مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

على سكة .. قطارها لن يجيء

د. طه حامد الدليمي

في الطريق من مدينة 6 أكتوبر الجميلة إلى مدينة الرحاب الرائعة الجمال، كنت أحدث صاحبي عن طرف من أطراف معاناتنا. كان ذلك مطلع سنة 2010.

وكان مما قلته له: إن من أسباب معاناتنا أن الرموز الظاهرة اليوم على الساحة كان لها إقامات خارج العراق منذ ما قبل الاحتلال في نيسان/2003. فكونوا علاقات مع مراكز قوى ودعم: مؤسسية وفردية؛ تمكنوا بها من فرض وجودهم في الداخل بعد الاحتلال ورجوعهم إلى العراق. وهذا يشمل الجميع بلا استثناء.

أما نحن – وأعني نفسي ومن هو على شاكلتي – فقد كنا منشغلين، على قدر ما لدينا من مَكنة، بعمل ما كنت أرى من الصواب وليس من الهين على النفس أن نتركه ونغادر البلد. كنت في كل يوم أكتشف جديداً، وأضيف خبرة، وأقطع مع أصحابي شوطاً. كما كنت أرقب الوضع بعمومه في العراق فأرى زحفاً شعوبياً على جميع الصعد، يقابله غيبوبة وعي وعلى جميع الصعد.

في الوقت نفسه اجتاحت البلد – بسبب سوء الوضع الاقتصادي تحت ظل الحصار – موجة هجرة إلى الخارج طلباً للرزق، فأرعبني ذلك؛ فكنت أعلن من فوق المنبر حرمة الهجرة إلا لضرورة تقيَّد بسقف زمني؛ وإلا مَن للبلد يرد عنه هذا الخطر الداهم، أو يخفف منه؟ أو على الأقل يؤدي تجاهه ما عليه؛ فيبرئ ذمته أمام الله؟

واحتل البلد، فتأكدت لي هذه الحرمة؛ فرفضت كل الدعوات بشتى التبريرات لتركه والهجرة منه إلى أماكن في الخارج آمنة للعمل فيها من أجل الداخل. حتى اضطررت إلى ذلك اضطراراً بعد سنتين وشهرين. وفي بالي حقيقة لا تقبل المساومة: “الخارج من أجل الداخل، داخل. وكم هناك في الداخل من يودون لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم”.

في ديار الغربة وجدت نفسي وحيداً بلا معين من أهل الأرض، ولا قدرة على السفر. أو التنقل لإقامة العلاقات وحشد الطاقات. هذا وقد أخذ الذين سبقوا، من قبل ومن بعد، أخذاتهم ووظفوا عموم الجهات الداعمة لهم دون غيرهم.

بعد مدة بدأت ألحظ سبباً آخر، حاولت طويلاً أن لا أصدقه، لكن شواهده فرضت نفسها علي فرضاً: أن كثيراً من هؤلاء الذين سبقوا في الخروج وبناء العلاقات ما كانوا يكتفون بما هم عليه دون أن يشوهوا صورة الآخرين في أذهان تلك الجهات لشتى الأغراض! وهكذا يجد المرء نفسه في حصار داخل حصار.

ووجدت حالة شائعة من (الحزبية) حتى لدى غير المنتمين إلى أحزاب. فبعضهم يتقوقع حول توجهات فكرية أو مشارب دينية، إن لم تنصهر فيها معه لن يقترب منك. ولا يسلم الأمر من اتهام أو تصنيف.

في حديقة عامة

أذكر مجلساً في حديقة عامة جمعني في أواخر مايس من سنة 2006 بأحد الأصدقاء في دار من ديار الغربة. كان النسيم عذباً والصيف على وشك الحلول. ومن بين كناشة الهموم والكلام عن ضرورة العمل ضمن مشروع ذي هوية سنية صريحة معلنة، والمعوقات القائمة في وجهه، وكيفية تجاوزها.. قلت لصديقي: لو توفر لدي مبلغ خمسة آلاف دولار في الشهر لتمكنت من بناء هذا المشروع. استغرب الصديق كلامي وقال: معقول؟ د. طه الدليمي لا يأتيه في الشهر خمسة آلاف دولار! قلت: بل ولا نصفها.

ابتسم ذلك الصديق وهو يسألني: أنا محتار فيك؛ أنت سلفي أم إخواني؟ كان سؤالاً ذكياً حقاً. وضحكت وأنا أجيبه: أنا لا سلفي ولا إخواني، وأنا سلفي وإخواني. تحولت ابتسامته إلى ضحكة وقال: هاي شلون دبرتها؟ قلت: إذا قست الأمر بالتعريف المألوف، أقصد التحزبي والحزبي، فأنا لا هذا ولا هذا. أما إذا قسته بمسطرة الحق والحقيقة، بمعنى أنني آخذ ما أراه حقاً عند الطرفين فأنا هذا وهذا. لكن معظم الناس لا يرضيهم هذا. قال: إذن ابق راوح في مكانك. قلت: ذلك خير من الانتظار على سكة قطارها لن يجيء. أو يجيء ولكن على سكة أُخرى!

وفي الحالتين لا السكة سكة الله، ولا القطار قطار الله!

المراوحة في المكان إذن خير يا صديقي. ثم ما أدراك (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)!

 2022/10/26

اظهر المزيد

‫17 تعليقات

  1. مقال يحمل في طياته الكثير من المعاناة والالم وهذا بالتدرج يحول بينهما الامل و بين الامل الايمان والعمل وكلها تصب في طريق المشروع … جزاك الله خير الجزاء

  2. الاخرون دوما ما يحملون هذا الفكر التصنيفي او التصفيري.. فاما ان تكون في خانتهم بشكل كامل او انت في الخانة المضادة لهم.. وما هي الا مراهقة فكرية تنتصر للنفس قبل الفكرة التي تقتنع بها.. ويمكن اعتبرها مرحلة لا مناص من المرور بها خصوصا في حالة الفوران والاندفاع .. ولكن المشكلة باتت تأخذ قالبا تبنى على اساسه قواعد الولاء والبراء..
    تجربة قيادية ودرس تربوي كبير في هذه السكة .. فعندما يتمكن اليقين من القلب يأسره ويبقى رزنا امام من تتلاعب به ابواق وصفير قطارات الوهم والضياع

  3. أجمل مافي الحياة أن يعيش أنسان الأجل دينه وقضيتة الإنقاذ نفسه وأهله والمجتمع إلى بر الأمان رغم الظروف الصعبة وتحديات الحياة في زمن غياب وعي المجتمع عن حقيقة الواقع المؤلمة .
    جزاك الله خيرا شيخنا الكريم على تحقيق مفاهيم الفكرية لتصحيح مسار أهل السنة في زمن مسيرة حياتك
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} [الصف] )

    1. فتح الله عليكم وثبتكم د.طه
      وهذا عمل الانبياء
      والمشروع يستاهل واحد يتعب علي
      نحن لها بإذن الله تعالى
      ومن قال أنا لها نالها

  4. الحمد لله الذي ارشدنا لجادة الصواب والهمنا رشده، وفضل علينا بمعرفة اقصر الطرق لرضاه، القضية السنية تجمع كل من اراد الحق هذا ما تعلمناه منك يا دكتور نحن نجمع الناس حول هذه القضية باختلاف مشاربهم، لان السنية تجمع ولا تفرق لا تعصب لحزب او حركة { قُلۡ هَـٰذِهِۦ سَبِیلِیۤ أَدۡعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِیرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِیۖ وَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ وَمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ }
    [سُورَةُ يُوسُفَ: ١٠٨]

  5. ﴿وَاصطَنَعتُكَ لِنَفسِي﴾

    كانوا يرونك غريباً ذو أفكار “ظنوا أنها وليدة الزمن والقهر” وليست نابعة من إرادة صلبة و عزيمة حديدية و إيمان لايلين ولا يتزعزع (مرتكزة على عناية إلهية في إنارة بصيرتك على كشف العلوم و الأسرار) على إحياء أمة كانت بعد ٢٠٠٣ في طريقها للهلاك و ضياع الهوية للأبد.. و ما أعظمها من مصيبة، عندما تعيش ولا تعيش في نفس الوقت، تنظر في المرآة فلا تعرف كينونتك ولا موقعك من هذا الكون الشاسع. كلهم لم يعلموا أو لم يفهموا ما قدمته عندما كنت على دراية مسبقة بهذا الخطر السرطاني و قد قدمته للجماهير على المنابر في التسعينيات من القرن الماضي على شكل رؤية عالمية ذو قوانين ربانية أبدية لا تضعف أبداً. فكنت أنت دائماً و أبداً المنتصر.. فكل من خالفك الرأي و ضحك واستهزأ سيرى نجمك الساطع بعد أن أفلت نجومهم للأبد.
    فامضي على بركة الله نحو الهدف ولا تلين و الأمة بإذن الله خلفك إنَّا لا نَقولُ لك كما قالت بَنو إسرائيلَ لِموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، ولكنِ اذهَبْ أنتَ وَرَبُّكَ فقاتِلا، إنَّا معكم مُقاتِلونَ. تحياتي للدكتور المجدد ❤️🌹🌟

  6. البعض يستبطئ النتائج ويخيل إليه أن الطريق طويل لذا يفضل البقاء في دائرة الراحة بعيدا عن “وجع الراس” كما يعتقد.. وتلك هي سنة الحياة في الناس والحق وكما قال العقاد رحمه الله كل إنسان يؤمن حين يتغلب الدين وتفوز الدعوة..
    سددك الله دكتور وآجرك الله على كل خطوة تخطوها وكل حرف تكتب وجعلنا عونا لك وتقبل منا ورضي عنا وبلغنا ما نرجو في الدنيا والآخرة

  7. وفقك الله ومن معك وسدد خطاكم .
    السير على السكة الصحيحة مع اتباع وان قل عددهم خير من السير على السكة الخطأ
    وان كان كل الناس معنا. وأنبياء الله خير دليل على ذلك.
    وعزوتنا دائماً بقولك شيخنا (ادي ماعليك وما عليك)

  8. عندما يتذكر الإنسان هذه المعاناة وهو يرى
    التقدم والنجاح يحالفه مع تغيير الظروف
    الصالح عمله ومشروعه يجد حلاوه نجاحه
    تخفف مراره صبره في تلك الأيام
    أعانكم الله شيخنا المجدد
    نظنّ أن غدًا أجمل؛ لأنه بيد الجميل عزّ وجلّ.

  9. (الخارج من اجل الداخل داخل)جملة اختصرت كثير من الكلام والمعاناة هناك مفاهيم مهمة لا يفقها كثيرون المسار والهدف السنة قاطرة جيدة في سكة خاطئة والشيعة قاطرة سيئة في مسار صحيح القضية هي من توحد السنة وتجعلهم على السكة الصحيحة

  10. س ع ب الدكتور العزيز
    لسان الحال يقول دعنا نفعل شيئاً
    والذي يصنع خير من الذي لايصنع
    والمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف
    بدات مشروعك من لاشيء وهو الان كل شيء
    شخصت الداء ووضعت له الدواء
    فمن اخذ بالدواء عوفي من المرض ومن لم ياخذ به نهشه المرض حتى يهلكه
    واقل الدواء الحمية عن الاشياء التي تمكن منك هذا المرض وتزيد ضراوته

  11. بوركت جهودكم وجعلها الله في ميزان حسناتكم..
    ليس كل الناس أشرقت لهم شمس الحقيقة ووضوح الرؤية واستقامة سكة صراط الجنة..
    هولاء المساكين غابت نجومهم وغادرت سفينة النجاة عنهم فلا بالنجم يهتدون ولاسببل الحق يسلكون فهم حيرة يعمهون..
    نسأل الله الثبات على الحق والعفو والعافية.

  12. مقال يؤرخ لسنين معاناة كانت وما زالت هي الشغل الشاغل للكاتب، وقد أحسن الكاتب تصوير هذه المعاناة وتسجيلها كي يعلم من يأتي من بعد أن الأفكار والمشاريع تأتي من رحم المعاناة وليس من الفراغ.

  13. سيأتي الجيلُ الذي يذكرُ فيها معاناة المؤسسين، وهذا قدرهم، وكيف قام هذا المشروع العظيم الذي فيه انقاذٌ للنفس والناس.

  14. الخارج من أجل الداخل، داخل.
    عبارة اختزلت الكثير ونحن نشهد بما قدمت وتقدم لقضينا السنية وجزاكم الله خيرا
    اما غل وحسد الاقران فهو قرينة كل ناجح وعامل من اقرانه

  15. المراوحه في نفس المكان او الانتظار افضل من الصعود في قطار المتخاذلين والمثبطين واصحاب المصالح الضيقه
    الله يرضى عنك

اترك رداً على ابو عدنان إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى