حكومتهم .. مليشيات ومليشياتنا حكومة
وزير التربية
قبل أيام تناقلت وسائل الإعلام على اختلافها فضيحة هجوم وزير التربية خضير الخزاعي وحمايته بالأسلحة الخفيفة على طلاب مدرسة إعدادية في بغداد أثناء تأديتهم الامتحان الوزاري! وذلك أن طالباً دفعه الوضع المزري لقاعات الامتحان، مع انقطاع الكهرباء والحر اللاهب والجو المغبر، وبعضهم يجلس في الشمس، دفعه إلى أن يقوم في وجه الوزير ليخاطبه قائلاً: “أهذه هي الديمقراطية التي وعدتمونا بها”؟! فما كان من الوزير – ولا تنس أنه وزير تربية! – إلا أن يخرج مسدسه ويطلق النار باتجاه الطالب ليرديه جريحاً، ويتبعه فوج حمايته ليطلقوا النار باتجاه الطلبة ويحصدوا منهم مجموعة سقطوا جرحى، في سابقة لا أظن أنها وقعت في أكثر الشعوب بدائية، وأدناها مرتبة في سلم الحضارة!
ظاهرة اجتماعية لا حادثة فردية
ليست هذه الواقعة المخزية حدثاً شخصياً عابراً، ارتكبه صاحبه لأسباب ذاتية تعود إليه حصراً، بل هو يمثل حالة جمعية، وظاهرة اجتماعية، مارسها جميع أركان الحكومة الشيعية التي تحكم البلد منذ خمس سنين. سوى أنها ليست بهذه الصورة العلنية الفجة. هذا هو الفرق. فمن الأيام الأولى للاحتلال بدأت منظمة بدر باغتيال العراقيين طبقاً لقوائم بأسماء أعدت سلفاً، وتبعتها بقية المنظمات في حملة اغتيالات سرية طالت جميع العراقيين، كانت حصتها الكبرى من نصيب أهل السنة. ثم بعد ثلاثة أشهر ظهرت إلى الوجود مليشيا (جيش المهدي) بقيادة مقتدى الصدر، وتبعتها بقية المليشيات، وتعد بالعشرات.
وما إن تسلم العجمي إبراهيم الجعفري رئاسة الحكومة الانتقالية حتى ابتدأت حملة تطهير جماعية لأهل السنة ركزوا فيها على طوق بغداد وحزامها الأمني – وهو سني – لإفراغه من أهله. فكانت الهجومات المتتالية للحرس الوطني وقوات الشرطة باسم البرق والرعد وغيرها من الأسماء، مسندة بالمليشيات التي صارت تظهر للعلن شيئاً فشيئاً. وكان حامل رايتها، ومتولي كبرها وزير داخليته العجمي بيان جبر صولاغ، الذي حاز بجدارة على لقب (أبو الدريل) – والدريل هو المثقب الكهربائي، الذي كان يستعمله هو وبطانته ومليشياته في تثقيب رؤوس الضحايا وأجسادهم! – ومن اللافت للنظر أنهم كانوا يطلقون على وحداتهم العسكرية المهاجمة أسماء حيوانات وحشية مثل (لواء العقرب) و (لواء الذئب) وغيرها من الأسماء المشابهة. وهو يعبر بوضوح عن النفسية الشاذة التي يتمتع بها رجال الحكومة التي أفرزت هذه الأسماء المقيتة. ولا زلت أذكر صورة الوحش الأسود الكريه المنظر ذي الأسنان المكشرة، وهو يطل يومياً على الشعب العراقي من شاشة قناة (العراقية) الفضائية – القناة الرسمية للحكومة – كشعار في برنامج (الإرهاب في قبضة العدالة) السيء الصيت. وكانت قوات الشرطة والجيش تُغير بملابسها الرسمية والسيارات العسكرية، خصوصاً في الليل أثناء ساعات منع التجوال، وأمام أنظار الأمريكان، لتداهم البيوت الآمنة وتعتقل أبناءها بالجملة، ليجدوهم بعد أيام ملقَين في مكبات النفايات، أو مجاري المياه الآسنة، أو في الأنهار، أو على جوانب الطرقات، وبعضها في مشرحة الطب العدلي، وبعضها يذهب مع الريح ذكرى مؤلمة في الأذهان، لا يعثر له على أثر، ولا يسمع له من خبر! وكل ما يقال في وسائل الإعلام أن مجاميع مسلحة بملابس مغاوير الداخلية أو الشرطة أو الحرس الوطني قامت بمداهمة الحي الفلاني والفلاني، واختطفت كذا وكذا، على اعتبار أن هذه القوات المهاجمة تنتحل الصفة الرسمية كذباً، ولا علاقة للحكومة بها. مع أن هذه الأعمال والممارسات تجري يومياً، وبعلنية مفضوحة؛ إذ تسير أرتال المهاجمين بالزي الرسمي والسيارات الحكومية في شوارع بغداد لتداهم وتقتل وتخطف: إما في ساعات منع التجوال الليلي، وهذه لا يمكن لأحد كائناً من كان أن يجرؤ على الخروج أثناءها سوى قوات الاحتلال، وقوات الحكومة، ولا ثالث لهما. وإما في وضح النهار! ولم تسجل حادثة واحدة قط في ملاحقة الحكومة للقوى المهاجمة أو اعتقالها رغم كثرتها وتكررها! ناهيك عن المداهمات والاعتقالات الطائفية، التي ترتكب باسم القانون، وما يجري في السجون والمعتقلات من تعذيب وقتل لا مسؤول، وبالجملة!
هل هذه حكومة؟ وهل هذه قوى أمنية منظمة؟ أم مليشيات فوضوية متخلفة؟
ولكن.. هذا هو الواقع.. هذه هي حكومتهم.. وهذا عهد حكمهم..!
واشتدت الحال أضعافاً في حكومة نوري المالكي، الحكومة الشيعية الرابعة في ظل الاحتلال، لتشتد أكثر وأكثر بعد تفجير المرقد المشؤوم في سامراء في (22/2/2006)، فقد صارت المليشيات – لا سيما مليشيا المهدي – تخرج إلى الشوارع في النهار وتنصب السيطرات الوهمية وتداهم وتقتل وتخطف وتفعل ما تشاء بمن وما تشاء، وقد جعلت من المدارس والمقرات الحكومية والحسينيات والبيوت أوكاراً للموت والتعذيب. وهي مشخصة ومعروفة، والقائمون عليها معروفون، وأحياناً كثيرة تخرج جموع المستقبلين يحيون الفاعلين الذين يطوفون بضحاياهم مكتفين في السيارات، والنساء تزغرد، والرجال تطلق (الهوسات) – والهوسة هتاف بألحان وأشعار معروفة – والنار أيضاً، ولا من رقيب ولا حسيب!
ما هذا؟! ما الذي يجري؟
هل هذه دولة؟ أم غابة وحوش؟!
وهل هذه حكومة؟ أم عصابة مجرمين؟!!!
وزارة الصحة أحد الشواهد
لنأخذ وزارة الصحة مثالاً حياً على ما نقول؛ فإنه إذا ذكر الطب ذكرت الرحمة، ورفرفت الملائكة بأجنحتها فوق رؤوس الحزانى والبائسين، وتبادرت إلى الذهن صور شفافة لمعاني الرأفة والعطف والإنسانية. والمستشفى أكثر الأماكن شبهاً بالمسجد، تتلاشى فيه الفوارق بين البشر، ويشعر الناس بالتقارب، والتواضع والانكسار. وهو المكان الوحيد الذي لا يسأل الطبيب فيه مريضه عن دينه أو مذهبه أو عنصره أو لونه. إلا لضرورة تتعلق بالمرض من الناحية العلمية البحتة. لكن على عهد حكومة (أتباع أهل البيت) الجدد – خصوصاً بعدما استلم التيار الصدري مسؤوليتها – أمست وزارة الصحة أحدى أشد أوكار الموت خطورة، واتخذت العديد من المستشفيات كمصائد للمصابين والمراجعين على السواء حسب هويتهم الطائفية. أما سيارات الإسعاف التابعة للوزراة فقد أصبحت عربات لنقل ميليشيات الاختطاف وفرق الموت، ونقل أسلحتهم أيضا إلى المواقع التي يهاجمونها. وقد تسببت ميليشيات وزارة الصحة بمقتل واختفاء المئات من المواطنين، فضلا عن اختفاء العقاقير والأجهزة والمستلزمات الطبية الأساسية من المستشفيات العراقية، والتي اعترف وزير الصحة في مقابلة على قناة (الشرقية) الفضائية أنها تسرق وتباع في الأسواق والمذاخر([1]).
واحدة من فضائح وزارة الصحة في بداية عهد نوري المالكي الحالي اختفاء الدكتور السني علي المهداوي مدير صحة محافظة ديالى من داخل مبنى الوزارة، حين دخلها ليتسلم منصبه كوكيل للوزير، وبقي حراسه ينتظرونه خارج المبنى، لكنه لم يخرج إليهم البتة. ومن يومها لم يعرف له خبر!
أما قصف الأحياء السنية المجاورة من فوق أسطح بناية الوزارة، فقد بات علناً أمام أنظار الرائح والغادي! وتتناقلها الفضائيات وبالصور الحية المتحركة!
وهذا الذي أقوله هو حديث الشارع العراقي وواقعه المتحرك المعروف للجميع. حتى تحدثت به التقارير الاستخبارية الأمريكية، ووسائل إعلام عالمية معتبرة كصحيفة الواشنطن بوست وغيرها.
واستمر الحال على ما هو عليه إلى ما يقرب من سنتين! ولم يتحسن الوضع، وتختف هذه الظواهر بنسبة كبيرة، إلا بعد حملة المداهمات الأمريكية، التي جاءت متأخرة كثيراً، بعد أن اختلف السراق، وتقاطعت المصالح الأمريكية والإيرانية في العراق؛ فصار الأمريكان يلاحقون المليشيات المدعومة إيرانياً في ظل الحكومة الشيعية التي تحكم العراق في ظل الاحتلال. وحين طلبوا من المالكي حل المليشيات ظل يماطل ويسوف ويناور، ولم ينهد للأمر حتى تقاطعت المصالح بينه وبين المليشيات فسلط الله بعضهم على بعض. وصدق الله تعالى إذ يقول: (ولولا دفعُ اللهِ النّاسَ بعضَهمْ بِبعضٍ لفسدتِ الأرضُ ولكنَّ اللهَ ذو فضلٍ على العالمينَ) (البقرة:).
الافتقار إلى الإرث الحضاري للقيادة
إن التركيبة النفسية الأقلوية الحاقدة، ذات الطبيعة الثأرية المنتقمة، والعقلية الجمعية المتخلفة، التي تفتقد إلى الإرث التاريخي في ممارسة الأسلوب الحضاري للحكم وإدارة شؤون الدولة هي التي تؤدي بالشيعة حين يتسلمون زمام الحكم إلى أن يتصرفوا كما تتصرف عصابات السرقة والإجرام، ويعبروا عن قوتهم كما تعبر المليشيات الفوضوية في أي بلد غاب عنه القانون والحكومة الضابطة المنظمة.
أهل السنة والإرث الحضاري
على العكس من ذلك تماماً أهل السنة. إن عقليتهم الجمعية، وبسبب من تراكم الإرث التاريخي في القيادة، وتسيير دفة الحكم، وإدارة دول مترامية الأطراف، لمئات من السنين، بعضها تمددت في أكثر من قارة، يعيش فيها عشرات الشعوب والقوميات والألسنة والأمزجة والمذاهب والأديان والأعراق المختلفة، التي انصهرت وتصاهرت فيما بينها، دعم من هذه الحالة طبيعة الروح العربية، التي هذبها الإسلام، وجعلها تنادي بالمساواة، لا فرق بين عربي وآخر مهما كان لونه أو جنسه، وتتبناها واقعاً معيشاً ملموساً. هذا وغيره أكسب العقلية الجمعية لأهل السنة – وهي العقلية الجمعية للأمة جميعاً – خزيناً لا ينضب من الخبرة الحضارية في كيفية التعامل مع أدوات السلطة وتصريفها طبقاً لمستحقات القيادة، وأولها العمل حسب سياق قانوني بعيداً عن الفوضى والارتجال، الذي تسيره النزوات والأحقاد. وقد انعكست هذه العقلية الجمعية المشبعة بذلك الإرث الحضاري حتى على التجمعات المسلحة الشعبية والعشائرية التي فرضها الظرف الأمني، ومنها مجاميع ما عرف بـ(الصحوة). لا أحد يستطيع أن ينكر أن هذه المجاميع – بغض النظر عن الموقف الشرعي والوطني منها، فهذا شيء آخر لسنا بصدده – ما إن نزلت إلى الشارع حتى نشرت الأمان، وأمنت الطرق، وطردت المليشيات، وجعلت الإنسان العراقي يبيت في داره، ويتحرك في شارعه وهو يشعر بنسبة كبيرة من الأمان. كما اختفى القتل على الهوية، وصار الكل متساوين أمام هذه القوى دون النظر إلى دينهم أو مذهبهم أو قوميتهم، لقد اختفت هذه المقاييس، وحل محلها مقياس آخر يقف حياله الجميع بأبعاد متساوية.
لا شك أن مجاميع الصحوة: بقسميها الشعبي والعشائري إذا أردنا أن نخضعها للتصنيف لا يمكن أن نحسبها إلا على صنف (المليشيات). لكن الواقع أثبت أنها مليشيات منظمة يحكمها قانون. وأرجو أن لا يغيب عن ذهن القارئ الذكي أنني أمام قراءة واقعية للحدث، ولست في صدد مدح أو ذم، أو تجريم أو تبرئة الجهة موضوع القراءة من التجاوزات والأخطاء أو الأغلاط وارتكاب المظالم، إنما أجتهد في نقل صورة عما يجري على الأرض من واقع (المليشيات) السنية، وأقارن بينها وبين صورة أخرى لواقع حكومة شيعية ينبغي أن تتصرف كحكومة منظمة يحكمها قانون، لا قوى فوضوية طائفية حاقدة لا يمكن تصنيفها إلا على أنها (مليشيات) تديرها عصابات تسمى (حكومة)! ولقد قلت في يوم إعدام الرئيس صدام حسين: (إن كان صدام شريراً، ومحسوباً على أهل السنة، فحيّهلا؛ يكفينا فخراً أن شرارنا خير من خيرة خيارهم! هذا إن كان فيهم خيار. ولا نرضى بالمقارنة إلا هكذا: شرارنا وخيارهم. ووالله إن الفرق لشاسع بينهما؛ انظر إلى تألق أصحابنا في ظلمة أولئك؟! ومع ذلك فإني أرى هذه المقارنة ظالمة أيضاً).
الشيعة يشهدون بأننا أهل الحضارة والقيادة
لقد شهدت بهذا مصادر الشيعة أنفسهم، ووجدناه كثيراً ما يبدو على فلتات ألسنتهم. من ذلك ما رواه الكليني عن أبي عبد الله بن يعفور قال: قلت لأبي عبد الله (ع): إني أخالط الناس فيكثر عجبي من أقوام لا يتولونكم ويتولون فلاناً وفلاناً([2]) لهم أمانة وصدق ووفاء، وأقوام يتولونكم ليس لهم تلك الأمانة ولا الوفاء أو الصدق؟! قال: فاستوى أبو عبد الله جالساً فأقبل عليَّ كالغضبان ثم قال: لا دين لمن دان بولاية إمام جائر ليس من الله، ولا عتب على من دان بولاية إمام عادل من الله([3]).
حدثني صديق لي قبل أيام عن ولد له كان قبل حوالي شهر في رحلة تجارية إلى ميناء البصرة، في سيارة شحن له كبيرة. ازدحم سائقو الشاحنات على باب الميناء بالمئات وتعالت أصواتهم وهم يتدافعون في أمواج بشرية يعصف بعضها بعضاً في ذلك الجو اللاهب الرطب في مشهد مأساوي متخلف يعبر عن حالة همجية تحكم تصرفات وسلوك تلك الجموع! يقول: واستمرت هذه الحالة المزرية التي لا نحسد عليها حتى انبرى مجموعة من الرجال من أهل الرمادي فسلوا (تواثيهم) – والتواثي جمع توثية وهي بلهجة أهل العراق عصا غليظة – من سياراتهم وهجموا على تلك الجموع المزدحمة المضطربة يهددونهم بها، ولم يمض وقت طويل حتى تمكنوا من تنظيمهم طوابير متناسقة. لم يعجب هذا التصرف الحضاري سائقي الشاحنات من أهل الجنوب، فذهب البعض منهم إلى مسؤول الباب يشتكون (أهل الرمادي)! فخرج المسؤول أمام تلك الطوابير وهو يقول بإعجاب، ويشير إلى رجال الرمادي: “هؤلاء هم قادتنا الحقيقيون! والقيادة لا تليق إلا بهم! هذا هو النظام! وهذه هي القيادة. ولسنا لها”. وبعد أن جاء دورهم وحملوا شاحناتهم خاطبهم متحسراً متأسفاً: “سوف أخسركم”.
ألم أقل لكم: “حكومتهم مليشيات.. ومليشياتنا حكومة”؟
هذه حقيقة. والعراق لن يستقر ما لم يتخلص من حكومة المليشيات، وتقوده حكومة تعرف ما معنى الحكومة، وما هي القيادة، وما استحقاقاتها في دولة القانون.
___________________________________________________________________________________________