مقالاتمقالات أخرى

نقط المصحف شاهد على الجهود الاصلاحية للحجاج بن يوسف الثقفي

أ. العنود الهلالي

كتب القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه خاليا من الشكل والإعجام[1]، ولم يخش عليه من الالتباس؛ لأن العرب يدركون القرآن بسليقتهم، وأرسلت النسخ المكتوبة إلى الامصار ونسخوا على غرارها مصاحف كثيرة خالية من النقط والشكل. وخلال تلك الفترة توسعت الدولة الإسلامية، ودخلت أممٌ كثيرة لا تتكلم العربية في الإسلام؛ ففشت العُجمة بين الناس، وكثر اللحن، حتى بين العرب أنفسهم؛ بسبب مخالطتهم لغيرهم من العجم وبدأ يظهر اللحن رويدا رويدا. ولما كان المصحف غير منقوط خُشي عليه أن يتطرق له اللحن والتحريف. “وكان أول من التفت إلى نقط المصحف الشريف هو زياد بن أبيه؛ ولذلك قصة، وهي: أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى زياد عندما كان واليًا على البصرة (٤٥-٥٣هـ‍) أن يبعث إليه ابنه عبيد الله، ولما دخل عليه وجده يلحن في كلامه، فكتب إلى زياد يلومه على وقوع ابنه في اللحن، فبعث زياد إلى أبي الأسود الدؤلي يقول له: (إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت مِن ألسنة العرب، فلو وضعت شيئًا يُصلح به الناسُ كلامَهم، ويعربون به كتاب الله). فاعتذر أبو الأسود فلجأ زياد إلى حيلة؛ بأن وضع في طريقه رجلا وقال له: إذا مرّ بك أبو الأسود فاقرأ شيئًا من القرآن، وتعمد اللحن فيه. فلما مرّ به قرأ قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، بجرّ لام رسوله، فشق ذلك على أبي الأسود، وقال: (عزّ وجه الله أن يتبرأ من رسوله). وقال لزياد: (قد أجبتك إلى ما طلبت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن)”[2].

استمر بعد ذلك اهتمام ولاة وخلفاء الدولة الأموية بالقرآن الكريم من خلال اهتمامهم بالكتابة العربية فبذلوا الجهود لضبطها والمحافظة على قراءة العربية وبخاصة القرآن الكريم بصورة صحيحة. وقد برز الحجاج بن يوسف الثقفي في هذا الجانب فكان لإصلاحاته اللغوية أبلغ الأثر في المحافظة على كتاب الله من اللحن والتحريف والتصحيف.

 دور الحجاج بن يوسف الثقفي في ضبط الكتابة العربية

أولى الحجاج عناية خاصة بالقرآن الكريم وليس ذلك بالأمر الغريب فقد نشأ وتأدب في كنف والده الذي كان يعلّم أبناء الطائف القرآن، وهو من سادات ثقيف واشرافها، كما أن الحجاج أيضا عمل بعد أن شب في تدريس القرآن وتعليم العربية، ثم أنه – رحمه الله – كان محبا للقرآن يكثر من قراءته والاستشهاد به في خطبه. وعرف عنه أن كان يقدّر أهل القرآن ويكرم حفظته.

وقد ذكرت آنفا أن والي العراق في خلافة معاوية – رضي الله عنه – زياد الثقفي كان أول من تنبّه لخطورة اللحن والتصحيف في ذلك العهد المبكر؛ فقام بتكليف الدؤلي الذي وضع النقط التي تميّز الحركات والتنوين؛ لكن هذا الضبط لم يكن كافيا فاستمر اللحن والخطأ.

أدرك الحجاج خطر استمرار هذا اللحن والتصحيف وما قد يسببه من فرقه وخلاف بين جماعة المسلمين. وقد أورد ذلك العسكري في كتابه شرح ما يقع فيه من التصحيف والتحريف وبين أنه لما:” كثر التصحيف وانتشر بالعراق، فزِع الحجاج إلى كُتّابه، وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشْتَبِهةِ علامات.”[3] وفي موضع آخر ذكر أن إعجام القرآن تم في عهد الحجاج وقد أدى بذلك خدمة عظيمة للغة العربية، وساعد في تطور الكتابة العربية ونحوها وآدابها. ومن جهوده أيضا تجزئة القرآن، ووضع إشارات تدل على نصف القرآن وثلثه وربعه وخمسه، ورغّب في أن يعتمد الناس على قراءة واحدة، وأخذ الناس بقراءة عثمان بن عفان، وترك غيرها من القراءات، وكتب مصاحف عديدة موحدة وبعث بها إلى الأمصار.

إن هذا الجهد المبذول في الإصلاح اللغوي وضبط قراءة القرآن الكريم ليس إلا حلقة في سلسلة طويلة من الإصلاحات السياسية والإدارية والاقتصادية والزراعية التي قام بها الحجاج إبان ولايته على العراق والمشرق. وبذلك ندرك أن تاريخ أعلام الإسلام كُتب بأيدٍ مختلفة التوجّه، وقراءة هذا التاريخ دون إدراك لهذا الأمر سيجعل سيرة هؤلاء الأعلام مشوهة في أعيننا، لذا لا بد لمن يريد الإفادة من دواوين التاريخ أن يفتح عينه ويستحضر وعيه أمام كل سطر كتب، فيطالعه بوعي ويقظة وحذر؛ ولا يكون ذلك إلا من خلال قراءة واعية لا تخضع للأحكام المسبقة التي غرست في الوعي الجمعي للأمة تجاه الكثير من الشخصيات التاريخية العظيمة.


[1] الاعجام في اللغة: إزالة الإبهام، أَعجَم الكتاب: أزال عُجمته وإبهامه بوضع النقط على الحروف لتمييز الحروف المتشابهة كالتاء عليها نقطتان، والياء تحتها نقطتان ونحو ذلك.

[2] محمد سالم العوفي، تطور كتابة المصحف الشريف وطباعته.

[3] الحسن بن عبدالله العسكري، شرح ما يقع فيه من التصحيف والتحريف.

اظهر المزيد

‫14 تعليقات

  1. الحجاج رحمه الله رغم الحقائق التاريخية الثابتة عن سيرته مع القرآن الا أن صوت التشويه كان اعلى واقوى فرسخت الصورة المشوهة وظلمه التاريخ مرتين ..
    مرة باخفاء انجازاته
    ومرة بتشويه سيرته وتسويد صفحته البيضاء المشرقة

  2. الله .. الله
    رضي الله عن الحجاج وعن ابيه وعن الخلفية العظيم عبدالملك بن مروان الذي توسم فيه الخير ومنحه كل تلك الصلاحيات ليظهر نبوغ الثقفي ويلمع نجمه في تاريخ الاسلام

  3. هذه القراءة الجديدة للتاريخ تجعلنا نطمئن على الاجيال القادمة
    سيروا على بركة الله أيدكم الله بنصره وسدد خطاكم

  4. رحم الله الحجاج الثقفي كان بطلا في حروبه وبطلا في اصلاحاته وبطلا في ولائه لدولة الاسلام

  5. التاريخ العربي والجغرافي يفوق كل الحضارات التي مرت على الارض فهي دوما متميزة و ميزتها لها اثر يطغى على جميع من حولها شكرا استاذة عنود .

  6. تاريخنا مليئ بالرجال العظماء امثال الحجاج ومعاوية رضي الله عنهم
    و الى اليوم يغدقون علينا بانجازاتهم واهمها أحجامهم و ألجامِهم للفرس
    جزاك الله خير استاذه العنود

  7. الحجاج عظيم من عظماء الأمة لذا توجه له الطعون وتلفق عليه الحكايات ويوصم بأبشع الأوصاف وهذا شأن العظماء الذين تحملوا الأمانة وأوصلوا الرسالة وتركوا بصمتهم في التاريخ والواقع.
    فالحجاج أجل من أن يُغمط حقه أو يُنسى فضله أو تُجهل أعماله وإنجازاته وتنقيط القرآن الكريم إحداها، والدراسات الكثيرة والمؤلفات التي ظهرت في السنوات القليلة الماضية والحالية نقحت وأظهرت الكثير من سيرته المشرقة بعد أن شابها ما شابها من الكتابات الشعوبية والفارسية الحاقدة.
    بارك الله في الأخت الفاضلة التي سلطت الضوء على أحد هذه الإنجازات التي عُرف بها الحجاج دون غيره.

  8. بوركت أناملك كلما اقتربنا من التاريخ الصحيح
    تشرق إنجازات الحجاج رحمه الله أكثر وأكثر
    مقال جميل يجعلنا نفتخر بعظمها أنا ورموزنا
    الأمويين رضوان الله عنهم اجمعين

  9. رحم الله هذا الرجل العظيم الحجاج بن يوسف الثقفي أحد قادة الأمة الذي له الفضل الكبير في عدة مجالات عسكرية واقتصادية وأمنية ليكمل إنجازاته بتنقيط القرآن وهي أعظمها.
    أمر مهم أن ينصف هذا الرجل وخاصه بعدما شوهت سيرتة ودس فيها بقصد النيل من قادة الأمه وذلك كله بفعل المؤسسة العميقة .

  10. أحسنتي أستاذة.. أحسن الله علمك وتقبل صالح عملك. المكر الذي مارسه الفرس وأذنابهم من مغفلي العرب هو التعمية على كل منجز يحمي معدن الأمة التي أنزل الله رسالته فيها وبعث رسوله منها وأوحى كتابه بلغتها..
    فكانت خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.. فنجحت وصلحت وأصلحت بشهادة الله تعالى وليست شهادة المزيفين والزائغين المغفلين.
    فلم يغمض للفرس جفن في الهدم والتخريب والتحريف وشيطنة أعمدة العرب وأطفاء معالم حضارة الإسلام فكرا وإصلاحا حتى جعلوا الإسلام مجموعة تراتيل محصورة في زوايا ضيقة معزولة عن المجتمع لا تصلح للواقع بل تراث قديم عفى عليه الدهر وغطته أتربة الجدل والخلاف والتفرق.
    والأمة تغط في كرى الغفلة وفقد الهوية وجمود الحركة الواعية.
    ولذا ترى أن التاريخ مليء بالبغض لشجعان الأمة الواعين الذي حمو الاسلام وبنوه فكرا وحضارة وحفل بمآثر عباد معزولين عن الحياة أذكوا الفتن وأطفأوا نور الوحي وهذا هو مراد ابناء مزدك ومجوسية إيران.
    وبهذا أبرز سعيد بن جبير بمآثر التقووية والملئكية واعميت انجازات الحجاج رحمه الله.

  11. تاريخنا حضاره ثقافيه يحمل بين طيات صفحاته انجازات ثُقاف امثال الحجاج بن يوسف الثقفي قائد الامه العضيم ومجدد عصرهِِ ، بوركتِ استاذه عنود على هذه المقاله التي اضهرتِ فيها انجازات اخرى للثقفي تطغي على طعن الفرس بتاريخنا الحضاري.. هكذا يُقرأ التاريخ

  12. رحم الله الحجاج وغفر له.. سبحان الله وانا أقرأ بالمقال هذا والى عظيم ما يصنع الامويين من خدمة لدين الله! اقول عجيب كيف يتهمهم ليس فقط الشيعة بل كثير من السنة! كيف يتهموهم بأن غايتهم الملك والرياسة وليس همهم دين الله والحق!
    الذي يحرص على القرآن ويعتني به! هل يوجد اعظم من هذا العمل! سخرهم الله واستخدمهم لحفظ دينه.. هنيئاً لهم ورضي الله عنهم.

  13. الحجاج لديه قيادة بارعة وإدارة نافعة ومهمة لما فيها من فائدة عظيمة للمسلمين وخاصةً تنقيط القرآن وهناك انجازات حققت المزيد من الفتوحات ليم يحققها غيره ولهذا توالت علية سهام الحقد من الفرس وشيعتهم وذيولهم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى