مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

صحة ثبوت الدليل ليست الشرط الوحيد للاحتجاج به

د.طه حامد الدليمي

أصل الدين نصوص منقولة نقلاً أميناً عن النبي e: كتاباً ثم سنة. ولكن الاحتجاج بالنص المنقول – وإن كان صحيح النقل – على المعنى المطلوب ليس على إطلاقه بحيث يسلّم بحجية أي نص على أي معنى مطلوب أو موضوع مطروح. بل ذلك خاضع لمنهج حكيم ذي طرفين أولهما: النص الوارد، وثانيهما مورد النص، أي الموضوع الذي يستشهد بالنص للدلالة عليه.

إن صحة النص شيء، والاحتجاج به شيء آخر.

قد يصح النص سنداً ولا يصح متناً، وقد ينعكس فيصح متناً ولا يصح سنداً. وقد يصح سنداً ومتناً ولا يصح حجة! وشرها الرابع: الضعيف السند والمتن.

القرآن الكريم فرّق بين حجية النص نسبة إلى موضوعه

فرّق القرآن الكريم في قبول شهادة الشهود حسب الموضوع المشهود فيه؛ فشدد في شروط قبول الشهادة إذا كان موضوعها الزنا فلا يقبل فيها دون الأربعة عدداً. مع تشديدات أُخرى. فإذا تطرق الظن إلى تلك الشهادة ردت. بينما لو شهد اثنان من الأربعة أنفسهم في موضوع آخر كالسرقة قبلت شهادتهم. وهذا معناه صحة قبول شهادة الشاهد في موضوع وردها على الشاهد نفسه في موضوع آخر. بل في بعض المسائل تقبل شهادة واحد مثل ثبوت رؤية هلال رمضان.

ليس هذا المنهج العلمي الدقيق طعناً في الشاهد، بقدر ما هو صيانة للمشهود عليه؛ وتقديراً لخطورة الموضوع المشهود فيه وما يترتب عليه من إزهاق للأنفس وطعن في الأنساب، وإساءة بالغة لسمعة الفرد وجماعته.

مجمل القول أنه كلما كان خطر الموضوع كبيراً في ذاته تطلب ذلك تشدداً في شروط إثباته.

صحة ثبوت الدليل ليست الشرط الوحيد للاحتجاج به

تكلم العلماء عن تفاوت النصوص في درجة حجيتها من حيث الثبوت والدلالة.

1. فالنص القطعي في ثبوته ودلالته أعلى درجة في الاحتجاج من النص الظني في أحدهما أو كليهما معاً.

2. وتكلموا عن النص من حيث موضوعه؛ فالنص الصحيح سنداً يصلح الاحتجاج به في موضوع، ولا يصلح في موضوع آخر:

3. وفرّق العلماء بين الاحتجاج بالنص الظني الثبوت والدلالة في فروع الفقه عنه في أصول الإيمان، فيقبل الظني في الفروع ولا يقبل في الأصول التي اشترطوا لها النص القطعي الثبوت والدلالة، وهو صريح المتواتر.

4. وفرّقوا بين النص الفقهي والنص التاريخي. فيقبل نص ضعيف السند في موضوع تاريخي بحت، بينما قد يُرَدُّ مثله في موضوع يتعلق بالأحكام.

5. ووضع الحنفية والمالكية شروطاً للأخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة السند.

أ. شروط الحنفية للأخذ بخبر الآحاد خمسة:

الأول: أن لا يخالف الصحابي روايته بعمله، فإن خالف روايته وعمل بخلافها فالمعتمد عمله لا روايته.

الثاني: أن لا يخالف الحديث نص القرآن ظاهراً، إذ يرون أن خبر الآحاد ظني من حيث ثبوته بخلاف النص القرآني فهو قطعي في ثبوته.

الثالث: أن لا يكون موضوع خبر الآحاد مما تعم به البلوى.

الرابع: أن لا يكون الخبر مخالفاً للأصول الشرعية والقياس إذا كان الراوي غير فقيه.

الخامس: أن لا يخالف الخبر عمل كبار الصحابة: فمخالفة خبر الآحاد لما كان عليه عمل كبار الصحابة يضعه في موضع الشك من حيث ثبوت نسبته للنبي e.

ب. وأما شروط المالكية للعمل بخبر الآحاد فهي:

الأول: أن لا يكون الخبر مخالفاً لعمل أهل المدينة: فعمل اهل المدينة عند المالكية بمنزلة روايتهم عن النبي e، ورواية جماعة عن جماعة أحق أن يعمل بها من رواية فرد عن فرد. فأهل المدينة أدرى الناس بآخر الأمرين عن رسول الله e.

الثاني: أن لا يكون الخبر مخالفاً للقياس والأصول القطعية.

نخلص من هذا بنتيجة مهمة يهملها عامة المحتجين بالحديث من المتأخرين، فيعاملون الموضوعات التي يناقشونها جملة واحدة، بلا تفريق بين موضوع خطير وآخر بسيط، وكل الذي يتركز عليه اهتمامهم هو صحة الحديث أو صحة سنده دون النظر إلى درجة صحته، أو قوة دلالته، أو اختلاف موضوعه. فيتم إثبات أمور عظيمة بأحاديث اختلف في صحتها، أو لا تصح لذاتها دون إسنادها بشواهد ومتابعات. وهذا مخالف لمنهجية البحث العلمي. فعلى قدر خطورة الموضوع تكون شروط الإثبات.

وتزداد المنهجية اختلالاً عندما يتوهم صاحبها أن عدم قبول الاحتجاج بمثل هذا النص على موضوع معين، يعني الطعن في صحته مخالفين علماء حديث كباراً بذلوا الجهد في تحقيقه حتى وصلوا إلى تصحيحه. والحقيقة أنه لا تلازم بين الأمرين.

خطورة موضوع الملك والخلافة

هذه الشروط طبقها الفقهاء حتى مع أحاديث الفروع الفقهية التي لا يضر الخلاف فيها، فكيف ينبغي أن يكون الموقف من أحاديث موضوع خطير كـ(الملك والخلافة) يتعلق بأصول الحكم وسياسة الناس؟

لو أجرينا مقارنة بين موضوع الخلافة والملك وبين عامة الفروع الفقهية نجد ما يلي:

1. موضوع الخلافة والملك أخطر بكثير من الفروع الفقهية التي لا يترتب على الاختلاف فيها ضرر كبير فيسوغ فيها تعدد الآراء واختلاف الفقهاء. فهو أمر خطير في ذاته، وفي تداعياته. وقد رتب المعارضون للمُلك عليه نتائج خطيرة، وبنوا مفاهيم كبيرة منها:

– إثبات نظام مقدس للحكم باسم (الخلافة) أوجبوا على الأمة العمل به دون غيره.

– الذم المطلق للمُلك، وهو نظام الحكم الذي قامت عليه دولة الإسلام معظم عهودها جاعلين إياه النقيض النوعي التام لـ(الخلافة) بحيث تقدس الخلافة مطلقاً ويجرم المُلك مطلقاً، حتى تجرأ أحدهم فوصف المُلك بأنه (نظام كفر وفجور)! هذا كله وليس لديهم في الجنوح إلى هذه المجازفات آية صريحة من القرآن الكريم، أو حديث صحيح لذاته من حيث الثبوت، صريح محكم من حيث الدلالة.

– التعرض بالسوء لصحابي جليل، بل صحابة أجلاء، وقلب حسناتهم إلى سيئات.

– الطعن في الحقبة الأموية طراً، وهي من أخصب حقب الإسلام وأكثرها بركة، وكانت في زمن خيرة القرون.

– تعدى ذلك عند بعضهم إلى الطعن في تاريخ الإسلام الذي امتد زهاء ألف وثلاثمئة عام، وهو تاريخ خلفاء كلهم ملوك.

– فتح الباب واسعاً أمام أعدائنا، وفي مقدمتهم الشعوبية، للنيل من صحابة نبينا وأصل ديننا وتاريخ أمتنا.

– وقد يسل بعضهم السيوف مستقبلاً على حكم ينطوي على جميع شروط الحكم الراشد، سوى أنه لا يتسمى بـ(الخلافة). وليس هذا بمستبعد؛ ولذلك لا بد من حسم الأمور المهمة والمفاهيم الخطيرة قبل وقوعها؛ لا سيما وإرهاصات التغيير القادم تلوح في أفق الحدث الراهن .

2. إن أي فرع فقهي – أو عقائدي – إذا ترتب عليه مثل ما ترتب عند المخالفين من تداعيات الخلاف في موضوع الخلافة والملك من الذم وإبطال الشرعية وإيجاب الخروج على الحاكم، والتنابز، والتفسيق الذي وصل به بعضهم حد التكفير، وغير ذلك مما أوردناه آنفاً.. ارتقى من درجته التي هو عليها في الأصل إلى درجة أُخرى خطيرة لا تقبل فيها إلا الأدلة التي تتناسب ودرجتها في الثبوت والدلالة. وجلد الزاني شاهد على ما أقول؛ إذ هو فرع فقهي لكن لخطورته تشدد الشرع في دليله (أربعة شهود عدول)، وجعله نصاً صريحاً يتلى في القرآن نفسه. فموضوع الخلافة والملك أحق بذلك من باب أولى.

كانت أحدى نتائج غياب هذا المنهج العلمي السليم في تأسيس المفاهيم، هذا التخبط الشديد في معرفة الحكم الإسلامي الرشيد، وما تبعه من تداعيات أضرت بالعلم والثقافة لدى الخاص والعام. ولو كان هذا المنهج حاضراً لما أقيم هذا الصرح الكبير من المفاهيم على أحاديث رد كبار علماء السلف، من أئمة المذاهب وغيرهم، الاحتجاج بما هو أقوى منها على ما هو أهون من موضوعها. الحنفية – مثلاً – لم يأخذوا بحديث أبي هريرة t المتفق عليه: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب)؛ وذلك لأنه ثبت لديهم عن أبي هريرة أنه اكتفى بالغسل ثلاثاً من ولوغ الكلب. فخالف بعمله روايته. ومن شروط الاحتجاج بالحديث عند الحنفية أن لا يخالف الصحابي روايته بعمله. على أننا مع ذلك ناقشناها لاحقاً، تلك الأحاديث وبيّنّـا عدم دلالتها مع افتراض صحتها.

وأكرر قولي: إنني لا أتحدث عن صحة الحديث من ضعفه، وإنما عن مدى حجيته نسبة إلى موضوعه، فما كل ما صحت روايته عند التوثيق صلحت حجته عند التحقيق أو التطبيق.

اظهر المزيد

‫3 تعليقات

  1. موضوع قيم دكتور بارك الله فيك نسأل الله أن تعود للدروس المرئية فنحن بحاجة لعلمكم

  2. وأكرر قولي: إنني لا أتحدث عن صحة الحديث من ضعفه، وإنما عن مدى حجيته نسبة إلى موضوعه، فما كل ما صحت روايته عند التوثيق صلحت حجته عند التحقيق أو التطبيق…

    هذه قاعدة لم نجد تداولها لدى المتصدرين للفتوة او انها لم تصلنا بهذا التفصيل المبين يادكتور لله درك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى