أيهما أقدم يبكون عليها..! فمن قتلها إذن ..؟ ومن هدمها ..؟
بغدادُ والشعراءُ والصورُ ذهبُ الزمانِ وضوعُهُ العطرُ
أرأيت طفلاً باع قطة له بدريهمات ليشتري بها حلوى لذيذة، ثم قعد يبكي متحسراً على فراقها؟
أرأيت فلاحاً قايض أرضه الخصبة الواسعة بملهى ليلي في شارع يباع فيه الهوى، ثم صار يستعيد ذكريات طفولته فيها، وهو يطرق الطاولة بزجاجته ويمسح بيده الأخرى قطرات من الدمع انسابت مع صعود حرارة الحُمَيّا إلى يافوخه؟
أريت بوياً للبقر قامر على زوجته الجميلة فخسرها، ثم صار يقف أمام باب العمارة لعلها تمر به فيخطف منها نظرة وهو يصفق يداً بيد؟
أرأيت مسخاً يشارك في حفل زوجته التي ما زالت على عهدته وهي تزف إلى كبير قوادي المدينة، ويراود الأجنبي على احتلال بلده، وجاء معه يطلق النار و(الهوسات) مع الجموع..؟
أرأيت..؟
إن لم تكن رأيت فأنا…
نعم ! أنا رأيت..!
رأيت أمس على شاشة التلفاز أحدهم يكاد يذوب حباً…! ويفقد عقله ولهاً…! ببغداد في يومها التاريخي. وعندما سألته مقدمة البرنامج عن كلمة أخيرة في بغداد لجمته العاطفة عن النطق، وتولى الدمع عن فم نصير كامل الجوابا؛ فقد أطار الحب عن لبه الصوابا.
فمن قتلها إذن؟!!!!!!!!!!!!!!!
لفتت هذه الظاهرة المزدوجة نظري من الأشهر الأولى للاحتلال. حينما وجدت حشود باعة الأوطان وراكبي عربات الغزاة يجمعون إلى هذا العهر التغني بحب الوطن، والحنين إلى تربته، والتغزل بنخيله وظلاله وأنهاره. ولا أكتمك أنني لا أستطيع نكران وجود أثارة من هذا كله في قعر نفوسهم وقرارة وجدانهم. وبعد تقليب الأمور على وجوهها لم أجد تفسيراً لهذا التناقض إلا هذا العنوان (الانتماء الغريزي للوطن) الذي كتبت تحته أقول: (والذي أراه – من خلال الرصد والتحليل – أن عامة هؤلاء لا ينتمون إلى (الوطن) إلا انتماءاً غريزياً لا أكثر! أما الانتماء بمعنى الهوية، والكيان والوجود، والتأريخ والجذور، والدين والأمانة، والوفاء والحقوق فلم ألمس أو أحس أن له وجوداً في المشاعر المستبطنة لهم، ولا في حساباتهم الواعية. ولذلك تراهم إذا هدد (وطنهم) غازٍ أجنبي يتعاملون مع الحالة بحسابات الربح والخسارة! وهي حسابات وهمية على الدوام. لكن أصحابها لا يكتشفون خطأهم إلا بعد فوات الأوان. لتلبس الحالة الجديدة لباس الدين والوطنية! ويحمِّلوا الوطن وأهله منة منافحتهم عن أرباحهم الوهمية التي خسروها وهم يسرحون في متاهات أوهامهم)!. كان ذلك في نيسان/2004 يوم هجم هؤلاء الأدعياء بكلابهم مع خنازير الروم ينهشون لحم الفلوجة الطاهر بحجة الدفاع عن الوطن.
إن هذا التعلق الغريزي لا يفرق كثيراً عن تعلق نفس أحدهم بحارة في لندن، أو زقاق في استوكهولم قضى فترة من شبابه فيه. ثم فارقه من بعد، فهو يذكره الفينة بعد الفينة ويحن إليه. وقد يستثيره ذكرى شاعرية كانت له فيه فتتندى عيونه بالدموع.
ما قيمة هذه العلاقة؟ وما علاقتها بالوطن والوطنية؟
وأمس أيضاً رأيت على شاشة أخرى دعياً آخر أوفر حظاً من الأول، فقد قادته عربته إلى الأمام – ولم ترجع به إلى الخلف كما رجعت عربة نصير – لتضعه على رأس الوزارة: يخطب بالمناسبة نفسها، ويتحدث عن (عظمة بغداد ووقوفها صامدة بوجه الغزاة وقوى الظلام منذ سقوطها على يد المغول وحتى مجي النظام السابق ثم الإرهابيين الذين هدموا صروحها وأزالوا معالمها. وأن بغداد اليوم تشهد نهضة جديدة وبناء وعمران… إلخ) من هذا الهذر. حينما ذكر سقوط بغداد على يد المغول ثم قال: وحتى… قلت: أيعقل أنه سيقول بعدها: وحتى سقوطها على يد الأمريكان وهو أحد دعاة السقوط؟ لكنه انحدر بعيداً واستخدم نفقاً من الأنفاق ليُفلت، وأُفلت فعلاً رغم أنه كان يلبس نظارة سوداء، العلامة المسجلة لأصدقاء الاحتلال ودعاته.
وغادرت الغرفة وأنا أمسح عيني وأسأل نفسي وأقول:
سبحان الله..!
إذا كان هؤلاء هم بناة بغداد، فمن هدمها إذن..؟!!!!!!