مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

التَّركيزُ عَلَى البُعدِ العِلمي وإهمال البُعدٍ السياسيٍ والاجتمَاعٍيّ عِندَ نَقدِ الحَديث

د.طه حامد الدليمي

وأنا أبحث في الرواية المريبة (عمار تقتله الفئة الباغية)([1]) وقعت على أشياء مهمة وخطيرة، بعضها لم أجد – حسب علمي – أحداً من علماء الحديث أو التاريخ أو الفقه انتبه أو أشار إليها.. تكمل الصورة، وتمنحها دفقاً من الحياة يمكن تحريكها في الواقع واستثمارها في حل إشكالات قائمة وتنمية طاقات معطلة أو متعرقلة.

إن قضية بحجم إضافة أو إقحام حديث يسيء لطائفة من الصحابة رضوان الله عليهم أولهم معاوية، إلى أوثق مصدر للحديث عندنا (صحيح البخاري)! ثم لم تأخذ هذه القضية – على كبرها – من اهتمام العلماء شيئاً خارج دائرة البحث العلمي البحت.. لَقضية خطيرة من حيث:

– قدرة الخصوم على اختراق حصوننا العلمية والثقافية، مهما كانت – في نظرنا – عصية على الاختراق.

– أن الاختراق أصاب (صحيح البخاري)؛ فما ظنك بغيره؟

– الغفلة عن سياق هذه الزيادة المقحمة: (عمار تقتله الفئة الباغية)، وإلام يريد بنا واضعها، وكيف أنها تخدم الفكر الشعوبي، وتضعف الفكر السني ببعديه: الرباني والعروبي.

– معالجة هذه الهزيمة الفكرية بتجاهلها والانسحاب من أمامها. بل واتهام من يقف عليها كاشفاً عوارها، أو متسائلاً عنها، بأنه هو الطاعن أو المتآمر، وترك الجناة الذين تمكنوا من ذلك الفعل، وإعفاء الحراس الذين ناموا وتركوا الخصم يتسلل إلى الداخل.. لهو أمر خطير، جد خطير!

لقد عُمّيت القضية وأدرجت في غياهب النسيان. ولم يبذل جهد فكري يكفي لاتخاذها منطلقاً لعمل كبير يصب في صالح (الأمن العلمي)، ولا لتسليط الضوء عليها لتحويلها إلى ثقافة مجتمعية تعالج الثقافة المأزومة التي لو عرضت عليها الآن نتائج هذا البحث لواجهك الكثيرون بشيء واحد لا غير هو أنك تطعن في (صحيح البخاري)، وبذلوا جهداً استثنائياً لتشويه سمعتك واتهامك وتسقيطك. وكان الأولى – بدلاً من هذا العبث – أن يوفروا جهدهم لمتابعة أولئك الذين تمكنوا من تنفيذ هذا التسلل الخطير في غفلة من الحرس، أو نومهم، أو حتى غيابهم، بل فقدانهم!

أمة العرب أمة طيبة امتازت بمكارم الأخلاق؛ لهذا اختارها الله تعالى لحمل رسالته الخاتمة. لكن الأخلاق الكريمة إذا تضخمت انقلبت ضارة ذميمة. تأمل كيف ذم القرآن العظيم الكرم إذا تجاوز قدره فصار تبذيراً: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء:27،26). التغاضي عن الإشارات الخطيرة، لاسيما ما تعلق منها بالمجموع، والتعامل معها على قدم المساواة بمتعلقات الذات، تضخيم لخلق كريم عاد بالويلات على الأمة.

حوار طريف مع صديق مخالف

قال لي أحد الأصدقاء: لقد انتبه المحدثون فأخذوا عن الراوي المبتدع الثقة ما يرويه إلا ما تعلق ببدعته؛ لأنه صادق. إذن هم لم يهملوا البعد النفسي.

قلت له: المنظور الفقهي هو الذي يحكم نظرة المحدثين حتى في هذه؛ فقصروا الأمر على ما تعلق بالعبادة من بدع، واقتصروا بكلامهم على أصحاب البدع فحسب. ولم يعدوه إلى ما يرويه الراوي مما يؤيد قوميته وعنصره. وكلا الأمرين: البدع وما يتعلق بالقومية منشأه الهوى. هنا العلة. والحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً؛ فالأمر أوسع من العبادة وبدعها. إنه يتعدى إلى القوم والعشيرة والوطن والفئة والسياسة وغيرها. حتى ما رواه المتعصبون من أحاديث في فضل العرب، وفضل بعض الأقطار أو ذمها.. معظمها لا يصح.

ومع أنني أجد كلامي واضحاً قال صاحبي: الراوي أحد شخصين لا ثالث لهما: أما صادق وإما كاذب. فإن كان ثقة فهو صادق؛ فكيف نرد رواياته لمجرد كونه فارسياً أو مولى؟

قلت له: أولاً: حذري من المولى الثقة يتعلق بالروايات المشكلة فقط، التي فيها إساءة قد تكون خفية لبعض الصحابة، ولتاريخ الأمة، أو فيها تعظيم للفرس، وتأييد للتشيع، وما شابه.

الأمر الآخر.. الإنسان، يا دكتور، شخصية متعددة الأبعاد، معقدة النسيج. أبعد وأوسع وأعقد من أن تحصر في إحدى دائرتين: البيضاء الصادقة، أو السوداء الكاذبة. فكثيراً ما تؤثر ميول المرء وضغوط المواقف النفسية عليه فتزحزحه دون أن يشعر، وقد يشعر، عن مقتضيات صدقه وتدينه الذي لا يشك فيه.

وعندما جرجرني إلى تفاريع بعيدة عن الموضوع قلت له: ما رأيك بنبي الله نوح عليه السلام؟ أليس هو أحد أعظم خمسة أنبياء بعثهم الله تعالى؟ ومع ذلك حين تعرض إلى موقف عاطفي شديد رأى فيه ابنه يغرق أمام عينيه، كما قال تعالى: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (هود:42،43).. تأثر تأثراً بالغاً حمله على أن يقول: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (هود:45)! مع أنه يعلم أن النجاة لا تتعلق بالنسب وإنما بالإيمان. والأمر الإلهي في ذلك واضح دون أدنى لبس. فكيف يقول ذلك؟ ولماذا لم يطلب النجاة للكفار الآخرين من أبناء غيره من المؤمنين؟ فكان الرد الإلهي شديداً في حقه: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود:46). وكان رداً مزلزلاً جعل سيدنا نوحاً يسارع ليقول والخوف يملأ أقطار نفسه المرتعدة: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (هود:47). وهذا نبي من أولي العزم، فما بالك بمن هو دونه!

شخصية الإنسان أوسع من أن تحصر بين لونين لا ثالث لهما: إما الصادق وإما الكاذب. هناك لون ثالث: هو العاصي. وقد تكون المعصية وليدة اللحظة ثم يتذكر المرء فإذا هو من المبصرين فيثوب سريعاً، كما هو شأن الأنبياء ب.

والآن هل لك أن تخبرني عن أمة كالفرس أزالت أمة أُخرى مُلكها وقتّلوا ملوكها، وشردوا من بقي منهم في أصقاع الأرض، وأخذوا بلادهم، وقتلوا رجالهم، وسلبوا أموالهم، وسبوا نساؤهم.. ما هو موقفها من السادة الجدد؟ ودولتهم؟ وحكامهم؟ ودينهم؟ وهل يمكن أن يمحى الأثر المترسب في النفس: فردياً وجمعياً بمجرد دخول الواحد منهم في الإسلام؟ وهل يمكن أن يكون ذلك العدد الكبير دخل في الإسلام عن قناعة لا عن قناع؟

قال: إن علماء الحديث بذلوا جهوداً جبارة في تمييز الصادق من الكاذب.

قلت: علماء الحديث بشر يمكن أن يخطئوا في تقييم البعض منهم أو الرواة من بينهم. قد يتظاهر المولى بالتدين فيخفى أمره على بعضهم فيختلف التقييم. وقد قال الله جل جلاله في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) (التوبة:101). فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يخفى عليه نفاق بعض المنافقين ومرضى القلوب، وأهل العصبية وأمثالهم، فمن دونه أولى بذلك.

وارجع البصر كرة أُخرى في كتب الرجال لترى اختلاف العلماء فيما بينهم في توثيق كثير من الرواة إلى حد التناقض الذي يصل إلى قول البعض منهم في الرجل الواحد: ثقة، والبعض الآخر يقول عنه: كذاب!

النظرة التكاملية

النفس البشرية تركيبة من أخلاط مختلفة يأتي في مقدمتها الطين والروح؛ لهذا جعل الله تعالى دينه متوافقاً مع الفطرة التي خلق الإنسان عليها، ليلبي حاجاته المنبثقة عن هذه الفطرة. ولعل هذا سر ترتيب القرآن الكريم بطريقة تجتمع فيها المعاني بطريقة غير مألوفة، غير مبوبة، تحتاج إلى تدبر لإدراك سر العلاقة الرابطة بينها. وهو إذ يعرض لمسألة فقهية – مثلاً – يعالجها من الناحية الإيمانية والنفسية والاجتماعية والقانونية والظرفية، وما تؤول إليه، وحتى المادية إن اقتضى الأمر. ولا يقتصر على الحكم الفقهي فقط. كذلك إذا عرض للأخبار والإشاعات المشوشة، مشيراً إلى اليد التي تحرك الخبر (حديث الإفك مثلاً). وهكذا كان شأن جيل كبار الصحابة وفقهائهم، ومن أخذ بنهجهم. لكن بمرور الزمن، اقتضى التطور – كما أسلفت في المقدمة – وجود نوع من التخصص في العلوم. وانزلق التخصص إلى نوع من المفاصلة بينها تصل أحياناً حد الفصام. فالمحدث يختلف عن الفقيه، عن المؤرخ، عن المفسر. وغيره وغيره. ونادراً ما يتهيأ للمرء أن يحيط بأقوال هؤلاء جميعاً لتتكون لديه الصورة الكاملة للنظر إلى الشيء والتعامل معه. فأمسينا منذ قرون نفتقر إلى هذه المنهجية الربانية المتكاملة.


[1]. الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله e وسننه وأيامه، 1/97 و 4/21، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، شرح وتعليق د. مصطفى ديب البغا أستاذ الحديث وعلومه في كلية الشريعة – جامعة دمشق، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة الأولى، 1422هـ.

اظهر المزيد

‫8 تعليقات

  1. السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.. يا دكتور طه قبل يومين بحث حول حادثة الافك في الصحيحين ، فلن أجد طريق كوفي يتكلم عنها بالمقابل وجدت الرواة من البصرة وبغداد والمدينة ومصر والشام ينقلون الحادثة، هذا يدل على تشيع الكوفة ، وعندما قول عالم فلان شيعي يتهم انه ناصبي أو مائل عن علي ، مثل الجوزجاني قال عنه الدارقطني مائل عن علي وقال عنه إبن حجر ناصبي ، هذا ساعد الكوفيين على نشر التشيع ، والكلام طوال، بارك الله فيك يا دكتور….

  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    نتمنى ان تكون بخير ورحمه من الله سبحانه دكتورنا الغالي،لفت انتباهي حصر صاحبك الرواة بين صادق وكاذب وكأنه مامر عليه تراجم العلماء للرواة وأغلبها يثير الاشمئزاز بصراحه فكيف يكون المُدلس ثقه وكيف يكون امام الشيعه وقاصهم صدوق وكيف للمتوهم ان ينقل لنا الخبر اليقين وكيف للشيعي المحترق ان يكون مُنصفاً وكيف يستدرك الذي لايجئ من قلبه الترضي باللسان عن معاويه رضي الله عنه على الصحيحين!!لابد من ثوره علميه تنبش تاريخ الرواة وتغربلهم كي تتحقق مقولة صاحبك(اما كاذب او صادق) ولابد من ثوره تنبش الاحاديث فلا يبقى منها الا الصحيح ولا ضعيف يُستَشهد به ولااسناده جيد ولاصحيح بمجموع طرقه الضعيفه ولا سُنه تقضي على القرآن فالقرآن الكلام القول الفصل. ويسعدني كثيرا انني دائما استشهد بالايه الاي ذكرتها (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ) ف علم الحديث منظومه كامله قائمه على تزكية بشر بعضهم لبعض فكيف لبشر ان يزكي نفسه فضلاً عن ان يزكي غيره وكيف رسول الله بعظيم قدره ان لايعرف المنافقين من حوله لكن اهل الحديث جزموا وعرفوا الصادقين !!.

  3. ثم كيف غفل صاحبك عن ترجمة (العلماء)لمالك الاشتر الذي ألب على عثمان وحاصره ومنع عنه الماء وركل بغلة ام المؤمنين صفيه رضي الله عنها حتى قالت ردوني لايفضحني هذا الكلب وقد سبق ترجمتها لمالك الاجرب تراجم اهل الحديث فقد أسست للجرح قبل ان يأسسوا له فوصفته بالاجرب جرحاً لاتعديل عليه

  4. ((ينبغي التعامل بحذر مع مرويات الموالي، فكثير من الروايات المريبة لاحظت أنها تأتي عن طريقهم!
    وهذا معيار غائب عن أذهان المحدثين والمؤرخين والفقهاء. من الغفلة المعيبة أن نمنح الموالي صك العصمة من الاندفاع غير الواعي وراء دوافع نفسية خفية جمعية. ينبغي أن نضعها في معادلة التقويم عند مواطن الاشتباه. خصوصاً عند الأحاديث المشكلة، والتي تؤشر إلى خبايا)) الدكتور طه الدليمي من كتاب شقوق في جدار السُنة

  5. (– معالجة هذه الهزيمة الفكرية بتجاهلها والانسحاب من أمامها. بل واتهام من يقف عليها كاشفاً عوارها، أو متسائلاً عنها، بأنه هو الطاعن أو المتآمر، وترك الجناة الذين تمكنوا من ذلك الفعل، وإعفاء الحراس الذين ناموا وتركوا الخصم يتسلل إلى الداخل.. لهو أمر خطير، جد خطير)….. اذا عندما تعرضوا لهذه الهزيمة انسحبوا وتجاهلوها…. انه فعل الضعيف الذي يستند الى ضعيف… عجبا من امة تستند الى كتاب الله كيف لها ان تضعف وتنسحب من المواجهه

  6. جزاكم الله خيرا مدرسنا العالي
    احبك جداً جداً جداً
    حشرنا الله معك في الفردوس الأعلى. امين

  7. اذكر في هذا المقام حجة الاسلام ابي حامد الغزالي و اسمه الكامل محمد بن علي القمي فرغم جهوده الجبارة في محاربة التشيع في المدارس النظامية زمن السلاجقة و نجاته من الاغتيال المستشري في زمانه على يد الشيعة الا انه رحمه الله بقي في قلبه بعض الحنين للجوانب الايجابية في حضارة الفرس المجوس لكن لا لدينهم بالطبع في النهاية نحن بشر

  8. من يصدق اليوم ان سيدنا علي لم يولد في الكعبة و لم ينم مكان رسول الله ولم يواجه عمر بن عبد ود في الخندق ولم يقلع باب خيبر و كلها روايات مفبركة بل و مقطوعة اي ناقصة راو و مع ذلك صدقها اهل السنة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى