مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

بين الدفاع عن الأشخاص والكتب .. والدفاع عن الدين والثقافة العامة

د.طه حامد الدليمي

عندما عرّف الأوائل الحديث الصحيح بأنه (الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً ولا معللاً)([1])، إنما التفتوا إلى المتن في قولهم: (ولا يكون شاذاً ولا معللاً)؛ فإن كان فيه شذوذ أو علة ردوه مهما بلغ سنده من الصحة.

ومع أن التعريف غير جامع ولا مانع، فإنه بمرور الزمن – كما هو شأن أي علم – جرى الانسحاب منه إلى شَبَهه، ومن الشَّبه إلى شبه الشبه… وهكذا؛ فظهرت مصطلحات، وأضيفت زيادات، وأهملت قواعد، وشاعت مفاهيم، وترسخت ثقافات.. جعلت كثيراً من أهل العلم وطلابه لا يعيرون اهتماماً للمتن اهتمامهم بالسند. هذا مع أن الغاية التي ينتهي إليها الحديث هو المتن، وما السند سوى قنطرة للعبور إليه. فإذا كان المتن خرباً من الأساس، فالسند لا قيمة له مهما بدا سليماً.

من تلك المصطلحات (صحيح الإسناد، صحيح أو حسن لتعدد طرقه، رواه الحاكم ووافقه الذهبي([2])). وغيرها. ومن تلك المفاهيم التفريق بين الملك والخلافة، وقصر الخلافة الراشدة على أربعة؛ بناء على أحاديث مضطربة المتون مخالفة للغة العرب التي هي لغة القرآن. وإن شئت قلت: مخالفة للغة القرآن التي هي لغة العرب؛ فلا يلتفتون إلى هذا الاختلاف، ويجعلون وجهتهم كلها نحو السند. فكيف والأسانيد في واقعها لا تصح! مع أن هذا لا يهم بعد فساد المتن.

أما الثقافات فيأتي على رأسها تلك النظرة السوداوية إلى عامة أمراء المسلمين في مختلف عصورهم. وهذا كله وغيره من الأوهام ترك أثره على ضعف الاهتمام بالمتن، أو ضعف رؤية ما فيه من علل. ويصل الأمر إلى استبعاد إمكانية تضعيف كثير من الأحاديث بمجرد النظر إلى المتن دون الحاجة إلى معرفة السند!

قد يتفاجأ القارئ إن علم أن الحق يخالف ما رسب في ذهنه من مسلّمات، استقرت ثمتَ؛ وذلك نتيجة الشيوع والتكرار، وأن الحقيقة على العكس مما يتصور؛ فقد يصح السند ولا يصح المتن، وقد يصح المتن وإن ضعف السند؛ لموافقة المتن للقرآن أو السنة أو صريح العقل. على أن مجرد صحة النص أو المتن لا تخولنا نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ضوابط التضعيف

ونحن إنما نفعل ذلك طبقاً إلى ضوابط علمية وشرعية أذكرها فيما يلي:

  1. كلامنا يدور حول الأحاديث المشكلة فقط.
  2. نقد المتن، وتضعيف الحديث لضعف المتن أمر متفق عليه بين العلماء، وداخل في صلب تعريف الحديث الصحيح.
  3. ما نضعفه أو ما نشك فيه من حديث – وإن بدا سنده صحيحاً – إنما نعتمد في ذلك على الأسس التالية لتضعيفه:

أ. مخالفة القرآن الكريم.

ب. مخالفة السنة الثابتة.

جـ. مخالفة منطق الحدث، وطبيعة الأمر.

د. سياق الحديث: والسياق يدخل في صلب المتن، وإن كان قلما يُنتبَه إلى العلاقة الواصلة بينهما. ونعني بالسياق الطريق التي يمهدها الحديث ليصل العدو بها إلى ما يريده من أهداف بعيدة من وراء الحديث، ومآلات خفية تترتب عليه. أعد النظر في أحاديث كثيرة شائعة على الألسن تجد في نسيجها خيوطاً فارسية الفتل شعوبية النسج، تحقق للفرس غاياتهم. والأمثلة على ذلك كثيرة ذكرت في هذا الكتاب بعضها، مثل (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، و(قاتل عمار وسالبه في النار)، و(عمار تقتله الفئة الباغية). وغيرها وغيرها.

بين الدفاع عن الأشخاص والكتب .. والدفاع عن الدين والثقافة العامة

المشكلة أن العقل الجمعي التقليدي للنخبة والجمهور يتصور أننا نبغي الطعن، أو أننا إنما نسيء بذلك إلى علماء الحديث وكتبهم. أو أننا لا نعترف – معاذ الله! – بالسنة النبوية من الأساس! بينما نحن إنما نبغي الدفاع عن الدين والصحابة وتاريخ الأمة وثقافة الجمهور التي تركت دون حماية كافية، ولا وجود لآلية فاعلة تحقق (الأمن الثقافي) له في وجه التشيع والمؤامرة الفارسية، وإن استلزمت المهمة تضعيف أحاديث في (الصحيحين) أشار أو صرح علماء كبار بضعفها. أو وجدناها كذلك طبقاً لقواعد علمية مُقَرة من الأصل، أو وجدناها حائزة على شروط علمية، لكن تركت في زوايا العدم أو الإهمال، فأخرجناها إلى نور الحياة، وبعثنا الحركة في مفاصلها المتكلسة. بينما المتخوفون من طريقتنا يركزون على الدفاع عن العالِم أو كتابه. هم يدافعون عن الأشخاص أو الأوراق، بينما نحن ندافع عن الدين، وعن الثقافة. ومعلوم أن مراعاة الشأن الثاني أولى من مراعاة الأول.

المشكلة أن المشتغلين بالحديث توسعوا مع الزمن في موضوع السند، ووضعوا لهذا الصنيع قواعد، بعضها يثير الريبة، مثل (من أسند فقد برئت ذمته)، و(إسناده جيد)، و(رجاله رجال الصحيح)، والتحسين والتصحيح بتعدد الأسانيد… وهكذا، حتى تجاوزوا بها حدود الشرع والعقل، بحيث أمسى كثير من دواوين الحديث كمستدرك الحاكم ومصنف عبد الرزاق الصنعاني ومعجم الطبراني مرتعاً لمتون تنز بالضعيف والموضوع والمستسخف من الروايات، ومنها روايات تكرس التشيع؛ ما دام أن الراوي يقيد متونه بسلسلة من سند، حتى وإن تركها سائبة من دون تحقيق!

وإذ بلغ الأمر هذا المدى فقد وقع في دائرة محظور قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع). ولقد حدّث كثير من المحدثين بكل ما سمعوا دون تمحيص اعتماداً على قاعدة (من أسند فقد برئت ذمته)!

تسلسل نشوء هذا الشق ( تضخيم السند على حساب المتن )

لا شك أن السند وسيلة يتوصل بها إلى المتن لضمان صحته من ضعفه. لكن الذي حصل هو أن المراتب انعكست بحيث تحول السند لا إلى غاية فحسب، إنما إلى صنم لا يمكن المساس به مهما كان المتن الذي يستند إليه متهاوياً! فما الذي حصل؟

1. كان فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم يولون المتن المنقول من حيث موافقته للكتاب والسنة والأصول والوقائع والعقول اهتماماً كبيراً في التثبت من صحة صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم. ونحن على منهجهم ماضون؛ فالله تعالى يقول: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (التوبة:100).

وفي (الصحيحين) عن السيدة عائشة رضي الله عنها ردت بها متناً مخالفاً للقرآن الكريم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تعذيب الميت ببكاء أهله، وقالت: حسبكم القرآن: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام:164). وأضافت: (إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين، ولا مكذَّبين، ولكن السمع يخطئ).

وروى البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً، فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع). فقال: والله لتقيمن عليه ببينة. أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أُبَي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم. فكنت أصغر القوم فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك. وفي رواية لمسلم بسنده عن أبي موسى الأشعري: قال: لتأتيني على هذا ببينة، وإلا فعلت وفعلت.

وذكر العلماء، وأشهرهم المالكية والأحناف، شروطاً لقبول الحديث الصحيح السند منها:

– أن لا يخالف الحديث نص القرآن ظاهراً.

– وأن لا يكون الخبر مخالفاً للأصول الشرعية والقياس إذا كان الراوي غير فقيه.

– وأن لا يخالف الخبر عمل كبار الصحابة.

– وأن لا يخالف الصحابي روايته بعمله.

– وأضاف المالكية أن لا يكون الخبر مخالفاً لعمل أهل المدينة.

وذلك كله مقتضى تعريف الحديث الصحيح؛ إذ ورد فيه بعد صحة السند (أن لا يكون شاذاً ولا معللاً).

لكن العمل الذي عليه كثير من المحدثين – لا سيما المتأخرين منهم – تصحيح المتن بمجرد صحة السند، وقلما ينظر أحدهم في المتن ومدى موافقته أو مخالفته للقرآن وبقية المحددات. ويقل النظر حتى يكاد ينعدم إذا كان المروي من صنف المدسوسات الشيعية نتيجة رسوخ الثقافة الشعوبية.

2. الانسلال من شرط صحة السند شيئاً فشيئاً. فالسند الضعيف كثيراً ما يُحسَّن بمجرد حيازة الراوي على وصف “الثقة”. مع أن ذلك لا يكفي دون حيازته على وصف “الثبت، أي التام الضبط” المتعلق بالحفظ. أو بإضافته إلى سند ضعيف آخر (شواهد ومتابعات) ليرقى إلى درجة (الحسن لغيره).

3. والحسن لغيره من أصناف الحديث (الحسن)؛ فصار الضعيف حسناً.

4. والحديث الحسن صار من أصناف الحديث (الصحيح). فانتقل الحديث الضعيف إلى درجة الصحيح! وصار دليلاً يحتج به.

ولو اقتُصر بالحديث الضعيف على الأمور الفروعية والمسائل البسيطة لهان الأمر. إنما صار هذا الحديث حجة في كثير من الأمور الخطيرة ومنها ما نحن بصدده من أحاديث شعوبية، اختلت لها ثقافة المجتمعات الإسلامية، دون الالتفات إلى خطورة الموضوع. وذلك مخالف لمنهجية الدين في التعامل مع الأحكام والتثبت من الأخبار. فرمضان يثبت برؤية شاهد عدل واحد، بينما السرقة تحتاج لثبوتها إلى شاهدين اثنين. أما الزنا فلا يثبت حكمه إلا بأربعة شهود وبشروط أُخرى تكاد تكون مستحيلة. فكلما كان الأمر خطيراً وكبيراً شدد الشرع في شروط ثبوته. لكن هذه المنهجية لا تكاد تحس لوجودها من أثر! فقد تساوت عند السند الأمور البسيطة والخطيرة، والأصول والفروع!


[1]– اختصار علوم الحديث، ص21، ابن كثير. مصدر سابق.

[2]– هذا المصطلح من وضع الشيخ أحمد محمد شاكر (1892 – 1958)، وهو وهم؛ فإن الذهبي إنما لخص الكتاب فهو ينقل رأي الحاكم، إلا ما دل الدليل على أنه قول الذهبي، وهو قليل.

اظهر المزيد

‫3 تعليقات

  1. اسعدت قلوبنا بمرورك دكتورنا الغالي حفظك الله . والله انه من دواعي حزننا انتشار الاحاديث التي التي تنتهي ب حسن بمجموع طرقه او اسناده جيد والكارثه يستشهدون بها على امور مفصليه من امور امتنا ولو كانت عائشه رضي الله عنها بيننا اليوم لأتهموها بإنها قرآنيه للأسف صار الانتساب الى القرآن تهمه واصبح السند عندهم اهم حتى من آيات الله لذلك قالوا دون خجل من الله سبحانه ان السنه قاضيه على القرآن وانه قول لو يعلمون عظيم.
    سددك الله ووفقك وحفظك وشافاك شفاءاً لايغادر سقماً وحماك من شر كل من اراد بك شرا 🌴🌴🌴

  2. تقف هذه المرأه العظيمه زوج رسول الله رضي الله عنها بكل ثبات لترد حديثاً ناقله عمر بن الخطاب فاروق الامه لان السمع يُخطِأ ودليلها ومرجعها الوحيد كتاب الله الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه .فما بال قومنا يستميتون دفاعاً عن الاشخاص مع تورط اغلبهم اما بقول ضد كبار الصحابه او بدعه او هوى او تعصب وتحزب لفئةٍ ما على حساب فئه فيستشهدون بالغث والسمين ومايضر الامه فقط لان سنده صح عندهم ولو تتبعنا السند لوجدنا فيه الدواهي .اللهم اصلح حال الامه وانصرها على اهل الاساطير.

  3. حفظ الله دكتورنا الفاضل و أنار بعلمه طريق الموحدين.. لامشكلة لدينا في السُنة الفعلية التي نُقلت جمع عن جمع وتعاقبت على حفظها الأجيال.. المشكلة في الحديث المنقول والتي حوته أطنان من الكتب هذه الاحاديث نُقلت بالمعنى لا باللفظ الحقيقي عن النبي عليه السلام وتعرضت للزيادة والنقصان والتحريف. أضف الى ذلك مخالفة جلها للنصوص القرآنية ومخالفتها لقواعد اللغة العربية لأن اغلب من كتب الحديث هم الفرس العجم. كذلك مخالفتها لبعضها البعض ومشكلة روايتها بعدة ألفاظ وبذلك يصعب عليك نسبتها للنبي محمد عليه السلام، وهنالك خلاف بين علماء اللغة العربية وعلماء الحديث للأسباب التي ذكرتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى