بحوث ودراسات

الأستاذ الكبير محمود الملاح الموصلي

أحد عمالقة الفكر السني في العراق في القرن العشرين

د. طه حامد الدليمي

أمة لا تعرف رجالها لا تعرف نفسها.

الأستاذ محمود الملاح رحمه الله كان في زمانه أمة وحده في التصدي لخطر التشيع من جهة، ولوباء الثقافة الترضوية التقريبية في الوسط السني من جهة أُخرى. سنة 1995 عثرت صدفة لدى أحد أصدقائي في (جرف الصخر) بكتاب متوسط الحجم قديم جداً أصفر اللون تكاد صفحاته تتكسر ما لم تُقلبها بعناية. يعود الكتاب – كما هو مؤرخ في صفحته الأولى بعد الغلاف – لأحد الشيوخ إبان دراسته في المدرسة الدينية في (الفلوجة) على يد الشيخ عبد العزيز سالم السامرائي رحمه الله. وعلى الكتاب تاريخ يشير إلى الخمسينيات من القرن الماضي. وكان بعنوان (المجيز على الوجيز) أو (الرزية في القصيدة الأزرية).

فوجئت بما في الكتاب من فحولة في الطرح لم أجدها عند غيره، وعمق في الفكرة، ومعرفة دقيقة بالشخصية الشيعية، ولغة عربية أصيلة متقنة السبك متماسكة البناء! إضافة إلى أسلوب ساخر يطلقه بتمكن رصاصة يطلقها هداف ماهر فلا تخطئ هدفها!

في أحد الأيام بعد قرابة ثلاث سنوات أو أكثر طرق عليَّ الباب، ولما خرجت أستطلع الطارق إذا هو أحد أصحابي الغالين! وفي يده كتب قليلة العدد صغيرة ومتوسطة الحجم، قدمها إلي وهو يبتسم مع نظرة يقول لي فيها: “تفضل خذ هذا الكنز”! وتفحصتها فإذا هي عدة مؤلفات للأستاذ الملاح! وجدها صدفة أيضاً لدى مكتب استنساخ قريب من وزارة الأوقاف في بغداد. فرحت كثيراً بهذا الكنز حق الكنز. واتفقنا على أن نستحصل بقية كتبه ونعيد طبعها على الحاسوب. ولعلنا نذهب إلى ورثته في الموصل لنستأذنهم في طبعها. لكن دهمتنا أحداث ومشاغل صرفتنا. ثم قتل صاحبي على يد الشيعة وهو متوجه لإقامة صلاة الجمعة في حزيران من سنة 2000. قبل أن نحقق أملنا ذلك الأمل الواعد الجميل.

الملاح.. ذلك النجيب الذي ضيعه قومه

كنت أتساءل عن الصمت الغريب والإهمال الظالم لذكر هذا العملاق الذي دافع بضراوة عن أهل السنة والجماعة. وأمرٌ كهذا – مع رجل كان حاضراً بقوة في الوسط الإعلامي، سكن بغداد في إحدى فترات حياته، ويكتب في صحيفة معروفة هي (السجل) تصدر في بغداد. شيء غريب حقاً! يسجل علامة لغير صالح علماء السنة آنذاك. بل وكل آنٍ منذ زوال الدولة الأموية وتمكن الشعوبية المجوسية، وإلى اليوم. كما يشير إلى استيلاء ترضوية مقيتة وانهزامية فاضحة على عامة علماء ذلك العهد وما قبله وما بعده من عهود.

لمسنا هذا بأنفسنا وعانينا منه بشدة؛ إذ غلب هذا الصنف من الانهزاميين على الساحة. ساحة يتسيدها سياسياً القوميون والليبراليون، وشعبياً العشائريون، ودينياً الإسلاميون المتحزبون والقبوريون المستشيعون. خرج أسلافهم تواً من حقبة ظلام ديني وجمود فكري وخلط عقائدي وأمية فاشية ودين معطل، دامت سبعة قرون (من سقوط الدولة العباسية سنة 1256 حتى سقوط الدولة العثمانية سنة 1924). أدركنا البقية الباقية من أخلافهم لا تكاد تجد أحداً منهم يقرأ حرفاً ولا يقيم فرضاً! وكأن الله جل وعلا ما قال في مفتتح أول سورة أنزلها على نبيهم صلى الله عليه وسلم: (اقْرَأْ)، ولا في خاتمتها (اسْجُدْ)!

وفجأة يظهر في هذا الوسط الترضوي الانهزامي رجل مثل الأستاذ الملاح! ماذا تتوقع أن يكون موقف المعممين منه؟! معممين كبيرهم وزير الأوقاف السني كان يرسل بأموال الوقف السني طلاب الشيعة في بعثات دراسية إلى الغرب!! ويكتب القصائد في تبجيل (أئمة) الشيعة الاثني عشر واحداً واحداً!

في ظل عهدٍ حكامُهُ، صحيح أنهم في الدين من أهل السنة، لكنهم في النسب ينتمون إلى علي رضي الله عنه. وقع التوافق عليهم لهذه الميزة (سنةٌ ديناً علويون نسباً) كي يتمكنوا من حكم بلد خليط من سنة وشيعة.

هكذا بكل ما في الفكرة من فصام مع الواقع! فلم يطل العهد بهم كثيراً حتى دفع الملوك رحمهم الله – في شخص آخرهم – والنظام ككل الثمن مضاعفاً. فبعد (37) سنة فقط قتل الملك الشاب الوديع البريء فيصل الثاني وهو في أوائل العشرينيات من العمر، في يوم كان يستعد فيه لإتمام زواجه من خطيبته! وسُحل الحكام بالحبال خلف السيارات في شوارع بغداد! ولا حول ولا قوة إلا بالله!

جذور العنف في الشخصية العراقية

قد يعزو الكثيرون هذه القسوة إلى نزوع للعنف القاسي راسخ طبيعة الشخصية العراقية. لكن هذا التفسير الأحادي يفوِّت على الناظر رؤية بقية أجزاء الصورة. وفي رأيي أن هذه القسوة وليدة عدة عوامل أهمها:

  1. أن العراق هو البلد الوحيد من بلدان الوطن العربي مفتوح الحدود دون وجود حاجز طبيعي كالجبال والبحار يفصلها عن مصادر الغزو الواقعة والمتوقعة؛ لذا كان العراق طوال تاريخه مسرحاً لغزوات الشعوب وحروبها. وبلد مهدد كالعراق لا بد أن تحتمي شعوبه بالشدة التي تختلط بالقسوة ثم لا تفرق بينها وبين الشجاعة حتى تكون القسوة صفة محمودة راسخة في طبيعتها.

انظر إلى الخريطة مرة أُخرى ستجد بلدان الخليج العربي محمية بالبحار من جهة الشرق والجنوب والغرب. والسودان بالبحر شرقاً ومصر شمالاً. كذا جيبوتي والصومال. ومصر محمية بالبحر شرقاً وشمالاً. ودول المغرب بالبحر شمالاً وغرباً، وبدول عربية، أو يكثر فيها العنصر العربي، جنوباً. إلا العراق فحدوده مفتوحة من الشرق على إيران بطول (1458 كم) ومن الشمال على تركيا بطول (331 كم). اللهم إلا الأحواز فهي شرقي الخليج العربي لا يفصلها عن إيران شيء، بل هي في وسط حضنها. وكان الفاصل المائي إلى الشرق منها مصدر خطر لها؛ إذ يقوم بعزلها كلياً عن حضنها العربي! فسهلَ على إيران احتلالها سنة 1925 حين سنحت لها الفرصة على يد الإنكليز.

  • إن سكانية (ديموغرافية) العراق تمتاز بالتعدد العرقي والديني. وقد أسهم الإنكليز في تكريسه عمداً لنوايا مبيتة أطلعت رؤوسها بعد الاحتلال الأخير (2003). يأخذ هذا التعدد صفة الحدية والتضاد الكامل والعداوة حد النخاع بين أحد المكونات وهم (الشيعة) والمكونات الأُخرى خصوصاً السنة منهم، لا سيما العرب من السنة! وكل من جهل أو تجاهل هذه الحقيقة فهو واهم، بل هو أحد أسباب إطالة المأساة وتجذرها. وليس الذنب في أصله ذنب الشيعي، إنما هو ذنب دينه وتشيعه الفارسي. وما دام معظم العراقيين يتجاحدون هذه الحقيقة مودةَ بينهم في الحياة الدنيا، ويزعمون أنه لا فرق بين السنة والشيعة فالمأساة مستمرة، والنار الفارسية جاهزة للتأجج في كل حين. على أنني لا أنكر وجوب التساوي في حقوق المواطنة وواجباتها. لكن الدين من أمر الله؛ فليس لأحد أن يزعم فيه ما ليس منه. المشكلة أن هذا التفريق بين حقوق السياسة وحقوق الدين غير معلوم لعامة العراقيين!

شيء طبيعي إذن أن يواجه المعاناة أضعافاً كل من بقي قابضاً على جمرة الحقيقة، وفياً لها وللحق الذي هو حق لله دون سواه. ومنهم أستاذنا محمود الملاح رحمه الله. لقد لاقى هذا الرجل ما لاقى من صنوف التهجم والاتهام بالطائفية والعنصرية من قبل الجهلة والمتلبسين بالوطنية المتفيهقين المتنافخين بدعوى الوطن الواحد و(الدين) الواحد. و(الإمام) و(كرم الله وجهه) و(عليه السلام). وشيء طبيعي أيضاً أن يكون نصيبه إخمال ذكره وإهمال اسمه، ومحاصرته وطمر مؤلفاته بعد موته في قبر كقبره.

على أن الرجل يتحمل جزءاً من مسؤولية غيابه عن الذاكرة الجمعية لأهل السنة. وتسألني: كيف؟ وأقول: كل نجيب في أي عصر لم ينتقل بفكرته من قوقعة الجهد الفردي إلى فضاء المشروع المؤسسي، سيدخل في غيابة النسيان بعد فترة لن تطول من مغادرته ميدان الحياة. فالعمل المؤسسي – وهذه إحدى مزاياه – أنه ينتج عن ثلة من التلاميذ يحملون فكر المؤسس ومن حوله وينشرونه بين الناس في الآفاق. الأمر الذي يفتقر إليه الجهد الفردي. اللهم إلا إذا اعترض هذه المعادلة – لسبب أو آخر – عامل يغير النتيجة الحتمية، ويحرفها عن مسارها المعتاد.

منذ عرفت الملاح وفكرة التنويه به، وإحياء ذكره ونشر أريج أثره يراود ذاكرتي. ثم تغوص الفكرة بين أمواج المشاغل والفتن والمحن في الأعماق، لتعود بعد لأْيٍ فتظهر فوق السطح تنظر إلى عينيَّ بعينين ملونتين بعتاب المحب الذي يطلب حقه من الوفاء، ويخشى أن لا يكونوا أهلاً للوفاء. فأشيح بوجهي عنهما، وأتطلع إلى يوم أثبت للعتاب أنني على قدر العتاب، وأنني أهل للوفاء. ولكن على قدر الوسع؛ ألم يقل ربنا في كتابه المجيد: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق:7). فكتبت اليوم على قدر ما آتاني ربي من وسع، متطلعاً إلى أفق يسره بعد عسر أسأله أن لا يطول.

صدفة سعيدة هيأها القدر على يد أ. سعيد السويدي

وكان مما آتاني الله في لحظة سعيدة جاءتي على طبق من أطباق  القدر، أن وقعت قبل سنتين على بحث كنت أتمناه عن حياته كتبه الأستاذ سعيد بن حازم السويدي في مجلة (الراصد) الأردنية، منشور في 12 مايو 2013، تحت عنوان يضم عدة بحوث عن (الإنتاج الفكري العراقي في مواجهة التشيع)([1]). وهذا نصه:

محمود الملاح … العلامة اللغوي والشاعر الأديب

ولد في الموصل سنة 1891م، ولازم شيخه العلامة عبد الله النعمة، أبرز علماء السلفية في العراق، والملاح من الأعلام البارزين في العراق، وإنما أحببنا تسليط بعض الضوء على إنتاجه المتميز ودوره الفريد وجهاده الفكري المستمر حتى وفاته عام 1969م رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة، فبرغم مكانته المتميزة بين الأدباء والشعراء وأهل اللغة، لكن الناظر في مؤلفاته المطبوعة يجد أنه تفوق أيضاً على كثير من علماء الدين وأهل الاختصاص بالمعارف الشرعية لاسيما في مجال التصدي للتشيع والفرق المنحرفة كالقاديانية والبهائية.

قومية الملاح

كان الملاح من رموز الاتجاه العروبي الذي يجمع بين الدين والقومية، غير أنه نبذ طريقة القوميين التقليديين في جمع الأمة وتوحيد صفوفها دون أي اعتبار لخطر الوجود الشيعي بخرافاته وجهالاته وخياناته، لذا رأى الملاح أنه لا بد من محاربة الأفكار الدخيلة والغزو الثقافي والدس في كتب الاعتقاد والتاريخ والأدب حتى يسلم للعرب تاريخهم وتراثهم بعيداً عن الدس الشعوبي والتدليس الشيعي، يقول الملاح: (إن اجتماع الأمة على ثقافة واحدة هو جُلّ مطلوبي وإن فاتتها السياسة الواحدة (والتي عليها مدار دندنة القوميين) لأن الأمة إذا حملت روحاً واحدة لا يضرها أن يحمل ساستها أرواحاً مختلفة، والوحدة إنما تتحقق بفهم الحقائق على وجهها، ومهما وقفت العوائق في سبيل الحقائق فسوف يكب العوائق على وجهها إيراد الحقائق على وجهها([2]).

وإيراد الحقائق على وجهها موقوف على الجرأة والصراحة والتجرد من العصبية الحمقاء والتخلي عن المطالع والتضحية ببعض المنافع)([3]).

من هنا تميز الإنتاج الفكري للأستاذ الملاح حيث كان قلمه سيفاً فريداً ووحيداً في مواجهة التشيع، لأن التيار الديني في العراق والعالم الإسلامي كان في غالبه يسير في اتجاه (التقريب والتقارب مع الشيعة)، بحجة التصدي لأفكار الإلحاد والشيوعية، وهو ما دعاهم بشكل أو بآخر إلى التقارب مع الشيعة([4]) بغية توحيد الصف وحماية المجتمع من الغزو الفكري الهدام.

وكان رحمه الله واسع الاطلاع على كتب الشيعة، شديد المتابعة لكل ما يصدر عنهم من رسائل ومؤلفات وأخبار وتحركات ونشاطات، وفي الوقت ذاته كان متابعاً لما يصدر عن السنة المتساهلين الذين نعتهم بـ(المائعين)، فهو يرصد الغزو الشيعي من جهة، والتراجع والتخاذل السني من جهة أخرى، وهذا مما دفعه للوقوف بحزم والمرابطة على هذا الثغر لإيقاظ الغافلين وتنبيه الجاهلين من أبناء وطنه وأمته، ومن أهم مؤلفاته في هذا الشأن:

1- الوحدة الإسلامية بين الأخذ والرد.

2- الرزية في القصيدة الأزرية.

3- تحذير المسلمين من المتلاعبين بالدين.

4- حجة الخالصي: مناقشة الخالصي في بعض آرائه.

5- تعليقات وحواشي على كتاب ابن سينا.

6- تشريح شرح نهج البلاغة.

7- حقائق ودقائق في مقدمة ابن خلدون.

8- البابية والبهائية.

9- الآراء الصريحة لبناء قومية صحيحة.

10- تاريخنا القومي بين السلب والإيجاب.

11- المجيز على الوجيز.

12- نظرة ثانية على مقدمة ابن خلدون.

وللملاح رسائل لم تنشر بعد، بالإضافة إلى مقالاته في صحيفة السجل، وصحيفة الفتح، فضلاً عن رسائله وتعليقاته التي عزم على إخراجها ولم تصلنا.

منهجه:

يلاحظ على آثار الملاح ومؤلفاته ما يلي:

1- قوة العبارة ومتانة الألفاظ وجودتها، فهي اللائقة به كأديب وشاعر ومحقق لغوي، وباحث واسع الاطلاع والنظر.

2- اللغة والتعابير الساخرة التي يعتمدها للنيل من خصمه وفضحه والتعريض بمخازيه وتناقضه وتهافت حُججه وسقوط شبهاته، فالقارئ للملاح لابد له من إلمام جيد بموضوع الخلاف بين المسلمين والشيعة حتى يتسنى له فهم مراد الملاح ومقصده من بعض المفردات والمفاهيم التي تختزل علما كثيرا وخبرة واسعة.

3- شمولية الطرح: فردود الملاح تحيط بالموضوع من كافه جوانبه النظرية والواقعية، الدينية والسياسية والتاريخية.

4- سعة الاطلاع: فمن يطالع فيما دوّنه الملاح يجد بين يديه مكتبة من المؤلفات والرسائل الشيعية والسنية (القديمة والمعاصرة) التي نظر فيها الملاح ونقل منها أو علّق على بعض ما فيها أو نقد شيئا من أفكارها.

فالملاح ليس مجرد مثقف عروبي جرّد قلمه للدفاع عن دينه وتراث أمته، وإنما هو بحاثة محقق وخبير مدقق لا يقل شأنه عن ذوي الاختصاص والمعرفة بعلوم الشريعة ومسائل الدين ومباحثه الدقيقة، وعباراته تدل على خبرته وعمق معرفته بمكائد الشيعة ودهاليزهم في الالتفاف والخداع والدس والتسلل.

يقول الملاح: (إن العالم الشيعي مهما كَبُر لا يخرج عن دائرة الروزخون في تفكيره)([5])، والروزخون: هو خطيب ما يعرف بالمنبر الحسيني الذي يقرأ رواية مقتل الحسين ويستعرض المظالم المزعومة التي تعرض لها أهل البيت ليهيج عاطفة الجهلة العوام. ويقول أيضاُ: (كنت أظن ابن مطهر على شيء من دقة النظر لما بلغني أنه كان يصارع ابن تيمية في ميدان المناظرة فلما وقفت على طرز كتابه هذا (إثبات الوصية) تبين لي أن بعض الحجا مقتطع من الحجارة (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء).. ولا عجب من شيعي أن يكون أديباً وشاعراً لأن الأدب والشعر سمة للشيعة لترجيحهم جانب العاطفة في التنشئة الأولى)([6]).

الملاح ومقاومة الغزو الفكري الشيعي([7])

تكشف جهود الملاح المتميزة عن بُعد نظر وحسن إدراك ووعي للمشكلة، لكنه وعي جاء متأخراً، حيث يقول: “وجدنا ذلك (يعني سب الصحابة والتعريض بذمهم) في جريدة كانت تصدر في العراق قبل عشر سنين لشيعي أبوه مجتهد كبير، ومن هنا تعلم إنّ “التحرش” (يعني الهجوم الشيعي) قديم ولم ننتبه له إلا بعد أن طمي السيل”([8]).

كان الملاح يتابع كل خبر أو مقال أو كتاب يصدر حول الفرق والنحل لاسيما التشيع فيرصد ما يكتبه الفريقان (السنة والشيعة) ثم يدون تعليقه إما بمقال أو مصنف صغير أو رد وافٍ، وكانت جريدة السجل لصاحبها الأستاذ الفاضل طه الفياض العاني رحمه الله هي الساحة الأولى التي يستعرض فيها الملاح إبداعه الفكري وتميزه ودقة نظره وعمق تجربته.

حرص الملاح على إيصال رسالته إلى كافة مكونات المجتمع الإسلامي على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية، كالأزهريين والصوفيين والعلمانيين؛ فقد أورد مناقشةً جرت بينه وبين أحد الصوفية في كتابه “المجيز على الوجيز”، كما حذر من خطورة “دار التقريب” في القاهرة محذراً الأزهريين وعلماء مصر من عواقب بقائها.

كما كتب مخاطبا حكام تركيا العلمانيين قائلا: (ولا يزال في تركيا اليوم رواسب باطنية برغم الانقلاب الكمالي، ونسمع عن بعضهم أشياء ربما كانت الحكومة التركية غافلة عنها باعتبارها علمانية! ونرى من مصلحة الحكومة التركية أن تفتح أعينها برغم علمانيتها، وأن تنوط التهذيب الديني بعلماء مدركين كيلا يكون لتسويلات الباطنية منافذ في الشعب التركي العزيز، فقد بلغنا أن في تركيا اليوم مشعوذاً معلوماً يروّج بين الطبقة الغافلة (صاف دل) سلع الباطنية البائرة، ستكون رأس رمح في المستقبل، ولا يغر الحكومة مبدأ (حرية العقيدة) إذ ليست كل عقيدة تستحق الحرية، لاسيما إذا كانت غطاء لأغراض باطنية فهي بمنزلة جمعية سرية تغذيها جمعيات سرية من قريب أو بعيد)([9]).

التصدي لمكر التقريب المزيف

حرص الملاح في كثير من مؤلفاته على فضح محاولات التقريب التي يقوم بها الشيعة، والتي كان يرى فيها محاولات للتخدير بغية نشر الفكر الشيعي وتشويه الحقائق وطمسها.

وكان يتوجه بالنداء المحذر والنذير المتكرر إلى أعلام الأزهر، يقول الملاح: (متى يدرك المغفلون أن هذه النجاسات (بعد أن سرد نماذج من غلو الروايات الشيعية) لا يشتغل بها قلب طاهر؟ ومتى يقنع أدعياء “الوحدة الإسلامية” أن مخازيهم قد افتضحت فلا سبيل إلى تصديق دعاويهم ولا الاستماع إلى دعاويهم؟ والإشكال ليس هنا، بل الإشكال في العمائم المتدحرجة إلى دار التخريب

فلو أن دائي من حبيب مقنع     عُذرت، ولكن من حبيب معمم

فأرشدكم الله يا أمثال أبي زهرة ومحمد عرفة، فقد أصبحت عناوينكم ماركة معارة لترويج بضاعة (المغارة) فمتى تستيقظون)([10]).

ويقول أيضاً: (من هذا الباب (يعني التقيّة) فتك (فحل التقريب) – ولعله يقصد الخالصي- في فحول أهل مصر! فمنهم من قضى نحبه كالشيخ عبد المجيد سليم وعلي علوبة باشا والقليبي ومنهم من ينتظر كبعض كبار العلماء، وسوف أتعقبهم حتى يعلنوا براءتهم من دار التقريب)([11]).

ويركز الملاح على محاولات المرجع محمد مهدي الخالصي الذي تظاهر برفض بعض البدع الشيعية وأظهر الترضي عن الشيخين ودعا إلى الوحدة والاجتماع، واغتر به بعض أهل السنة، فكان الملاح له بالمرصاد لاسيما في كتابه “الوحدة الإسلامية بين الأخذ والرد”.

وفي بعض مؤلفاته كان الملاح ينعت الخالصي بـ (دجال مدينة الجهل)، يعني بذلك مدرسة “مدينة العلم” التي كان يرأسها في الكاظمية ببغداد، كما نعته في بعض المواضع بـ(ابن مطهر عصره) باعتباره داعية إلى التشيع كحال ابن المطهر الحلّي صاحب كتاب “منهاج الكرامة” الذي ردّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه القيم (منهاج السنة).

الملاح وتهمة ” الطائفية “

عانى الملاح مما يعاني منه المتصدون للتشيع في زماننا من الاتهام بالطائفية وإثارة النعرات المفرقة، ولذلك كتب موضحاً ومبيناً: (إنما يهمنا أمر الطوائف التي لها بيننا دعاة كالاثنا عشرية والبهائية والأحمدية المنتمية إلى غلام أحمد القادياني، ولهؤلاء وسائل ماكرة قولية وعملية وتحريرية، ولذلك لا ينبغي حمل عملنا على التحرش ولا وصمنا بالطائفية؛ لأنا مدافعون والدفاع حق شريف)([12]).

تغييب الملاح

يقول الأستاذ أحمد دهش النعيمي: (لقد غُيّب الملاح كآخرين مثله نالهم ما ناله من التغييب عن الساحة الأدبية والفكرية في حياته وبعد مماته والتي وسّعت لكثير من العراقيين، وكذلك للكثير من القادمين من المجهول وكبروا باسم العراق ونالوا مباركته بشتى الوسائل، و”ملاحنا” كان بعيداً عن كل الوسائل سوى وسيلة الصدق بالحق التي لا تروق للكثيرين فهو بعلمه ملاح سفينة قد سافر في عبابه والآخرون يجدفون في زوارق لا يتعدون المياة الضحلة قرب الساحل وشتان، وقد قيل قديماً: إن البغاث في أرضنا يستنسر)([13]).

انتهى بحث الأستاذ سعيد حازم السويدي.

على موقع (ويكيبيديا) وجدت المعلومات التالية:

استدعي للخدمة العسكرية ليعمل جندي كاتب في الحرب العالمية الأولى في حلب فالتقى هناك بعلمائها واستفاد من علمهم رجع للموصل بعد نهاية الحرب

في عام 1919م سافر إلى سوريا في مهمة وطنية وعهدت له الحكومة السورية وظيفة لأنه يندر في ذلك الوقت من يحسن العربية في دوائر الدولة وبقي فيها إلى أن احتلت سوريا من قبل الفرنسيين وعاد إلى الموصل. وعين في دار المعلمين وثانوية في بغداد عام 1920م وضيق عليه واستقال واكتفى بالتدريس في المدارس الأهلية.

اختير للتدريس في العسكرية وألغيت وظيفته فاختار العزلة والمطالعة والكتابة في الصحف. وانتخب نائباً عن لواء (محافظة) الموصل قبل الحرب العالمية الثانية إلى أن وافاه الأجل ليلة الأربعاء 19 مارس 1969م.

جهودة الدعوية

ساهم في شبابه في بث الوعي الإسلامي والقومي عن طريق الشعر والخطب الحماسية وتشجيع النشء الصاعد على التمسك بالأخلاق وآداب العرب والمسلمين لإعادة الأمجاد والمفاخر العربية كان واسع الاطلاع غزير العلم بالأدب والنقد الأدبي والشعر والتاريخ واللغة وكان موسوعيا ودائرة معارف متنقلة. دعا إلى التمسك بالدين الإسلامي ودعا إلى وحدة العرب والمسلمين وإلى نبذ التعصب والرجوع إلى الحق فكثر أعداءه.

جهوده في مجال العقيدة

أخذ على عاتقه التصدي للشعوبيين والمنحرفين الذين سولت أنفسهم بالدس والكذب على ديننا. بيّن زيف العقائد المنحرفة كالبابية والبهائية والأحمدية والقاديانية وقال عن البابية أنها حركة نبتت من إيران غير مستمدة من الخارج. ولما بطش بها الإيرانيون تحولت إلى بهائية واتصلت بالاستعمار لتحميها.

تكلم عن القرامطة – وأستاذها من العبيدين (آل القداح) – على أنها حركة طائفية أشربت معنى الشيوعية وهي شعبة من الإباحية. واستفادوا من المزدكية لاجتذاب الشباب وكانت شيوعية مزدك في النساء والأموال. وتكلم عن ثورة الزنج… وتكلم عن كثير من العقائد الزائفة كالشيخية والسبئية والبابكية والخرمية والخوارج.

جهوده في الإعلام

كان يراقب ويرصد المجلات والكتب وبعد مراجعتها يرد على من افترى وعلى من يبث الأكاذيب حول نبينا أو تاريخنا، والويل للكذاب أو من يدس أنفه فيما يرى الملاح أنه غير صحيح؛ فقد دبج المقالات للرد على فحول الأدباء والعلماء وكان يخرج من تلك المعارك منتصراً. بل كانت تلك المعارك تزيده قوة فهو المحقق والمدقق لكل ما ينشر ليعقب بعد ذلك إلى كل من هو منحرف وكان كالسيف الصارم على الشعوبية.

أصدر مجلة التجديد في بغداد عام 1928م.

كانت له ندوة في بيته أسبوعية يحضرها محبوه وعارفوا فضله من العلماء والأدباء والمؤرخين. وتكون النقاشات والتعليقات على الكتب القديمة والجديدة. يقول الشيخ إبراهيم السامرائي البغدادي أنه كان يحضر كل إسبوع ليسمع التعليقات على الكتب وما فيها من تشويه ودس على الإسلام وأهله. وكان من ضمن الحضور طه الفياض صاحب جريدة السجل والأستاذ محمد صالح العبيدي والأستاذ جعفر مال الله والأستاذ علي البصيري والأستاذ حميد المحل والسيد سعيد عباس الراشيدي وغيرهم.

والشيخ يونس السامرائي له كتاب بعنوان مجالس بغداد الطبعة الأولى عام 1985م .

أبرز رسائله وكتبه:

المهدي والمهدوية

المجوسية المبرقعة

تشريح شرح نهج البلاغة

ديوان شعر من جزئين أو ثلاث.

2023/5/15


[1]– https://www.alrased.net/main/articles.aspx?selected_article_no=6146

[2]– من خلال تجربتي الطويلة أستطيع أن أقول: أن قومية الملاح أو عروبته، بتعبير أدق، الممتزجة بالربانية هي التي جعلته يعرف التشيع هذه المعرفة الشمولية العميقة، ويقف من أصحابه الموقف الذي يتناسب وشعوبيتهم وذيليتهم للفرس، إلا ما ندر. ولو كان متديناً ذلك التدين التقليدي ما نبغ هذا النبوغ!   

[3]– الوجيز، ص 4.

[4]– يراجع ما كتب عن نشاط الإخوان المسلمين في تلك الفترة: الإخوان المسلمون في العراق لمحسن عبد الحميد، الإخوان المسلمون في العراق لإيمان عبد الحميد الدباغ، صفحات من تاريخ الدعوة الإسلامية في العراق لمحمد محمود الصواف، أمجد الزهاوي: عالم العالم الإسلامي لكاظم أحمد المشايخي.

[5]– المجيز على الوجيز، ص 105، هامش.

[6]– الرزية في القصيدة الأزرية، ص79.

[7]– الغزو الشيعي ليس غزواً فكرياً أو عقائدياً فحسب، بل هو غزو شمولي بكل ما في الوصف من معنى!

[8]– المجيز على الوجيز، ص84، هامش1.

[9]– المصدر السابق، ص110.

[10]– المصدر السابق، ص78-79.

[11]– المصدر السابق، ص99، هامش 1.

[12]– المصدر السابق، ص87.

[13]– ديوان الملاح، جمعه: أحمد دهش النعيمي ص19.

اظهر المزيد

‫4 تعليقات

  1. جزاه الله خير عن كل ما قدمه من مؤلفات ووقوفه بوجه الشيعة الشعوبية ،رغم نتاجه الغزير لكن عمله الفردي أدى إلى عدم انتشار مؤلفاته العمل المؤسسي هو الضامن لانتشار الفكر بعد مشيئة الله .

  2. مقالة رائعة عن الأستاذ والمفكر محمود الملاح
    أول مرة إقرأ سيرته واعرف أنه واجه التشيع والشيعة
    وحذر منهم وإنذر من خطورتهم بين أهل السُنة
    للأسف دائما الشعوبية تخفي وتغيب سيرة كل من يواجه
    أفكارها ومعتقدتها ضد الأمة السُنية العربية
    بوركت جهودك شيخنا الفاضل لما كتبت وبينت
    سيرة الأستاذ محمود الملاح ومواقفه وجهاده الفكري

  3. لتخليص أهل السنة من الفتنة والإنقياد للصوفية والإخوان والمعممين في كل مجزرة, يجب توضيح الحقيقة التاريخية أن ابي حنيفة النعمان هو شريك ابي مسلم الخراساني في المؤامرة على الإسلام والمسلمين والإفتاء لأبي مسلم الخراساني بذبح مليون رجل دول دولة عربي بحجة ولا ئهم لبني أمية. وهو أول من قال بخلق القرآن وأول من أول النبيذ الي يعرفه العرب غير مُسْكِر, بأنه الخمر وأباح الخمر بناء على ذلك وأباح للمرأة ان تُزوج نفسها دون مشورة اهلها, و توكيل اي كان من سقط الشوارع في نزويجها واهلها ينظرون لا حيلة لهم. سجنه ابو جعفر المنصور للإستتابة, لكنه أماته الله في سجن ابي جعفر المنصور ولم يَتُبْ, وبقي على عقيدة القرآن مخلوق وليس كلام الله. والمعتزلة والأشاعرة والخوارج والصوفية هم خلف ذلك التلف. ومنذ الظاهر بيبرس ووفاة العز بن عبد السلام , وأشاعرة الأزهر وشيعته وصوفييه وخوارجه يدُسّون الأحاديث في صحيح مسلم والبخاري ويجبرون اتباع كل عالم مسلم ان يصبح اشعريا.

اترك رداً على أبوعبدالإله إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى