مقالاتمقالات أخرى

دور الروايات الشعوبية في تشويه سيرة الأمير الأموي خالد القسري

أ. العنود الهلالي

ينطلق التاريخ من الوثائق والمصادر الأثرية والمكتوبة، هذا أمر لا شك فيه، وهو ضرورة ملحة بالنسبة للكتابة التاريخية، وبدونه تفقد قيمتها الحقيقية، فيغدو الأمر وكأنه مجرد قصص أسطورية أو روايات مختلقة.

لكن هذه الضرورة الملحة لا بد معها من اتباع أسس وقواعد علمية كالتحري الدقيق للموضوعية، والابتعاد عن الذاتية والإيديولوجية وإلا جاءت مشوّهة ومُشوٍّهة وهذا ما حدث لتاريخ الدولة الأموية؛ فقد لعبت العداوة والبغضاء التي تغذيها الشعوبية دورا هاما في تزوير الحقائق وتشويه المنجزات وكان ممن طالت سيرته الروايات المُشوِّهة الوالي الأموي خالد بن عبد الله القسري الذي ذكرت في المقال السابق نبذة يسيرة عن منجزاته التي خلدها التاريخ كشاهد حق لا يمكن تزويره.

لكن الذي يقرأ في المصادر التاريخية حول سيرة هذا القائد الأموي الفذ يجد تناقضا عجيبا واضطرابا مريبا في تناول المؤرخين لسيرته ما بين مادحٍ وقادح. ثم ما إن تتبع أمر هذا الاضطراب والتناقض حتى ينكشف لك طرف منه لتدرك أن للشعوبية يد طُّولَى في هذا التناقض؛ فقد تأثر المؤرخون بما نقله صاحب كتاب الأغاني ابي الفرج الأصفهاني الشيعي الشعوبي الذي اعتمد في ترجمته للقسري على الكذابين والمجروحين وذلك نهجه في كتابه و”من تأمل كتاب الأغاني رأى كل قبيح ومنكر” كما قال ابن الجوزي.

ماذا قالت كتب التاريخ عن الوالي الأموي خالد بن عبد الله القسري

أولا: اتهامه بالنصب

قال الذهبي: (خالد بن عبد الله القسري الأمير: ناصبيٌ سبّاب)، وقال في موضع آخر: (صدوق؛ لكنه ناصبي جلد)، وقال أيضا: (صدوق؛ لكنه ناصبي بغيض، ظلوم. قال ابن معين: رجل سوء يقع في علي). ثم تجده في موضع ثان يقول: (وكان جوادا ممدحا، معظما، عالي الرتبة، من نبلاء الرجال، لكنه فيه نصب معروف).

ويقول الدكتور بندر الهمزاني حول اتهام الذهبي لخالد القسري بالنصب وسب علي رضي الله عنه: (ما ذكره الذهبي قد وجدته في خبرين رواهما ابن عساكر من طريق الفضل بن الزبير قال: سمعت خالدا القسري وذكر عليا فذكر كلاما لا يحل ذكره. ومن طريق عبد الله بن أحمد قال: سمعت يحيى بن معين قال: خالد بن عبد الله القسري كان واليا لبني أميه، وكان رجل سوء يقع في علي بن أبي طالب” وعلى كثرة ما طالعته في اعداد هذا البحث من مصادر ومراجع لم أجد سوى هذين الخبرين المذكورين عند ابن عساكر، وعنه انتشرا واشتهرا ..)[1]. وكلا الروايتين لا اسناد لهما، بل الراجح أن هذه الروايات تعتمد في اساسها على أزعومة ” سب علي على المنابر على عهد الأمويين” وقد بين الدكتور طه الدليمي تهافت هذه الاكذوبة في إحدى حلقاته على قناة اعلام التيار السني في العراق. أما اتهامه بالظلم والجور فلإنه أرسل سعيد بن جبير الخارجي إلى الحجاج وهذا الفعل الذي يعدونه خطيئة لخالد القسري هو منقبة يشكر عليها، فسعيد بن جبير كان ممن يرى رأي الخوارج ويدعو للخروج على الخليفة، رغم إحسانه إليه. إذن هو قتيل الشرع والقانون كما قال الدكتور طه الدليمي.

ثانيا: اتهامه في دينه وزعمهم أنه بنى كنيسة لأمه النصرانية

مصدر هذه التهمة هو كتاب الأغاني للشعوبي أبو الفرج الاصفهاني وقد نقلها عنه ابن خلكان بينما لم يذكرها المتقدمون في ترجمتهم للقسري. ويفند الدكتور بندر الهمزاني هذه التهمة فيقول: (وهذا منتهى السخف على الحقيقة؛ لأنه لا يعقل ولا يمكن أن يتصور عاقل بأن يقبل المسلمون آنذاك هذا من خالد؟ كما لا يمكن ولا يتصور عاقل بأن يفعل خالد هذا ثم لا ينقله سوى أبو الفرج في أباطيله وتخاريفه التي لا يعرفها غيره. وهذا خبر عن كنيسة في ظهر قبلة المسجد وفيها ضرب بالناقوس، يعني أنها لم تكن شيئا خافيا، بل كانت معلنة مسموعة للقاصي والداني، فما الذي منع كافة الناس عن نقل هذا الخبر؟ وتركه للأصفهاني المتهم بالكذب لينفرد به دون العالمين؟)[2].

إن هذا التشويه الممنهج الذي طال كل ما يمت للتاريخ الأموي بصلة يجعلنا ندرك مدى أهمية ما يدعو إليه الدكتور طه حامد الدليمي من تجديد في الكتابة التاريخية العربية على أساس الهوية السنية؛ فهذا المطلب الحضاري يفرضه واقع المجتمعات العربية الذي بات في حاجة إلى وعي فكري وتاريخي جديد ينظر للتاريخ من خلال مشكلات العصر، لننتقل بالتاريخ من مستوى البحث في مظاهر الأحداث إلى محاولة فهم دوافعها الكامنة حتى لا يستمر الشعوبيون في نخر ثقافتنا برواياتهم المسمومة فيشكلوا من خلالها معرفتنا التاريخية كما يشتهون.


[1] خالد القسري حياته وتاريخه

[2] ترجم كل من ابن قتيبة وابن حبيب وابن الكلبي لخالد القسري وذكروا أنه من أبناء النصرانيات ولم يذكروا شيئا عن بنائه كنيسة لأمه.

اظهر المزيد

‫13 تعليقات

  1. احسنتي البحث والتحقيق ياستاذه العنود
    صار الامر واضح وجلي كل من مدحه الشعوبيين فهو متشيع وخدم الخرافة الشيعية وكل من قدح فيه الشعوبيين معناها اذاقهم الويل ووقف في طريق مشروعهم الفاسد كملوك الامويين

  2. الدولة الأموية تاريخها العظيم الحافل بالانتصارات والفتوحات قد تعرض لحملات تشويه مكثفة طالت كل أطراف الدولة الأموية قادة وولاة وأمراء وخلفاء وحتى العلماء, بحيث الذي يقرأ تاريخ الأمويين في بعض المراجع القديمة والحديثة أيضا يشعر كأن الدولة الأموية ليست سوى دولة علمانية, لا تعرف شرع الله, يحكم خلفاؤها بأهوائهم وتتحكم فيهم شهوتهم.

  3. حسبنا الله ونعم الوكيل فعلا التاربخ مزور والحقائق مشوهة من قبل المغرضين الذين دسو الدسائس وشوهو الامويين لانهم اقاموو شرع الله في الارض

  4. فعلا ما قاله شيخنا الفاضل طه الدليمي
    هو مطلب أساسي لإنقاذ تاريخ العربي الأموي
    ورسالتهم الإسلامية وماذا فعلت الشعوبية
    من تحريف وتشويه سيرة قادة الدولة الأموية
    وكيف زرعت ثقافة سوداء اخفت إنجازات
    قادة بني أمية …مقالة قيمة بوركتي لهذه
    الجهود الأدبية وما تحمل من كلمات واقعية
    نسأل الله لكي التوفيق والسداد …أستاذة عنود

  5. وأنا إقرأ المقاله خطر ببالي سؤال؟
    لماذا لم يطعن في الدولة العباسية
    وقادتها الفرس وكيف مكنتهم
    من رقاب العرب والمسلمين
    وماذا فعلوا عند تمكينهم
    من قتل العلماء وكل من يقف
    ضدهم أم إن الشعوبية صامته
    ولن تتكلم بحرف عنهم حتى
    يومنا هذا!!
    @@@@@@@@@@@@
    هنيئا لمن رزقه الله ما يطرحه
    الدكتور طه الدليمي من منهجية قرآنية ربانية
    وعقلية حرة تحمل القضية السُنية وفق الله الجميع
    ومن سار على هذا الطريق.

  6. الدولة الأموية صاحبة الفضل على العرب والمسلمين ،لذلك صب الشيعة حقدهم عليها بتحريف تاريخ ولاتها ومنجزاتهم .

  7. ‎جزاكِ الله خيراً على هذا المقالة التي تبين برائة الامير الاموي خالد بن عبدالله القسري فإن ماسعى اليه الفرس واتباعهم الشعوبين بتحريف تاريخ الدوله الامويه العظيمه كان اهم اهدافهم التي حققوها من اجل أن يأخذوا ثأر امبراطوريتهم من العرب جميعا وتحقق مرادهم . واليوم مهمت ابطال التيار السُني في تبين هذه الحقائق سلمت الانامل التي كتبت بها استاذة عنود

  8. يكفي ان القدح جاء بكتاب( الاغاني)
    فهو كتاب معروف بأن اغلب الروايات المدسوسة فيه.
    وإذا اتبعنا منهجية ثابته في التوثق من صحة الروايات بالنظر لزمان معين ومكان معين وحقبة معينة نجد المستفيد من كل هذا التشويه والدس المتعمد والهدف منه.
    جزاك الله خير اختي الكاتبة على المقال الأول والتكملة

  9. كل من واجه الفرس فكرياً وثقافياً وعقائدياً وسياسياً وتاريخياً وعسكرياً يكون تحت مرمى التشويه والطعن في كل العصور والى يومنا هذا من قبل الفرس وذيولهم ولهذا كانت الدولة الأموية وقيادتها ورموزها لها النصيب الأوفر بهذا الشأن. أما دون ذلك يكونون معززين مكرمين عند الفرس لابصيغت المحبه ولكن بصيغة المخادعة والمكروالاختراق.

  10. كلما قرأت موضوعات مشابهة لهذه المقالة كلما أدركت تفاهة النقولات التاريخية التي شوهت سيرة عظماء الأمة، وهذا راجع لكثرة ترديد مثل هذه الأكاذيب حتى صارت كالمسلّمات يتناقلها كاذبٌ عن كاذب!
    والمفروض أن تخضع مثل هذه النقولات إلى التدقيق والتمحيص (فكفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكل ما سمع).

  11. بسم الله الرحمن الرحيم
    جزى الله الأستاذة العنود خير الجزاء
    لو لم يكن التاريخ أمر مهم لما أخذ حيزا واسعا من القرآن الكريم، وتحتل تنقية روايات التاريخ أمرا مهما، حيث وكما قال الدكتور طه الدليمي: (التاريخ يصنع ثقافة والثقافة تنتج سلوكا)، وقد ينبني على ذلك السلوك مخاطر كبيرة، كما يحدث في العراق وغيره من جرائم للمليشيات الشيعية بحق المسلمين، حيث لم تأتي تلك الجرائم إلا نتاجا لروايات تاريخية مزيفة صنعت ثقافة فأنتجت ذلك السلوك

اترك رداً على أنس الأندلسي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى