مقالاتمقالات أخرى

أنا والدليمي والحوت

أبو عبدالله السامرائي

استأذنْتُ زوجتي أنْ اتركَهم ولو لوقتٍ قصيرٍ ووعدْتُهم أنْ أعودَ إليهِم بسرعةٍ.

كنتُ مضطراً للمغادرةِ، للقاءٍ مع مجموعةٍ منَ الأخوةِ المهتمينَ بشأنِ دينِنا، فلابد منهُ ثم العودة بسرعة، حيث وجب عليّ غسل الصحون وإعداد الطعام لإصابة زوجتي بوعكة صحية.

تجاذبنا أطرافَ الحديثِ بيننا، وكانَ محورُه القرآنَ الكريمَ، وذكرتُ لهم بأني لستُ مع دوراتِ تحفيظِ القرآنِ على حسابِ دوراتِ تدبرِ هذا الكتاب العظيم، وتلوت لهم قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)، وقوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)، ولم أجد آية تقول: أفلا يحفظوا القرآن.

قُبَيْل المغادرة طرحت عليهم مجموعة من الأسئلة:

هل حدثَنا القرآنُ الكريمِ عن الأنبياء؟

فكان الجواب: نعم

هل حدثَنا عنْ تفاصيلِ عبادتِهم من صلاةٍ وزكاةٍ؟

فكانَ النفيّ جوابُهم

إذا كان القرآنُ قد حدثَنا عن الأنبياءِ ولم يذكرْ لنا تفاصيلَ عباداتِهم، إذنْ عنْ أي شيءٍ كانَ يحدثُنا؟!

ما كان حينَها إلا الصمتُ.

ذات السؤال طرحته زوجتي على مجموعة من الأساتذة في كليتها وهي تتهيأ لكتابة بحث التخرج، فما كان إلا الإعجاب بالسؤالِ إذ أنه جديد وغريب.

لكن الصمت والإعجاب سيّان، إذ لم يحررا جواباً.

حزنت حينها، وتذكرت قولاً للدكتور طه الدليمي إذ يقول: (إنّ ازمتَنا ازمة فكرية وليست ازمة فقهية)، وأدركت حينها كم أنّ نساء ورجال التيار السني متقدمون بوعيهم على من سواهم.

ليت قومي يعلمون أن القرآن إنّما كان يحدثني عن حركةِ الأنبياءِ في ميدانِ القضيةِ.

فلولا القضيةُ:

ما كانت السفينةُ لِتُبحِرَ بنوحٍ والذينَ آمنوا معه.

وَما نجى هودٌ والذينَ آمنوا معه.

وَما كانت النارُ برداً وسلاماً على إبراهيم.

وَما نجى لوطُ وآله.

وَما انشقَ البحرُ لموسى.

وَما كانَ الناسُ يدخلونَ في دين الله أفواجا.

ولا تَكْوين ولا تمكين بلا قضية، وتيه بني إسرائيل له عِبرَ التاريخ صوراً شتى لعلنا نعيش بعضا منه، ويتهددنا طوفان نوح، والحوت فاغرٌ فاه.

الدليمي وحوت يونس:

قد كنت جالسا يوما بين يديه، وما أن تجالسه حتى تشعر أنك أمام شلال من الفكر المنساب، قال لي: (تحدثني نفسي أحيانا كأي انسان تخطر عليه وساوس النفس رغما عنه وتميل بطبعها لنيل الراحة بعيدا عن تحمل المشاق، ولكن سرعان ما أتذكر حوت يونس، فأعود إلى نفسي وأخاطبها وأقول لها: أي حوت تنتظرك؟! ).

انتهى كلام الدكتور طه الدليمي، ولكن لم ينتهي وقع كلامه في نفسي – أي حوت تنتظرك-، إنها كلمة لها صدى يخترق السمع ويجول في الوجدان ويحث الهمم وربما يجعلك تجهد نفسك كي تحبس دمعك، وحُقَّ لهذه الكلمة أن تطير في الفضاء لتسير مع الزمان جيلا تلو جيل وهي ترافق الحوت، فقد مات يونس عليه والسلام ولكن الحوت لم يمت، لأنه حوت القضية وليس حوت يونس، وإنه لم يلتقم يونس لأنه يونس، بل لأنه غادر القضية، ومن هنا نبع قول الدكتور الدليمي- أي حوت تنتظرك-، وحُقَّ لنا وعلينا أن نتحاشى الحوت، وهذا ما أوصى الله تعالى به رسوله الكريم إذ قال: ( وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ)، وللحوت صور شتى عبر التاريخ، وكذا للتيه والطوفان، وتحديد القضية هي ليستْ محلَّ اختيارٍ مزاجي وفقا لميلِ الشخص واتجاهِ رغباتِه، بل هي نتاجُ تحدٍ فرضَته الجغرافيا والزمت به أهلَ زمانِها، ولدينا في نبي الله إبراهيم ولوط عليهما السلام حجة ودليل، فقد اتحدا في الزمانِ واختلفا في الجغرافيا، وبالتالي اختلفت تحدياتِهما فاختلفت تبعا لذلك قضيتيهما، ولم يكفي اتحاد الزمان لتتحد القضية، فلو فرضنا ان إبراهيم عليه السلام اليوم في فلسطين، وبالمقابل لوط عليه السلام في العراق، فستكون قضية ابراهيم وفقا للمفهوم القرآني فلسطينية، وقضية لوط عراقية وإن اتحدا في الزمان، ولاشك ان قضيتنا اليوم هي ذلك الدين الفارسي الذي انتحلَ التشيعَ ولا همَّ لهُ إلا القضاء على الإسلام كدين وعلى العروبة كانتماء، بل واتسع خطره إلى اكثر من واقع جغرافي، لا لوجود عناصر قوة في مضمونه بقدر ما يتعلق الموضوع بمفهوم القضية، فغياب مفهوم القضية عند أهل الحق كفيل بتغلب الباطل صاحب القضية.

واختم بنظم الدكتور طه الدليمي وهو يقول:

لولا القضية لم اكتب سوى شجني    …    ولـم أعـلق سوى قلبي على زمني

ولــم تـداعب سـوى الأوتـار انـملتي    …     نـاحـت كـمـا نـاح قـمري عـلى فـنن

2023/1/14

 

اظهر المزيد

‫41 تعليقات

  1. واي حوت ينتظرنا كـ اهل قضيه سوى حوت النصر ، مقالتك جعلتني التمس من جديد فضل الهدى الذي اخرجنا من ظلمات الفرس الى نور الاسلام السُني الحقيقي فـ الفضل لله اولاً الذي هدانا والذي ثبتنا على هذا المنهج والفضل ثانياً لكاتبه وهو د.طه فالحمد لله دائماً وابدا واحسنت يا ابو عبدالله سدد الله خطاك .

    1. جزاكم الله خيرا
      قد منّ الله علينا بالمفكر المجدد الدكتور طه الدليمي، وعلينا أن نستلهم فكره تعقلا وتطبيقا

      1. أن شاء الله حوت النصر كما علقت الأخت سمير اميس
        جزاكم الله خيرا الأستاذ الجنابي

  2. جزاك الله خير استاذ ابوعبدالله على هذه النسمات الايمانية التي تحرك الانسان للعمل لا للعبادة والقراءة فقط ..
    الدين ليس عبادة فقط انما عبادة وقضية
    اللهم اعنّا

    1. جزاكم الله خيرا
      صدقتم اخي الكريم (الإسلام عبادة وقضية) فالغالب اخذ بشطر العبادة وغابت عنه القضية ولذلك كما قال الدكتور الدليمي انهم على دين ورقة ابن نوفل

  3. كثيرا ما نشاهد على الفضائيات او في مواقع التواصل تخرج مئات الآلاف لحفظة القرآن الكريم وفي بلدان مختلفة من العالم – كنت دائما وما زلت اسأل : اين الحفظ العملي لكتاب الله عز وجل لماذا لانرى وقعا او اثرا عمليا واقعيا لكتاب الله في حياتنا!؟
    جزاكم الله خيرا
    مقالة ذات لفتة غاية في الاهمية

    1. جزاكم الله خيرا اختنا الكريمة
      في اندونيسيا عدد هائل من الحفظة ولكن لا أثر لهم في واقع الحياة، ويعبرون الحفظ عبادة ومفخرة وليس أكثر

  4. جزاكم الله خيرا
    قد منّ الله علينا بالمفكر المجدد الدكتور طه الدليمي، وعلينا أن نستلهم فكره تعقلا وتطبيقا

  5. اللهم اجعل هذا الحوت حافزا لأهل السنة لكي يعملوا لأجل قضيتهم ، الحمد لله الذي انقذنا من الحوت والحقنا بالمشروع الرباني وربانه الدكتور طه ،ورجاله الافذاذ امثال عبد الله السامرائي.

    1. ما عليكم زود استاذنا الكريم
      الفضل الأكبر دائما لجيل التأسيس ونحسبكم منهم ان شاء الله

  6. الحفظ
    مجرد نسخ إن لم يدرك الموضوع،
    الأصل التركيز على التدبر،؟
    القراءة والسمع والحفظ وسيلة، والغاية التدبر،
    أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ،
    إن لم تكون هذه المعاني حاضرة كيف ندرك القضية والحوت،
    نعم القرآن ركز على القضية فابرزها بعدة مواضع

  7. فعلا كلام قيم وفكرة راقيه لايصال فكرة القضيه ومنطلقها الايمان والنصره بعد ان كنا نتوقع ان العباده وحدهاا تقربلك الى الله لكن بدانا نفقه ونعلم ان القىان تدبر جزى الله عنا المفكر والمجدد الدكتور خير الجزاءوجزاكم بمثله خيرا

  8. أبدع تلميذ الدليمي…
    استرسلت افكاره وربطه بين الالتزام بالقضية والتنصل عنها
    وبين السيل الفكري الذي نتلقاه من الدكتور الدليمي
    جزاك الله خيرا يا سامرائي

    1. من خلال التعليق يتبين عمق الإدراك
      لذلك اشرت في المقالة على التقدم الفكري لنساء التيار على من سواهن

  9. إن كبرت سني فلي همة لم يتأثر فضلها بالكبر ما ضرني غدر الليالي وقد وفي لي السمع ونور البصر ولا خبا مصباح ذكري ولي فكر سليم ولسان ذكر

    1. امين
      تقبل الله دعاءكم
      ولكن كم هي من التفاتة دقيقة للدكتور – أي حوت تنتظرك-

  10. بالفعل لا تكوين ولا تمكين بلا قضية ..✔️
    القضية هي الاساس .. وانعدامها يجعل البوصلة معطوبة مهما كانت النوايا سليمة..
    سددكم الله وبارك في جهودكم

    1. جزاكم الله خيرا أستاذة العنود
      مقالاتكم قيمة وتثري الموقع
      زادكم الله علما وعملا

  11. جزاكم الله خيرا شيخنا الغالي ابو عبدالله السامرائي
    ليت قومي يعلمون أن القرآن إنّما كان يحدثني عن حركةِ الأنبياءِ في ميدانِ القضيةِ.

    فلولا القضيةُ:

    ما كانت السفينةُ لِتُبحِرَ بنوحٍ والذينَ آمنوا معه.

    وَما نجى هودٌ والذينَ آمنوا معه.

    وَما كانت النارُ برداً وسلاماً على إبراهيم.

    وَما نجى لوطُ وآله.

    وَما انشقَ البحرُ لموسى.

    وَما كانَ الناسُ يدخلونَ في دين الله أفواجا.

    ولا تَكْوين ولا تمكين بلا قضية، وتيه بني إسرائيل له عِبرَ التاريخ صوراً شتى لعلنا نعيش بعضا منه، ويتهددنا طوفان نوح، والحوت فاغرٌ فاه.

    1. وجزاكم الله خيرا شيخي الشمري
      كلنا لبنات في بناء واحد يشد بعضه بعضا

  12. مقال صائب في بيان الحقيقة الغائبة عنده أهل السنة نعم التركيز على المواعض الإيمانية فقط دون المواعض الفكرية خلل كبير في مفهوم الدين قال تعالى ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) الإسلام حلقة متكاملة ومترابطة بعضها ببعض إيمان ونصرة عبادة وقضية قال تعالى (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ) إيمان دون نصرة مفارقة كبيرة
    في مفهوم الجهاد الفكري التكويني (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) التوحيد والقضية منهج الانبياء والمرسلين (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) مفهوم الدين أن تعلم ماذا يريد الله منك

    1. جزاكم الله خيرا الاستاذ أبا عمر
      صدقتم، فمن اخذ بشطر العبادة دون القضية فقد جعل القرآن عضين
      احسنتم استدلالا

  13. مقال واضح عن الحقيقة الغائبة عنده أهل السنة نعم التركيز على المواعض الإيمانية فقط دون المواعض الفكرية خلل كبير في مفهوم الدين قال تعالى ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) الإسلام حلقة متكاملة ومترابطة بعضها ببعض إيمان ونصرة عبادة وقضية قال تعالى (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ) إيمان دون نصرة مفارقة كبيرة
    في مفهوم الجهاد الفكري التكويني (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) التوحيد والقضية منهج الانبياء والمرسلين (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) مفهوم الدين أن تعلم ماذا يريد الله منك

  14. إنْ الله سبحانه وتعالى ذكر لنا في كتابه العظيم قضية كلٌ نبياً عظيم ولم يذكر كيف كان ركوعهم ولا سجودهم بل ذكر لنا القضية التي سار بها الأنبياء والمرسلين لكي نطبق ماورد في نصوص كتابنا من أجل تحرير أهل السُنة من هذه الخدعه وبناء جيلاً شديد الفكر والبديهيه .

    بارك الله في سعيك أستاذنا الفاضل

    1. جزاكم الله خيرا أستاذ عثمان
      صدقت اخي الكريم
      لذلك اتحدى أي باحث ان يستخرج لي بحثا ولو صغيرا من القرآن عن عبادات الأنبياء

  15. مفهوم راقي وسؤال واقعي
    لماذا قص الله علينا قصص الأنبياء
    وتعدد ادورهم والمهام التي جاؤوا من أجلها
    في مواجهة القضية الاجتماعية ووضع الحلول الصحيحة لها عن طريق الوحي وما أنزل الله من كتب سماوية
    لكل نبي قضيته الأساسية يعمل من أجلها مهما كانت النتائج عند الله مهما كانت الظروف التي تواجهك
    المهم الإبتعاد عن الظلمات التيه إلى سفينة السلام
    ونور القضية وفق منهاج الربانية….بوركت جهودك واحسنت…ووفق الله شيخنا المجدد طه الدليمي

    1. جزاكم الله خيرا استاذة نهاوند
      صدقتم اننا غير مسؤولين عن النتائج

  16. اللهم اجعلنا من يستمع القول ويتبع احسنه
    جزاك الله خير يا آبو عبدالله السامرائي

اترك رداً على أبو عبد الله السامرائي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى