأة صوّب الحراس إليهما البنادق مع صيحة قوية: “حرکت نمی کند!” وسرعان ما أمسكوا بهما. أسيران حاولا الهروب متنكرين بتلك الملابس. تلتلوهما خلف سيارة عسكرية تجثم قريباً ثم تناوبوا على اغتصابهما!

وظهر الأسيران!

لأول مرة في حياتي أرى الشعور بالعار مجسماً!!!

الجنود يتضاحكون كالسكارى. وبلمح البصر هجم أحد الضحيتين فتمكن من خطف بندقية نسيها أحد الفعَلة مسندة على عجلة السيارة. صاح الآخر: “اقتلني أولاً”. لكن الجندي أطلق الرصاص فقتل عدداً من الجنود. وبينما كانت عدة بنادق توجه فوهاتها نحوه كان هو قد فرغ من صاحبه، وفي هذه اللحظة رأيته يسقط يضطرب كسعفة وسط ريح عاصف من أثر زخات الرصاص التي نخلت صدره وتوزعت على باقي جسده، وكانت البندقية قد سبقته فهوى إلى جانبها.

قبل أن أبلغ الباب رأيت رجل دين بعمامة بيضاء كبيرة جداً. تقدم نحو أسير كان يقرأ القرآن وإذ وصل إليه رفس المصحف الشريف بقدمه رفسة أطارته في الفضاء! وحين كبّر الأسرى لشناعة الفعل قال لهم المعمم: “الدين الذي أدخلتموه في رؤوسنا بالقوة لنخرجنه من خياشيمكم بالقوة”! وعلق بعض أتباعه: “اذهبوا فاحكوا عما نفعل لن يصدقكم أحد”!

ورددت في سري: “يا رب! اقلبها بهم”. وغادرت سور السجن مسرعاً. كان رأسي يمور كفوهة بركان، وصداع يتصاعد كاللهب. جسمي كأنه مثقل بجراح.. أو خارج تواً من حفلة ضرب بهراوات توتٍ غليظة. اتجهت إلى أحد الكهوف ونمت. نمت يومين متصلين. انتبهت وأنا أتثاءب.. أتحسس بدني وأفرك عيوني، وأتساءل: “أين أنا؟”. وأحسست بالشوق إلى صديقي (جِنوبشت). لا أدري أهو شوق؟ أم حاجة؟ أم رغبة لتبديد أشباح الغربة؟ أخرجت خوصة السعف من جيبي.. لكنني أرجعتها.. وواصلت المسير باتجاه الشِّمال.

بعد خطوات قليلة أيقنت أنني غير قادر على متابعة هذا المسلسل الكريه. ماذا أفعل ولم أعثر حتى اللحظة على عمي رحيم؟ أأمسح سجون إيران كلها؟ هذا على تحملي أشبه بالمستحيل. وقد أُجنُّ قبل أن أصل خط النهاية. أم أذهب للاستمتاع بزيارة أحد المنتجعات السياحية مثلاً؟ وهل بقي في داخلي، مع كل ما رأيت وعانيت، مساحة تصلح لزرع متعة؟ إنني في حاجة إلى فاصل حقيقي.

انتبذت صخرة تغوص في عشب بري على شفة وادٍ لا أدري في أي منتبذ من الأرض كان (هناك)! تركت رجليّ تتدليان من فوق الصخرة باتجاه الوادي السحيق القرار. وجلست أتأمل جمال المكان.. شجر كثيف ينسل من بينه خيط من ماء يلوح من بعيد وهو يتلوى متحدراً من قمة جبل، ويلتمع على ضوء الشمس، وأفكر.. ماذا أفعل على وجه التحديد؟

نعم أنا في حاجة إلى فاصل حقيقي. أرمم به جميع محتوياتي الجُوانية. أستعيد نفسيتي التي بدأت مكوناتها بالتداعي شيئاً فشيئاً. وأسترجع سلامة عقلي الذي بتُّ أخشى على مِسطرته، وأضبط (نظمية) قلبي الذي أمسى يراوح إلى إيقاع آخر. بالمختصر.. لكي أعاود الرحلة دون خسائر فادحة.. عليّ – ضرورةً – أن أجدد كينونتي وأشحن طاقتي من جديد.

غيرت زاوية المسار تسعين درجة باتجاه الغرب وبدأت مسيرة العودة إلى (هناك)، وفي فمي لحن أغنية ريفية.. يغيب ويظهر على غير نظام.

هلي يا مركبِ البـِ اْلْبحرْ ما مالْ

هْديبْ وْ ﮔـلِّطولهْ الحِمِلْ ما مالْ

ﮔِـصاْ بينا الزِّمانِ بْكثُرْ ما مالْ

وْ خَلّانا دَحايسْ بالاجْنابْ

* * *

 

_________________________________________

[1] https://twitter.com/HamedMusher/status/1581353892679274496

اظهر المزيد

‫8 تعليقات

  1. نسعد ابتهاجا بالنار التي تأكل دولتهم اليوم ونغص شجناً في الآن نفسه عند تذكر أسرى العراق الذي ذاقوا الظلم مضاعفا سنين عددا 💔
    يا الله مجرد التخيل يجعل المرء يحس بحرارة الألم في دمه.. فكيف صبروا واحتملوا ذاك العذاب..
    اللهم اجعل جنة الفردوس جزاء كل آه خرجت من قلوبهم الصابرة

  2. وأنا إقرأ المقال اتجنب قرآءة بعض السطور لما فيها من مشاهد قاسية ومؤلمة حتى الحيوانات لم تفعل هذه الأفعال لأني قرأتها سابقا في{{ رواية جنوبشت }}
    واقول كل هذا ولم يسلم العراقيين من سيطرة الفرس
    وخداعهم الفكري وحيلهم المستمرة وإلى يومنا هذا تستمر جرائمهم المروعه بحق أهل السُنة
    على يد الشيعة وأمهم إيران
    وأقول…أللهم عليك بايران ونظامها الدموي الحاقد
    أللهم عليك بظالمين أعداء الإنسانية والأمة السُنية العربية
    وفقك الله شيخنا الفاضل لما تقدمه من حقائق تاريخية
    عن الأسرى العراقيين وما ذاقوه من ويلات في سجون إيران الإرهابية

  3. لا اله الا الله كيف تحملوا هذا العذاب
    يا الله رحمتك بعبادك
    ان كان هذا الذي قرأت هو ما حدث داخل تلك المعتقلات المجوسية فوالله ان الانسان منا يشعر بالخجل حين يذكر بينه وبين نفسه آلامه وهمومه الصغيرة ويقارنها بين هموم سجين في معتقل المجوس قضى زهرة شبابه وكل عمره في جحيم لا يحتمل.

  4. المرض النفسي الذي يمتلكه الفارسي لايرى أمامه إي شعور بهذا الإنسان الذي خلقة الله عز وجل بأحسن صورة وخلق له العقل والروح والعاطفة والشعور المتبادل بين الآخرين .
    وعند تمكينه منه يقوم بتعذيبه بوحشية لا يمكن توقعها لما يحمل الفارسي من حقد على كل عربي يقع تحت رحمته فهو يتلذذ بهذا العمل الذي تربى علية من صغره
    وماذا فعلت إيران وميليشياتها بأهل السنة
    من جرائم يشيب لها الولدان
    احرقت الاخضر واليابس على رؤوس اهلها.
    واليوم تكوى بنارها التي اوقدتها على يد المتظاهرين ونسأل الله
    السقوط العاجل لي ملالي طهران

  5. تصوير رهيب للمشهد .. احداث هذا الفصل والاسماء الفارسية تجعلك تعيش الاجواء وتفتح لك باب التخيل للمزيد من الصور المأساوية.. هذه الحكاية تكفي للتعرف على مكونات الشخصية الفارسية المتحدية للاعراف والاخلاق والفطرة .. فاللهم اقلبها بهم يا الله

  6. وانا اقرء احبس انفاسي وكلي ألَم على شبابنا واسرنا وكلنا سمعنا اكثرمن ذلك ورأينا مافعلت الميليشيات الشيعية القذرة بأهل السنة لكن يتجدد الالم عند قراءة وسماع هذه المآسي
    عزائنا ان نرى في ايران يوما اسودا لانهار له
    اللهم عاجلا غير اجل

  7. إن جرائم إيران الشيعية هي امتداد لإيران الفارسية المجوسية يجمعها بغض العرب والاسلام منذ وقبل أن تخمد نارهم المجوسية والتي سعوا وبكل شرهم لتأجيجها في بلدان المسلمين لترتد عليهم أخيراً ولتحرقهم ولتشرذهم وللأبد إن شاء الله تعالى (جزاءً وفاقا).

  8. يا مال المرض اللي يقطع دابرهم هالمجوس
    مصيبة العراق ان جارته الخسيسة ايران وابتلاه الله بالشيعة
    جعل اهل العراق للجنة جزاء صبرهم على بلواهم

اترك رداً على نهاوند محمد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى