مقالاتمقالات أخرى

داهية العرب .. نافذة إلى حيل المجوسية المبرقعة في تزوير التاريخ

أ. العنود الهلالي

يعرف الدهاء بأنه: فطنة، ذكاء، بصر بالأمور وجودة رأي. وقيل: هو العقل وجودة الرأي. والدهاء السياسي “جودة الرأي التي تمكن السياسي من أن يدير نظامًا، أو يكشف عن وجه قضية بأسلوب لطيف، فغير الداهية ينبذ إلى الباطل على سواء؛ فتكون الحرب بينهما سجالًا، والداهية ينصب له المكيدة، فيقع كما يقع الأسد في الزُّبْية العميقة”[1].

والدهاء في السياسة لا يأتي من فراغ، بل يستلزم مواهب وقدرات متفردة؛ ليعد صاحبها من أهل الدهاء السياسي. وقد توافر لدولة الإسلام في عهد بني أمية مجموعة من الولاة الدهاة الذين كان لهم حظ وافر من رزانة العقل وقوة البصيرة وحدة النظر في الأمور وسعة الحيلة وحسن التخلص من العظائم والقدرة على حل المشكلات.

يقول الشعبي: الدهاة أربعة معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة، وزياد. وفي هذا المقال والمقال الذي يليه سنلقي الضوء على سيرة الدهاة الثلاثة عمرو والمغيرة وزياد رضي الله عنهم ورحمهم، الذين كانوا ولاة أكْفاء في عهد معاوية رضي الله عنه، وقد تركوا بصمات واضحة على أحداث ذلك العصر.

الحرص على إهمال الإشادة بالأمويين

لكن – وكما نلحظ دائما في التاريخ الأموي – تتوارى الروايات التي تشيد بالأمويين وولاتهم فلا تظهر إلا على استحياء، فتتوزع الصورة النهائية لهم بين ذكر خبر من دهاء هؤلاء الخلفاء وولاتهم وذكر قسوتهم وجبروتهم واستهتارهم بحرمات الدين دون اعتبار لضبط ميزان النقد “فوصف المؤرخون عمرو بن العاص بالدهاء الذي يكاد يكون مرادفا لمعاني النفعية السياسية، واتهموا المغيرة بالكذب والاستغلال والسخرية بأحكام الدين، وزعموا أنه كان وراء استخلاف معاوية لابنه يزيد كي يضمن استمرار ولايته على العراق. وتحدثوا عن استلحاق معاوية زياد بن أبيه وكيف تحكمت رغبة معاوية في ضم زياد إليه والافادة من ذكائه وخبراته في اتمام هذا الاستلحاق!!”

والحقيقة أن هذه الأحكام الجائرة في حق هؤلاء الكرام – وهم صحابة! – ليست إلا نتيجة كونهم في العقل الجمعي للأمة خصوماً لعلي رضي الله عنهم أجمعين، وهو ما يسميه الدكتور طه حامد الدليمي بـالتشيع الثقافي (أحد مظاهره الميل الزائد إلى علي وابنائه وذريته ويجعل صاحبه يبالغ في فضله ومنزلته فيتساهل في قبول ما يروى في هذا الجانب وإن تعارض مع النقل والعقل والتاريخ، وقد يجره ذلك إلى التساهل في التعامل مع مرويات أخرى ذمت خصومه، وربما زاد فتنقص منهم)[2].

الصحابي الجليل .. داهية العرب وفاتح مصر

بالعودة إلى الضوابط التأصيلية في قراءة التاريخ وكتابته التي بينها الدكتور طه الدليمي في كتابه “هكذا نقرأ التاريخ وهكذا نكتبه” وعند تطبيقها على سيرة الصحابي الجليل: عمرو بن العاص السهمي القرشي سندرك أن ما نال سيرته من تشويه في وجدان الأمة ليس إلا نتيجة للتساهل في تحقيق الوقائع التاريخية وقبول الروايات والأخبار دون تمحيص بسبب الانتقائية في تطبيق المنهج العلمي نتيجة التقديس والتدنيس المسبق، فعمرو بن العاص في الثقافة المشبعة بالتشيع من خصوم علي؛ لذا لا بأس من قبول الروايات التي تنتقص منه فحوّرت صفة الدهاء التي اشتهر بها لتصبح نفعية سياسية أفاد منها للوصول إلى مآربه في الأمارة. وتداولت دواوين التاريخ روايات مكذوبة تقدح فيه لا يستسيغها العقل.

ومما اشتهر من تلك الروايات المكذوبة التي تلقاها الناس بالقبول دون تمحيص رواية التحكيم الشهيرة، ورواية (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).

رواية التحكيم

رواية التحكيم نجدها متهالكة لا ترقى لأن تكون خبراً يعتد به: لا متناً ولا سنداً.

متن الرواية

فمن ناحية المتن فإننا “نلحظ كذبها بوضوح:

  1. فالرواية حرفت الخبر عن أصله؛ فجعلت محور الخلاف بين الطرفين يدور حول الأحق بالسلطة: معاوية أم علي؟ بينما الخلاف كان حول القصاص من قتلة أمير المؤمنين المقتول ظلماً عثمان بن عفان رضي الله عنه. فكان معاوية يطالب بتسليمهم له ليقتص منه باعتباره ولي دمه؛ فهو ابن عمه، وقد فوضه أهله.
  2. ثم إن القول بأن عمرو بن العاص خدع أبا موسى الأشعري قول لا يرقى إلى أدنى درجات الصحة، فضلا عن أعلاها؛ ذلك أن أبا موسى الاشعري ليس بهذه السذاجة التي يزعمها المدعون، بل هو شخصية راسخة في العلم واعية عاقلة. كما أن عمرو بن العاص كان رجلا أميناً مؤمناً لا يخدع مسلما ولا يخون. وقد أمّره الرسول صلى الله عليه وسلم على الجيش في غزوة ذات السلاسل وكان النصر من الله تعالى على يديه”[3].

هذا من ناحية المتن.

سند رواية التحكيم

أما من ناحية السند، ففي سندها راويان ضعيفان غاية الضعف، وليسا بثقة وهما: أبو مخنف لوط بن يحيى، وأبو جناب الكلبي،.

رواية (متى استعبدتم الناس)

متن الرواية

أما الرواية الأخرى التي شاعت وذاعت بين الناس ظناً منهم أنها من شواهد عدل الفاروق رضي الله عنه؛ وعند قراءة ما بين سطور القصة نجدها محاولة للنيل من عمرو بن العاص، مبطنةً بعدل عمر. لا أكثر ولا أقل.

وهذه من الحيل الشعوبية التي طالما استخدموها لتمرير دسائسهم.

انظر! لقد قدموا لنا خبراً في قالب قصصي محبوك ظاهره الحديث عن عدل عمر وباطنه الطعن في شخصية عمرو!

سند الرواية

الرواية منقطعة السند وسندها واه؛ فلا تصلح للاعتماد.

تاريخنا كُتب بأيدٍ مختلفة التوجه والمقاصد، وقراءته دون إدراك لهذه الحقيقة سيجعل منه تاريخا مشوها في أعيننا، لذا لا بد لمن يريد الإفادة منه أن يفتح عينه ويستحضر وعيه لكل سطر فيه، فيطالعه بوعي ويقظة وحذر؛ ولا يكون ذلك إلا من خلال ضوابط تقوم على منهج علمي لا يخضع للأحكام المسبقة التي غرست في الوعي الجمعي للأمة تجاه الكثير من أحداث التاريخ قبل الإسلام وبعده.

2022/11/20

______________________________

  1. – محمد الخضر حسين، الدهاء في السياسة.
  2. الدكتور طه حامد الدليمي.
  3. – إعلام الأجيال باعتقاد عدالة أصحاب النبي الأخيار.

 

اظهر المزيد

‫21 تعليقات

  1. قراءة المقال لحضراتكم يزيدني وعياً بما نقرأ ونرا واقعياً وبيان الحقائق والدسائس التي شوهت أمر في غاية الأهمية لكي ننظر بعيون واضحة البصيرة عند قراءتنا لتأريخ عظمائنا رضي الله عنهم
    جزاكم الله خيرا🌴🌹

  2. سبحان الله كيف عبرت هذه الحيلة ان علي ومعاوية كانا مختلفين على امر الخلافة!!
    والله تاريخنا يحتاج الى اعادة قراءة من جديد .
    شكرا لك اختي العنود على هذا المقال الممتاز

  3. بوركت أناملك لهكذا مقالات
    أساسية لواقعنا اليوم حتى
    نقرأ ونتعلم كيف خدعنا من قبل الشعوبية
    بطريقة خفية وكما ذكرت في المقال 👇
    {{وهذه من الحيل الشعوبية التي طالما استخدموها لتمرير دسائسهم.

    انظر! لقد قدموا لنا خبراً في قالب قصصي محبوك ظاهره الحديث عن عدل عمر وباطنه الطعن في شخصية عمرو!}}
    وفقك الله ورعاك أستاذة عنود 🌹

  4. يا سلام على التنقية التاريخية وبيان الدسائس الشعوبية والشيعية بورك القلم السني الذي يكتب بثقافة سنية .. هذه القصص للاسف من المسلمات عند اغلب الناس والغريب انها لا تصح اذا وضعناها في ميزان قواعد تصحيح الروايات ! فكيف يتساهل كثير من العلماء والشيوخ برواية مثل هكذا مرويات سخيفة !

    1. حياك الله أخي محمد ..🌷
      اما التساهل فحدث ولا حرج 💔
      شيء يحز في النفس أن يُقبل من كذابين أخبار عن عدول زكّاهم الله جل وعلا في كتابه العزيز!

  5. جزاك الله خير اختنا على هذه المقالة التي بينت لناهذه الروايات التي قد دست في بطون الكتب ،ان من يحب علي يجب أن يكره بني أمية حتى إذا كان علي على خطأ ، فإذا تحدثت عن فضل معاوية قالوا لك يعني هل من المعقول اني معاوية افضل من علي ،تشيع ثقافي تغلفت به عقول أهل السنة ،لذلك يجب تسنين السنة كما قال الدكتور طه ،نحتاج إلى غربلة الروايات التاريخية وتنقيتها .

  6. احسنتِ الاخت الفاضلة عنود، وبارك الله بجهودكِ بتسليط الضوء على هذا الجزئية الكبيرة المغبون حقها في الثقافة السنية التي للتيار السني الدور البارز في تصحيحها وتشذيبها.

  7. مقال يبين لنا اطباع النفسية الفارسية ومدى تأثيرها على تاريخ الدولة الإسلامية من الحقد والعنجهية والكبرياء والتشوية للعرب وخاصةً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
    الذين زكاهم الله في كتابه المبين.
    ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)) . وغاية الفرس ومن على شاكلتهم الطعن بالإسلام.
    جزاك الله خيرا أستاذه العنود.

  8. سدد الله رأيكم وبارك جهدكم ..أستاذة الهلاليه.
    تراثنا وضعت لبنات الخراب فيه منذ نعومة عظامه حيث عاش وتعشعش العجم الموالي بين فقرات ظهراني عاصمة خلافتنا ومبعث نور حضارتنا في مكة والمدينة فصار طلاب العلم وكتبة التراث وعمار البنى التحتية والاجتماعية من الفرس __فطلاب العلم وخدام وزراع بساتين بن عباس! و حدادة وخناجر أبو لؤلؤة بحراسة صحابي آخر .! وهكذا بيض الغراب وفرخ في حضن وحضانة وتبني العرب وبدأ الخراب حتى تكللت بخلافة أول حكومة شيعية مبرقعة بثوب عربي ومضمون فارسي بأحفاد عبدالله بن عباس ونسب ومصاهرة العلويين ! فكتب تراثنا بأيدي تعيش تحت المؤثر السياسي والسيطرة الشاملة للدولة العميقة الفارسية التي أصبح الواقع فيها القوة العسكرية بيد الفرس _امثال ابو مسلم الخرساني_والقوة السياسية _بيد الوزير الفارسي_والقوة الفكرية كتبت في ظل هذا الواقع العباسي المنخور.
    وذهب الدهاء العربي بذهاب الأمويين فصرنا نحن الضيوف والفرس رب المنزل!!!

  9. بسم الله الرحمن الرحيم
    جزى الله الاستاذة العنود خير الجزاء
    تحليل جميل للمتن وخصوصا ان النزاع لم يكن حول السلطة، وكذلك الانتباه للسند، اضافة الى ما اضافته المقالة لنا من الحذر من المرويات التاريخية وضرورة التدقيق بها

  10. عندما تكتب الأقلام السنية نرى الابداع. مقال مميز من خلاله رأينا الخبث الفارسي على أصوله.
    حتى في مدحهم هناك دس وتلويث للافكار عن الصحابة رضي الله عنهم.
    تاريخنا مخترق وكتب بأقلام فارسية بحته.

  11. شكرا لكِ اختنا العنود على هذه المقالة التي انصفتِ فيها الامويين وذكرتي أهم خصالهم (الدهاء،القيادة) وبينتِ الثقافة التي غرسها فيها الفرس عنهم والقصص التي ضاهره مدحهم وباطنها قدحهم والنيل مهم..
    وياحبذا بأسلوبك الجميل تذكرين لنا مزيد من هذه القصص كي تغيير هذا الثقافة التي سادة عنهم والقصص هي الوسيلة الاكثر فعالية في تغيير الثقافة والفكر من غيرها .
    بوركتي🌺

اترك رداً على العنود الهلالي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى