مقالاتمقالات أخرى

ثقافتنا.. بين المفاهيم المغلوطة والفقاعة الفكرية

أ. معاوية الميلب

تُعد المجتمعات العربية مجتمعات جماعية، يقول علماء الاجتماع: “يميل الإنسان في مثل هذه المجتمعات لمسايرة الناس وعدم الإفصاح عن آرائه الصادمة لمن حوله؛ كي يحظى بالقَبول الاجتماعي”.

وفي مقدمته، يقول ابن خلدون: “الإنسان إجتماعي بطبيعته”. والحياة -عادة- في المجتمعات الجماعية تجعل الإنسان أكثر قابلية للتأثر بآراء الآخرين أو إظهار وجه مساير للمجتمع -هذا فضلًا عن كثير من إيجابيات هذه المجتمعات- وهنا يُفضّل الإنسان الحياة السهلة والعيش في المنطقة الدافئة، متجنبًا السير لمناطق قد تأتي له بالحُمّى.

بمعنى أن الإنسان في مثل هذا المجتمع يتجنب الخوض بقوانين ومفاهيم شائعة خاطئة شكلت ثقافة جمعية لا مكان للشك فيها في هذا المجتمع. ويقول نيتشة: “أتريد حياة سهلة؟ إبق إذاً في القطيع وانسَ نفسك في القطيع”.

بين القائد والمقلد

القادة الاستثنائيون لا يروق لهم العيش في المناطق الدافئة أو )حياة القطيع(، بل يتلذذون بصعوبة الحياة، وهذا بكل تأكيد ينفر منه التقليديون! وإن الناظر لمسيرة التقدم البشري لا يرى للتقليديين شأن فيها، بل قادها أُناس استثنائيون مجددون قرروا المخاطرة، فنجحوا! أما الثقافة السنية فأكثر ما يهددها هو التقرب من منطقة الراحة، أما إذا ما أراد السني أن يكون قائدًا ورائدًا ومجددًا في جيله ومتقدمًا على أصحابه ومُقَدّمًا عليهم، عليه أن يحظر تلك المنطقة من على خارطة ذهنه. والشاعر يقول:

درب الكسالى نعيمٌ في مسالكِهِ

أما الطموحُ فتدمى دونه المقلُ

بين شيوع الفكرة وصحتها

إن انتشار فكرة ما بين الناس وشيوعها ليس ضماناً لصحتها، فكثيراً من الأفكار والأحاديث والروايات والأقوال الشائعة غير صحيحة، لكن شيوعها أضفى عليها الشرعية والقَبول في المجتمع، والحكم بشرعيتها بقانون (أنها شائعة) ظلمٌ وجرمٌ كبير، وبشيوعها كوّنت مفاهيمًا مغلوطة، ولكن تواطأ الناس على قبولها وتداولها.

والمفاهيم المغلوطة من الآفات والعِلل الخطيرة التي أكلت كثيراً في ثقافتنا السُنية، وفي الوقت الذي شرع التيار السُني بمكافحتها ثار عليه المصابون بها وبدأوا يصرخون اعتراضاً، عجبًأ، يدعوهم للعلاج ويدعونه للسقم!

بين التصلب الذهني والتجديد

يعاني مجتمعنا السُني من مشكلة (التصلب الذهني)، وهو يضرب بجذوره في تاريخنا، ولكي يستقيم أمر أهل السنة ونحقق تجديدنا للمفاهيم علينا التغلب على هذا المشكلة، ونجدد تلك الآلية البدائية في التفكير، وللتغلب على هذه المشكلة وحلها لا بد من ممارسة:

1. التجديد.

2. الشك المنهجي.

3. الخروج من (الفقاعة الفكرية)، التي أُحيط بها أهل السُنة من بعد سقوط الدولة الأموية.

فكان لاعتماد الشيعة والشعوبية على المغالطات الفكرية (البهلوانية) الدور الكبير في جر الثقافة السُنية إلى هذه الفقاعة!

يقول الدكتور طه الدليمي: “الفرس مهرة في صناعة الأقفال ووضعها على العقول لجعلها تعاني من عوق فكري، وهذا أصاب شيئاً منه عقول أهل السُنة، وبهذا عملوا (تعويقًا) في العقل الجمعي للأمة المسلمة”.

وكذلك قال: “استخدم الشيعة سياسة: (دفن الموانع، أو القفز عليها)، وبذلك استطاعوا أن يبرزوا أشياء، ويخفوا أخرى، ويشوهوا التاريخ، ويشوهوا صورة عظمائنا، واستطاعوا كذلك بهذه السياسة أن يلتفّوا على نصوص القرآن ونصوص الحديث، وهنا انخذع أهل السُنة خدعة كبيرة، وسيدنا يزيد مثال واضح بتطبيق هذه السياسة عليه، بتغطية فضائله، وبث الروايات بذمه”. وأقول: قد صدق الدكتور -حفظه الله-، فعمل الشيعة قديمًا ولا زالو على تجريد العقول من الحصانة والمَنَعَة الفكرية، ليسهل لهم إدخال الأوبئة والأمراض إليها، وقد نجحوا فعلاً في مغالطة كثير من مفاهيمنا وشَبكِها بشباكهم وأقفالهم الموبوءة! وهنا يصدق بنا قول أبو حامد الغزالي: “من لم يشك لن ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر تاه في متاهات العمى”. وأقول: حين لم يشك كثير من أهل السُنة في كثير من مفاهيمهم السائدة، ولم ينظروا في المتغيرات والنوازل، بقوا في المتاهات يترنحون، وهنا تشَكّل لهم تراكمًا فكريًا مغلوطًا! والحقيقة أن الأمية الفكرية والعمل بالروايات والأحاديث بعيداً عن (الربانية) هي التي أنتجت لنا هذا الكم الكبير من المفاهيم المغلوطة والمرتبكة!

وثَمَّة كثير من المفاهيم والقواعد التاريخية البدعية، وهي من أبخس القواعد التي ظلمت الحقائق وزيفت التاريخ وميعت الهوية، وجعلت كفة الشيعة ثقيلة في كتب التاريخ، وكفة السُنة طائشة فهمًا وحقًا. وهنا أقول: إن التيار السُني يعتمد في فكره على الفلسفة الملتزمة (قطعي الثبوت والدلالة)، وغير الملتزمة (ظني الثبوت والدلالة) في الحكم على الأحاديث والمفاهيم والروايات، فالأولى تبدأ من منطلق عقائدي محدد وتسلم بموضوع فكري معين.

اما الثانية فلا تسلم بكل شي قبل بحثه وتحليله والبرهنة عليه ومحاكمته بالقرآن، فهي هنا تُفَعِّل قانون الشك المنهجي وقانون التجديد. فكثيراً من الأفكار والمفاهيم والمرويات تحتاج منا أن نكون عليها قضاة عدولًا لا نقضي بها حتى نزن جميع الحُجج بميزان دقيق!

وما أكثر أضابير الدعاوى على طاولة محكمتنا السنية.

اظهر المزيد

‫14 تعليقات

  1. إن التيار السُني يعتمد في فكره على الفلسفة الملتزمة (قطعي الثبوت والدلالة)، وغير الملتزمة (ظني الثبوت والدلالة) في الحكم على الأحاديث والمفاهيم والروايات، فالأولى تبدأ من منطلق عقائدي محدد وتسلم بموضوع فكري معين، اما الثانية فلا تسلم بكل شي قبل بحثه وتحليله والبرهنة عليه ومحاكمته بالقرآن.

    هذا لعمري هو المنهج الحق الصحيح الذي انحرف عنه جمهور أهل السنة (خواصهم وعوامهم) غفر الله لهم وهداهم.

    فضيعوا الثابت والصحيح بالالتهاء بما هو ظني عن ما هو ثابت، والحقائق لا تقوم بالظنيات بل باليقينيات الثابتة، وأي شيء يتم الاحتكام فيه الى الظنيات، فإن منزلته أقل من الأمور التي يحتكم فيها الى اليقينيات، فالحكم بالتكفير مثلاً على أمور ظنية لا يقين فيها هذا انحراف وعبث! وقس على هذا …

    جزاك الله خير استاذ معاوية على طرح هذا الموضوع في بيان منهجية التيار السنّي في الحكم على الافكار والروايات والاحاديث …

  2. بارك الله فيك استاذ معاوية.
    مقال جيد جداً فيه تشخيص المشكلة ووضوح الفكرة والتطبيق في الواقع.. وهذا هو الهدى الذي يوصل إلى الغاية المنشودة والهدف السامي.

  3. أجدت الإبتداء وأحسنت الإنتهاء، نعاني من كسل في الانتاج متعلق بتشوه في الافكار وعلى العامل مهما بلغ موقعه ومهما اختلف عنا فكره أن يعلم أن بعدنا عن النصر والتمكين يعني وجود ركام من التشوهات الفكرية والأوهام على مستوى نظرتنا للدين ولرموزنا ولتأريخنا، إن هذا الركام الفكري هو ما يفسر عدم صلاحنا لخلافة الأرض وإمامة الدين.
    إن قبولنا للأدلة اليقينية في العقيدة لا يعني قبولنا لبعض أحاديث الفضائل(مثلا) لأن من سبقنا إستحسنها وتساهل بقبولها! علمنا بالعقل والنقل وعن طريق العقائد المنحرفة أن بعض المرويات ما هي إلا طعم في سبيل قبولك لنظرة تلك العقيدة المنحرفة، ومن ثم إستسلامك لتلك العقيدة ، لذا كان لزاما أن نُفعّل البحث المنهجي وما أسماه جنابكم(الشك المنهجي) الذي يعكس برهنة تلك المفاهيم والمرويات.

  4. مقالة تعرض العلة والتشخيص والعلاج.
    فالناس أصبحت تخاف من “بعبع” الحديث والروايات بسبب ما أقحمته المؤسسة العميقة ومساعدة حمقى المصححين لأكاذيبهم وإعطائها قوة ليست لها ووظيفة تساوي بل تتعدى وظيفة القرآن الذي قال فيه الله “كتاب أحكمت آياته ثم فصّلت..” ، بينما الحديث منطقيًا وبقول جميع العلماء أنه ظني الثبوت فلا يرقى لدرجة اليقين مع ذلك لا يتجرأون أن يفندوا بعض الأحاديث التي تذم وتطعن وترفع وتنزل من تشاء -بطريقة غير مباشرة وربما مباشرة- بل يسلموا بها كالعبيد! هذا أبسط وأوضح مثال من حياتنا بل مأساتنا مع عامة الناس.. ، الحديث يطول وأكتفي بهذا القدر.
    بوركت أستاذ معاوية

  5. مشكلتنا تقديس الروايات والأحاديث وتفوقها على القرآن الكريم حتى لوكان الحديث والروايات تطعن بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه رضي الله عنهم وأمهات المؤمنين والطعن بأنساب العرب مأخوذة ومقبولة عند أهل السنة لأنها في صحيح مسلم والبخاري
    هذه الاقفال التي وضعوها الفرس أن كل مافي مسلم والبخاري صحيح.
    وهذا يتناقض معَ معجزة الله القرآن الكريم ،
    يقول الشافعي أبى الله أن يتم إلا كتابه.
    بوركت استاذ معاوية على هذا المقال

  6. ((‏أصعب، المعارك للإنسانّ، معركة الوعي، وأسهلها ،معركة العاطفة، الأولى تضيء والثانّية، تخدر!!))
    أهل السُنة اليوم بحاجة إلى معركة وعي مستمرة
    لكي يتحرروا من هذه الأقفال الفكرية والثقافية
    البائسة والتي مكنت أعداؤنا.. بوركت جهودك
    واحسنت الطرح مقال قيم ومهم لواقعنا

  7. عندما وصلوا الفرس إلى عمق الدولة الإسلامية أدركوا بأن لا يمكن السيطرة عليهم إلا ‏باختراق شيء يخدمهم في الحاضر والمستقبل وكانت هذه الكتب هي الهدف الاول لهم وللتخلص من زيف بعض الاحاديث نعرضها على القرآن فأن تطابقت معهُ فهذا أمر جيدا أما إذا كانت غير ذلك فأن الفرس هم من قيدوها داخل الكتب .
    بوركت أناملك على هذا الموضوع الرائع

  8. عندما وصلوا الفرس إلى عمق الدولة الإسلامية أدركوا بأن لا يمكن السيطرة عليهم إلا ‏باختراق شيء يخدمهم في الحاضر والمستقبل وكانت هذه الكتب هي الهدف الاول لهم وللتخلص من زيف بعض الاحاديث نعرضها على القرآن فأن تطابقت معهُ فهذا أمر جيدا أما إذا كانت غير ذلك فأن الفرس هم من قيدوها داخل الكتب .
    بوركت أناملك على هذا الموضوع الرائع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى