المحدودية النسبية للأفق العلمي عند الأقدمين وافتقار الدولة إلى مؤسسات الأمن العلمي والثقافي
د. طه حامد الدليمي
بين العلوم – مهما بدت متباعدة في موضوعاتها – وشائج كثيراً ما تصل إلى حد توقف أو قصور الإحاطة ببعضها ما لم تفهم في ضوء بعضها الآخر. وكثير من العلوم استحدثت بعد وفاة أجيال وأجيال تركوا لنا تراثاً علمياً يتوقف اكتماله على وجود تلك العلوم التي لم تكن وجدت أو اكتملت في زمانهم. من هذه العلوم التاريخ واللغات والنفس والاجتماع والسياسة والقيادة.
أرجو أن يكون مقصودي بـ(محدودية أفق الأقدمين) قد توضح الآن. مع علمي بأن كثرين يعتبر كلامي هذا أشبه بالكفر؛ لأن كل قديم يكتسب قدسية زائفة لدى معظم العوام وهم جمهور الناس. وعادة ما يحجم العلماء عن كسر هذه الصنمية خشية الجمهور؛ فيفهم الناس أن هذا السكوت علامة الرضا عن المسكوت عنه. وحين يطفح الكيل يظهر قلة من العلماء ينكرون هذا العبث، الذي يراه العامة عين الصواب. ويراه معهم كذلك كثير من أهل العلم التقليدي؛ لجمود عقولهم ومحدودية أفقهم. على أن محدودية الأفق مشكلة بحد ذاتها تعم حتى ذوي العقول المرنة من العلماء. وهذا يعقِّد مَهمة المصلحين. ويجعل صعوبة الإصلاح تتكرر عبر العصور.
شيخ الإسلام ابن تيمية.. هذا العملاق في الفكر والفقه وعلوم الدين، والواقعية في التفكير، دعك من الشجاعة بكل معانيها، يقف عند بعض عُقد التاريخ دون أن يقدم حلاً لها. خذ مثلاً موقعة الحرة؛ إذ يقر باستباحة المدينة من قبل جيش أمير المؤمنين يزيد، وهي أكذوبة فارسية شيعية. كذلك الخلاف بين علي ومعاوية. نعم قدم فيه رؤية أصوب من غيره، لكنه لم يكن على جادة الصواب إنما في أطرافه. والسبب اعتقاده بصحة حديث: (تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق). فقال بأن علياً أقرب إلى الحق من معاوية. أما الحق الصريح فمع من اعتزل الفتنة كسعد وابن عمر رضي الله عنهم جميعاً.
ولو حقق الحديث لبان له ضعفه. ولو افترضنا صحة السند، فإن ذلك لا يلزم منه إخراجه عن قيد الظن والاحتمال؛ إذ هو حديث آحاد. والظن لا يصمد بوجه كون حيثيات الخلاف بين الرجلين لصالح معاوية لا لصالح علي. فالحديث مخروم الصحة من ناحية المتن أيضاً. وأما القول بأن المعتزلين للقتال هم أهل الحق الصريح فلا يصح لسببين:
1. إن الأمة في فتنة عامة فهي أحوج ما تكون إلى أولي قوة وأولي بأس شديد ينصرون الحق ويقضون على الفتنة، أكثر من حاجتها إلى عاجزين غاية أمرهم أن يعفو الله عن تقصيرهم.
2. يقول الحق جل جلاله في مثل ما كان عليه الطرفان من قتال: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:9، 10). فأمر بقتال الطائفة الباغية، لا الاعتزال والجلوس في البيوت.
والطائفة الباغية هم الذين قتلوا أمير المؤمنين عثمان، ثم احتموا بعلي. وقد استجابت الأمة فقاتلت هذه الطائفة على جولتين. الأولى: في موقعة الجمل بقيادة طلحة والزبير، وقد قُتلا وسلم البغاة. والثانية: بقيادة معاوية، وكانت نهاية الأحداث وتطوراتها لصالحه. أما علي فكان الواجب عليه أن يقتص من القتلة، وكان قادراً على ذلك لو أراد. أو على الأقل يصطلح مع معاوية، ولو سراً، فيكون له ما يريد. لكنه فضَّل قتال القوة الأكبر على قتل أو قتال البغاة الذين كانوا في جيشه. والدليل على صحة وصف القوة – التي فضّل علي مقاتلتها – بوصف (الأكبر) أنها هي التي انتصرت في النهاية على علي وعلى البغاة. وقول علي أنه لا يقدر على البغاة يتناقض مع قتاله من هو أقوى منهم؛ فإن استعداده لقتال القوة الأكبر يشير إلى أنه قادر على قتل أو قتال القوة الأصغر، وهي الطائفة الباغية. والله أعلم. ولا يسعنا هنا إلا أن نستغفر للفريقين، ونترضى عنهم.
“نحن نهتم بالمنعة على حساب المناعة”
كلمة لفتت نظري للنابغة الموصلي الأستاذ محمود الملاح رحمه الله قرأتها له قبل عشرين عاماً. والأستاذ الملاح كان له باع طويل في بناء المناعة ضد الغزو الفكري الشـرقي ببغداد في منتصف القرن الماضي وما قبله.
ما فائدة أن تبنى الجامعات، وينشر الكتاب، وترعى المكتبات، وتنمى الثقافة إذا كانت المؤسسات المشرفة تدار من قبل أناس مغسولي الأدمغة لصالح الشرق أو الغرب؟ ثم بعد عقود تغزى العواصم بكل أنواع الغزو وأهلها غافلون باسم الوطن والوطنية والعشيرة والمصاهرة والزاد والملح والجيرة، ساهين لاهين عن حقيقة المؤامرة؟
من يحمي العلم والثقافة من السرطان؟
ما فائدة العلم بلا وعي ولا جهة عليا تحقق لنا (الأمن العلمي)؟ هكذا اهتم صدام حسين بـ(المنعة) وحقق النصر على (الفرس)، لكنه ترك ثغور (المناعة) بلا حراسة؛ فلمن كان النصر في النهاية؟ وأيش نفعت المكتبات والمتاحف والجامعات ودور النشر وبقية صروح العلم والثقافة؟ هذا هو شأن الأنظمة السياسية والنظم العلمية السائدة في المنطقة العربية اليوم!
حين قلبت وجوه النظر في بعدَي التاريخ والجغرافيا وجدت الداء، ليس مستشرياً فحسب، بل ضارباً بجذوره بعيداً في تربة علومنا ومحصول ثقافتنا.
التركيبة النفسية البشرية
النفس البشرية تركيبة متحدة من أخلاط مختلفة أولها الطين والروح؛ لهذا جعل الله تعالى دينه متوافقاً مع الفطرة التي خلق الإنسان عليها، كي يلبي حاجاته المنبثقة عن هذه الفطرة. ولعل هذا من أسرار ترتيب القرآن الكريم بحيث تجتمع فيه المعاني بطريقة غير مألوفة، غير مبوبة، بل وغير مرتبة في الظاهر فتحتاج إلى تدبر لإدراك سر العلاقة الرابطة بينها؛ يبدو أن هذا كان مراعاة لهذه التركيبة في الخطاب والعلاج. وهو إذ يعرض لمسألة فقهية – مثلاً – يعالجها من الناحية الإيمانية والنفسية والاجتماعية والقانونية والظرفية، وحتى المادية إن اقتضى الأمر. ولا يقتصر على الحكم الفقهي الأصلي. وكذلك إذا عرض للأخبار والإشاعات المشوشة، ويشير إلى اليد التي تحرك الخبر (حديث الإفك مثلاً).
وهكذا كان شأن مقدمي الصحابة وقادتهم، ومن أخذ بنهجهم. لكن بمرور الزمن، اقتضى التطور وجود نوع من التخصص في العلوم. وانزلق التخصص إلى نوع من الفصل بينها وصل حد الفصام. فالمحدث بعيد بما يكفي عن الفقيه، عن المؤرخ، عن المفسر وغيره وغيره. ونادراً ما يتهيأ للمرء أن يحيط بأقوال هؤلاء جميعاً لتتكون لديه الصورة الكاملة للنظر إلى الشيء والتعامل معه. فأمسينا منذ قرون نفتقر إلى هذه المنهجية الربانية المتكاملة.
كانت البيئة النفسية تساعد على نمو هذا الخلل. وأساسها طيبة العرب، ووقوعهم في مطب الإسقاط لهذه الطيبة، على الضد تماماً من الفرس: خبثاً وإسقاطاً. مع استثناء البعض هنا وهنا. وهذه طبائع شعوب تنتج عنها ظواهر اجتماعية قائمة، لا حالات فردية مؤقتة.
ما نحتاجه اليوم إحياء القراءة التكاملية للأشياء، وهذا في حاجة إلى وجود العقل الذكي والجهد المؤسسي القوي.
بينما تتلاطم وتتفاوت الاخبار والاحداث وتمر بسرعه جنونيه يأيتينا ذلك النور والوقار والحكمه والنظره الثاقبه تخونني المعاني والكلمات فالشيخ طه حفظه الله بالنسبه لي ثوره ضد كل المفاهيم الباليه ثوره على الظلم الذي وقع لرموز الامه ثوره على الدس والتحريف والتخريف والتزييف حفظك الله شيخي وسدد رميك وأنار بصيرتك وزادك من علمه وأيدك بنصره.
منذ ايام وانا اقرأ بكتاب العقيدة الواسطية لابن تيمية. رحمه الله. وطريقة النواصب يوذون أهل البيت بقول وعمل فشيخ الاسلام ذكر كلمة النواصب أنهم يوذون أهل البيت بدون الرجوع الى اصل الكلمة التي اخترعها الشيعة واتهموا بها أهل السنة بأنهم يبغضون علي !! والأمر الثاني عندما ذكر علي في نفس الكتاب عن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب بينما بالمقابل عندما ذكر أبو بكر وعمر وعثمان لم يقل عنهم أمراء المؤمنين!! ويقول من لم يربع بعلي فهو أضل من حمار أهله. قبل عدة أيام وانا استمع الى شيخ سلفي من كركوك يشرح بكتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب رحمه الله. وعندما ترجم حياة علي جعلوه بمنزلة الانبياء تقريبا بينما يذكر باقي الصحابة يمر عليهم مرار الكلام. هو يشرح بكتاب التوحيد وفي نفس الوقت يشيع الناس. ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
مقال مهم سلمت يمينك دكتور ..
هذا الوعي الجديد الذي تبثه في الأمه وتوقظ به الغافلين جهد عظيم ندعو الله ان يبارك فيه ويسددك دوما لكل خير
الحقيقة ان العنوان شدني كثيرا وفكرت كيف سيكون المحتوى اذا كان العنوان صادم هكذا ..
لكنني بعد ان اطلعت على المحتوى وقرأت ما فيه طمعت أكثر بالاطلاع على مقالات اخرى للكاتب واشعر الان بعد ان اخذت جولة داخل هذا الموقع أنني ممتن جدا لصاحب المقال وشاكر جدا لهذا الموقع الذي اعتقد ان ما يطرحه من فكر واراء تجديدية يعد خطوة لا سابق لها في فكرنا العربي
ارجو لكم السداد والتوفيق
من اجمل المقالات سلمت يمينك دكتور ودام قلمك….
المشكلة في سور التقديس الذي تم ترسيخ اعمدته على مر العصور حول تاريخ اختلط حابله بنابله
ومن يقترب منه تكال له التهم ويعترضه من بحاجة الى ايقاظ وتوعية اصلا بذريعة حماية الارث التاريخي
حقيقة نحن ممتنون لك دكتور طه بفضل الله ثم فكرك ووعيك احييت فينا فعلا حرية اختيار الطريق والتمييز بين الحق والباطل ، بعدما كنا نشابه عبدة الاصنام لحد كبير ونحن لاندري لله درك وعلى الله أجرك????
لوسألنا احد الجامدين على هذا التراث ان سائقآ يسير مسافة الف كيلو متر دون أن يزودها بالوقود او يبدل زيت المحرك او يضيف الماء سرعان مايقول لك لايمكن ذلك اذن كيف تقبل بتاريخ عمره اكثر من الف سنة دون تنقيح او تجديد او تبديل الفكر الذي اجتحته الماكنة الفارسية
الله يرض عنك د.
على هذا المقال وهذه القراءة العميقة،
خلاصة الكلام مايلي؟
ما نحتاجه اليوم إحياء القراءة التكاملية للأشياء، وهذا في حاجة إلى وجود العقل الذكي والجهد المؤسسي
مقال يكشف المخطط الشعوبي الفارسي الذي يتمثل بالمؤسسة الخبيثة الفارسية علينا أن نعمل لتنقية الفكر السني من هذه الشوائب التي إخترقت كتبنا وثقافتنا
طالما نحن محكومون بهذه الطبقة العلمانية ( في كل الدول العربية و الاسلامية باستثناء افغانستان …و افغانستان فقط ) فالاهتمام سينصب على المنعة لا المناعة لان العلمانيين لا ثقافة اسلامية ولا وعي اسلامي بسبب فقدان الغيرة على الاسلام وهذا عز ما يريده و يتمناه الشيعة ..هل علمتم الان لماذا نحن باحوج ما نكون الى حكم اسلامي ينشر الوعي بين المثقفين و حتى العوام ولا نكتفي بالعبارة السخيفة ( طالما الحاكم مسلم و ينطق بالشهادتين فهو شرعي وواجب البقاء ) ستنهار حصوننا الواحدة تلو الاخرى بسبب حكام يقدسون عروشهم قبل دينهم ..هذا ما اراه ..و لكل رأيه ..و الله الموفق
التحصين يااخوان لابد أن يأتي قبل التكوين كتنسيق ودور ، فثغور المناعه التي ذكرت في هذا المقال هي عائده لعدم تحصين العقول بمضادات (antibiotics) تفي بأن تقيك وتكسبك المناعه اللازمه لتحصن فكرك من عدم تعرضه للجمود التصنيمي القابل للتنخير من قبل مايكروبات التدسيس السامه.
ومضادتنا الفكريه هنا لن تكون كأي لقاح أو ادويه عاديه
بل ستكون بإنك تعي التاريخ وتقرأه قبل أن يقرئك وتبتعد عن جموديه التقديس والتصديق المطلق للروايات والأحاديث دون فحص وان يكون الكتاب هو البوصله لإيضاح الطريق. بوركت دكتور على هذا المقال وجزيت خيرا
نعم نحن بحاجة إلى ثورة فكرية
لتعيد للأمة السُنية العربيةمناعتها
ونشاطها ضد الأفكار والثقافة الفارسية
بوركت شيخنا الكريم
جزاكم الله خيرا وبارك الله فيكم وزادكم من فضله فضلا وقبولا تحياتي لكم
المشروع السني الرباني بقيادة المجدد الدكتور طه الدليمي ووعي أصحابه يسبر أغوار المؤسسة العميقة التي أغرقت كتب التاريخ بالاساطير العلوية ،التغيير سوف يحصد روايات حمراء الكوفة بمتنها وسندها ،ولن تنطلي علينا بعد اليوم اخبار ذو الفجار ولاذو الفخار ،فالسيوف الأموية هي من حملت الرسالة في ربوع الأرض .
سلمت يداك شيخنا بارك الله بعلمك وعمرك.