تسلل الفرس الخفي إلى (أجهزة المناعة)
د.طه حامد الدليمي
اتبع الفرس طريقتهم التقليدية العتيدة في غزو الشعوب، عبر التسلل الخفي الهادئ إلى أجهزة (المناعة) الاجتماعية ونخر جدران العدو الداخلية من خلال ثغراتها وشقوقها، قبل الانقضاض عليها بالفعل العسكري العلني. من هذه الشقوق (حسب تسمية الدكتور عبد الله النفيسي): عالمية الإسلام، طيبة العرب، حلقات العلم، التمدد العسكري والحاجة إلى المهادنة والاستعانة بالفرس. فالاستيعاب العسكري لم يكن تاماً. وكانت ثورات الشعوب لا تنقطع، غير أن الفرس امتازوا بمقاومتهم لتغيير الهوية على العكس من بقية الشعوب، كشعوب ما وراء بلاد فارس، أو شعوب المغرب المتاخمة للروم.
الحركة الشعوبية
تكلل الاستيعاب الثقافي الفارسي للعرب بظهور (الحركة الشعوبية)، التي غزت العقيدة والحديث واللغة والتاريخ وغيرها، وظهور الفرق الشيعية المنظمة، التي تمخضت عن التشيع الإسماعيلي ثم الاثني عشري. ونجح الفرس في الخطين اللذين عملا عليهما:
1. التشييع العقائدي: فحولوا نسبة لا بأس بها من العرب إلى شيعة.
2. التشييع الثقافي (وهو أخطر): فالثقافة السنية السائدة اليوم ذات صبغة شيعية أو شعوبية لا تخفى على المتأمل.
وإذا كان التشييع العقائدي هو الهدف فإن التشييع الثقافي ممهد للأول وخادم له. ولولاه ما وقف سنة العراق – مثلاً – موقفاً ليناً من الشيعة فسمحوا لهم باجتياح مناطقهم، بينما وقفوا من الغزو الأمريكي موقفاً آخر. وشبيه به موقف سنة الشام واليمن والخليج ومصر والمغرب، وكل سنة العرب والعالم إلا ما ندر.
حمراء الكوفة .. تغلب الثقافة الفارسية على السيف العربي
الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من السابقين الأولين إلى الإسلام، والقادة الكبار والفاتحين العظام. وهو الرجل الذي تم على يده تحرير العراق من براثن الفرس.
هذه الصحابي الجليل العظيم هو نفسه لأسباب عسكرية جعلته يستجيب لضغط الواقع فأسكن (جند شاهنشاه) – وعددهم أربعة آلاف – مدينة الكوفة، وأجرى عليهم الرواتب؛ فكانوا (بؤرة استقطاب) لكل قوى الفتنة في المنطقة من المجوس واليهود والنصارى والسريان وغيرهم، والانطلاق من هناك للتآمر على الدين والثقافة والدولة. وبسببهم تحولت الكوفة إلى مكمن ومثار ورمز للفتنة. بحيث يمكن اعتبارها أول مقر ومنطلق (للمؤسسة العميقة). إذ إن هؤلاء هم من اخترع التشيع، وليس اليهود ممثلين بعبد الله بن سبأ كما هو شائع خطأً.
يروي البلاذري أنه كان مع رستم يوم القادسية أربعة آلاف يُسَمَّون جند شاهنشاه فاستأمنوا عَلَى أن ينزلوا حيث أحبوا ويحالفوا من أحبوا ويفرض لهم في العطاء. فأُعطوا الَّذِي سألوه، وحالفوا زهرة بْن حوية السعدي من بني تميم. وأنزلهم سَعْد بحيث اختاروا، وفرض لهم في ألف ألف. وكان لهم نقيب منهم يقال له ديلم فقيل: (حمراء ديلم)([1]).
لقد انتصر السيف العربي عسكرياً ، لكن الفرس امتصوا انتصاره وتغلبوا عليه ثقافياً. والعلة تكمن في الشخصية العربية من حيث الطيبة والصدق وسهولة تصديق ما يظهره المقابل من قول وفعل، وعدم التمرس بالمكر والخديعة. فكانت بطيئة جداً في ملاحقة خبث الفرس ومكرهم وسبر غورهم.
- شكّلت هذه الجالية (حمراء الكوفة)، مع عوائلهم التي التحقت بهم حتماً، نسبة كبيرة من سكان الكوفة. ولم يمض زمن طويل حتى تكاثرت وطغت على المجتع الكوفي. يذكر فلهوزن أنهم كانوا أكثر من نصف سكان الكوفة، وقد أخذ عددهم يتزايد حتى تضاءلت نسبة العرب هناك. وتغلبوا في عصر المأمون حتى كانت اللغة الفارسية تحتل الصدارة في الكوفة آنذاك.
- امتهنوا بعض المهن التي يأنف العربي أن يمارسها ويستحي منها كتصليح الأحذية وما شابه. واشتغلوا بالزراعة أيضاً.
- كان لهم دور خطير في مسيرة التاريخ العربي؛ إذ شكّل هؤلاء بؤرة جذب لبقية موالي فارس، وليهود الحجاز وفدك واليمن ونجران الذين أجلاهم الفاروق إلى الكوفة سنة 20هـ. وللسريان الذين كانوا يسكنون الديارات في أطراف الحيرة والنجف. والعبيد الذين زاد عددهم بتوسع الفتوحات، وكان معظمهم من الأسرى الذين جيء بهم من بلدان المشرق. وسُخروا لأعمال الحدادة وصناعة الجلود والأواني والخمور. فصارت الكوفة بهؤلاء وأمثالهم مركز استقطاب لكل موتور ضد الدولة الجديدة، ومنطلقاً للتآمر عليها.
- إن هؤلاء الموالي هم من قتل الحسين t. ويترجح لديّ – إن صحت رواية خروجه – أنهم عملوا على استدراجه لإثارة الفتنة داخل دولة الإسلام، ثم خذلوه وقتلوه. كما استدرجوا علياً t من قبل لتكون عاصمة الدولة قريباً من بلاد فارس وبؤرة المؤامرة، بعيداً عن الجزيرة؛ كي تسهل السيطرة عليه.
- هذه الجالية الفارسية هي التي أسست التشيع، عبر الروايات والقصص والشائعات التي كانوا ينشرونها. وهي التي ظهر منها المغيرة بن سعيد البجلي، أول الأعمدة الكبار في ركيزة التشيع (كما أوضحنا سابقاً).
- من أسباب انتصار الثقافة الفارسية على السيف العربي، وفي ظل حكم العرب، اتباع وسيلة الإعلام العتيدة: (اكذب اكذب حتى يصدقك الناس). هذه الوسيلة كان الفرس يعرفونها، وكانوا أساتذتها ومنفذيها قبل غوبلز وزير إعلام هتلر بآلاف السنين. يشهد لذلك قول المغيرة بن سعيد عندما تم القبض عليه وأراد أمير العراق خالد بن عبد الله القسري إعدامه: “دسست في أخباركم أخباراً تقرب من مئة ألف حديث”. أي ماذا ستفعلون بها؟
بمرور الزمن تحول نشاط الفرس من العمل الفردي إلى العمل المؤسسي.
لقد رسّخ الثقافة الشعوبية في العراق وما وراءه من البلدان العربية مجامع الفرس التي ورثت أولئك عبر التاريخ، كالبرامكة، وبني بويه، والقرامطة. وعبر مؤسسة الوزارة في عهد العباسيين التي كانت فارسية خالصة. مثلاً: البويهيين (334هـ – 447هـ). ومن إنجازاتهم المؤسسية بناؤهم ما عرف لاحقاً بقبر علي بن أبي طالب في النجف، واستحداثهم مآتم عاشوراء في بغداد، وابتداعهم يوم (الغدير). فإن أول من أحدثه أبو الحسن علي بن بويه في سنة 352هـ.
[1]– فتوح البلدان، ص275، أحمد بن يحيى البَلاذُري، دار ومكتبة الهلال- بيروت، 1988م.
كانت حميراء الكوفة بؤرة التآمر وأساس الفتنة، حيث تفنن الفرس في بناء منظومة تخريبية امتدت عقوداً، مستغلة بساطة العرب وطيبتهم. لكن مع سقوط الهلال الشيعي في سوريا، واهتزازه في العراق، بات زوال تلك المنظومة قاب قوسين أو أدنى وذلك اذا احسنا ان نضعها بين سندان الثقافة السنية ومطرقة المشروع الاستراتيجي المستهدف لها