في نيسان الماضي كنت في مجلس ضم نخباً كثيرة: عراقية وعربية. كان أحد العراقيين المعروفين يتحدث بحماس عن الأخوة السنية الشيعية، والشيعة العرب ولا فرق بين سني وشيعي، والبلد الواحد، والوشائج والمصاهرات والدين الذي يشد الجميع بحبله المتين. قلت له:
أيها الشيخ! يذكر المؤرخون أن بغداد تعرضت منذ تأسيسها على يد المنصور حتى الآن إلى (16) احتلالاً، أي بمعدل احتلال واحد كل (80) سنة. وإذا كانت معركة الشيعة معنا في الاحتلال الأخير دارت في العاصمة بغداد، ووصلت أطرافها إلى الفلوجة، وطال بعض شرارها الرمادي: فإننا – إذا بقينا على هذا التثقيف – سنصحو على الشيعة عند الاحتلال القادم، أو قبله بعد أقل من خمسين سنة – لا سمح الله – وهم يقاتلوننا في الفلوجة والأنبار.
وإلى من يستغرب مني هذا التحليل والرؤية (التشاؤمية)، وقد يحس فيما أقول لهجة ربما يصمها بـ(الطائفية) الحقيقة التالية:
كل الدول ذات التنوع الأثني (دينياً أو عرقياً أو غيره) يقوم كيانها على أساس العقد الوطني، الذي يعلو على هذه المكونات الاجتماعية، التي لا تكاد تخلو منها دولة في العالم في العصر القديم والحديث. وعلى هذا الأساس قامت الدولة الحديثة في العراق سنة 1921.
يمكننا القول إن الحكومات المتعاقبة على حكم هذه الدولة كانت في غالبها ذات انتماء سني (وإن لم يكن تصرفهم على أساس من هذا الانتماء الملي، إنما غلَّبوا انتماءهم العربي، وحسهم الوطني على انتسابهم المذهبي، وتصرفوا مع مكونات الشعب على ذا الأساس الوطني العربي): فالملوك الذين حكموا من سنة (1921-1958) كانوا من أهل السنة، ورؤساء الوزارات الذين تداولوا السلطة في تلك الفترة أكثرهم كذلك. والثورة التي قلبت النظام من ملكي إلى جمهوري قادتها لبارزون في العموم سنة، وهكذا دولة البعث – التي استلمت زمام الحكم (35) سنة – حكمها رئيسان كلاهما ذو انتماء مذهبي سني.
والسؤال الذي أريد طرحه هنا جريا على الطرح الطائفي الحاد الحالي: ما الذي حصل على صعيد ديموغرافية العراق فيما يخص الطائفتين: السنية والشيعية في هذه الحقبة (السنية)، أو الوطنية العربية، التي امتدت (80) سنة؟
دولة وطنية ( سنية ) مع تمدد شيعي طائفي فارسي وانكماش سني عربي..!!!
لنأخذ العاصمة بغداد، والبصرة ميناء العراق الوحيد مثالين على ما أقول. في سنة (1921) كانت بغداد مدينة سنية بامتياز لا تزيد نسبة الشيعة فيها إلى السنة على (5%). وقريباً من هذه النسبة كانت البصرة. وانتهت هذه الدولة الوطنية (السنية) في سنة (2003) – أي بعد اثنتين وثمانين سنة – فما الذي طرأ على هذه النسبة؟ هل تغيرت؟ أم بقيت ثابتة؟ وإذا تغيرت فلصالح مَن: أهل السنة أم الشيعة؟
طبيعة الأمور تقضي بأن النسبة إما أن تبقى كما هي، أو تتغير ولكن لصالح السنة؛ على اعتبار التهمة التي يمارسها قادة التشيع أن انتماء الدولة في هذه الحقبة كان سنياً. لكن المفاجأة أن الحاصل هو العكس!!! العكس تماماً وبفرق كمي ونوعي خطير!
أما بغداد فقد تعرضت إلى موجات هجرة كبيرة متلاحقة من القادمين من الشرق وفق خطة ايرانية محكمة يقودها المراجع الفرس في النجف، سيما في بداية عهد الجمهورية. واستمرت هذه الهجرة بشتى الأشكال والأسباب دون أن يحس بخطورتها أحد، أو يعترض، أو يحاول إيقافها. كيف؟! (والشعب العراقي شعب واحد لا دين يفرقه، ولا مذهب يميزه. الدين واحد؟ والدم واحد) طبقاً للعقد الوطني الذي اتفق عليه اهل العراق؟ حتى وصلت نسبة الشيعة في العاصمة نهاية المطاف إلى قريب من (40%)!!! هذا بالمقياس الكمي. أما بالمقياس النوعي فبغداد تحولت إلى مدينة شيعية ظاهرة، فيها طائفة سنية مغلوبة على أمرها، ذبح أهلها أمام الكاميرات والفضائيات دون أن يغيثهم أحد. المضحك المبكي أن سكينة الذبح تجز من رؤوسهم في كل يوم مئة أو مئتين وأكثر وأقل، وتجتث عوائل بكاملها، وتهدم بيوت ومساجد حتى لم يعد سني يستجرئ على أن يراجع مستشفى حكومي وإلا كان مصيره الذبح: ومع هذا تتعالى أصوات من هنا وهناك أنه لا فرق بين الشيعي الجلاد الذي يجزر في وضح النهار، وبين السني الضحية التي تنحر ولا من دمعة يسكب عليها!
وأما البصرة – في زمن الدولة الوطنية المتهمة من دهاقنة التشيع الفارسي بأنها دولة سنية – فقد زادت نسبة الشيعة فيها حتى تجاوزت الـ(60%)! أحد أقضيتها مدينة الزبير على الحدود مع الكويت الشقيق، التي كانت إلى سنة (1970) سنية صافية بنسبة (100%) زرتها سنة (1997) فوجدت أهلها يتحدثون عن أن نسبة الشيعة فيها تجاوزت الثلث! ولا أدري إلى أين وصلت الآن؟ سوى أن أهل السنة في البصرة تعرضوا بعد الاحتلال إلى موجة اجتثاث كادت تأتي عليهم وسط صمت العالم من حولهم، تحت شعارات وطنية خادعة ترفعها حكومات الاحتلال الطائفية.
تم ذلك عن طريق هجرات منظمة متتابعة على فترات، من محافظات الجنوب خصوصاً ميسان (العمارة) وذي قار (الناصرية) إلى بغداد والبصرة، مستغلين بعض الظروف الموضوعية والدوافع النفسية والاقتصادية، يأتي على رأسها الاضطهاد الذي مارسه الاقطاع المتحالف مع المراجع الفرس ضد الفلاحين في الجنوب، وتوفر فرص عمل أنسب وأكثر في بغداد، كذلك تطور العمل في موانئ البصرة، سيما بعد ظهور النفط وبروزه كأكبر عامل اقتصادي يحرك السوق والأيدي العاملة. فكان ذلك ستاراً جيداً لإتمام خطة الفرس بطريقة أكثر هدوءاً. هذا كله جرى ووقع وصار حقيقة ماثلة تحت ظل الدولة الوطنية، التي التزم مسؤولوها بالعقد الوطني ولم يلوثوه بسياسة طائفية أبدا بل لم يسمحوا بكلمة طائفية واحدة مطلقا.
التزام بالعقد من طرف واحد
لقد حافظ حكام الدولة على مستحقات العقد الوطني الذي جرى التصالح عليه أساساً للعلاقة التي تربط مكونات الشعب ببعضها، ولم يكن هناك أي قانون أو تشريع يميز طائفة على أخرى. وكان مسؤولو الدولة التي أدركناها يتطيرون من أي إشارة إلى أن هذا من طائفة كذا وهذا من طائفة كذا، ويرددون دائماً: شعبنا واحد لا فرق بين عراقي وعراقي. ومن تكلم فجرى على لسانه في حضرة مسؤول كلمة “شيعي” أو “سني” قوبل بالاعتراض والاستهجان. هذا واقع عشناه ولمسناه. وإذا تجرأ أحدنا وحاول أن يشخص بعض الظواهر التي يمارسها الشيعة فلا يمكنه أن يتحدث عنها بالاسم الصريح، وإنما عليه أن يلوذ تحت مسميات وعناوين أخرى مثل “الشعوبية” وما شابهها.
بينما في الجانب الآخر كانت القيادات الشيعية: السياسية والدينية وغيرها في الوقت الذي ترفع شعار الوطن والمواطنة، لا تتعامل معه إلا على اعتباره ستاراً تنفذ تحت ظله ومن خلاله أهدافاً طائفية بحتة، وتستغل كل فرصة للتمدد والتغيير ومحاصرة وتهميش أهل السنة.
لم يلتزم بالعقد الوطني حقيقة وجدياً إلا من جانب واحد هو الجانب الوطني القومي، الذي تغلبت عليه العلمانية بحيث قضت على أي شعور أو إحساس طائف. لقد كان المسؤول الحكومي أو الحزبي (السني) يعمل للجميع. أما الجانب الشيعي فلم يلتزم بشروط العقد، كان الإحساس الحاد بالذات، والشعور بالمظلومية والأقلوية يمنعه من ذلك، ويدفعه – في الوقت نفسه – للعمل بكل ما أوتي من قوة من أجل الطائفة. فكان المسؤول الشيعي يعمل لطائفته. والذي يعترض عليه يتهم بالطائفية من الجميع. ولقد استشرى هذا الخلل في المجتمع العراقي حتى وصل بنا الحال إلى المعادلة الظالمة التالية التي عشناها ولمسناها في السنين الأخيرة لدولة البعث الوطنية العلمانية المحسوبة من قبل الطائفيين على أهل السنة: الشيعي يصير مسؤولاً ليخدم الشيعة، والسني يخدم الشيعة ليصير مسؤولاً..!!!
وهكذا فقدنا بغداد والبصرة، ومناطق عديدة أخرى من العراق الحبيب.
مثال من الزمن الأغبر
وردتني في يوم (9/2/2009) من محافظة (القادسية) في الجنوب رسالة تتحدث عن السياقات الطائفية الجديدة المتبعة في مدارس المدينة. بعثها إلي صديق يضرب فيها مثالاً من مدرسة متوسطة هناك كان اسمها (تاج المعارك) سابقاً – وهو اسم إحدى المعارك الخالدة مع العدو الإيراني – فغيروه بعد الاحتلال إلى (الإمام الحسن)!
- عند دخول المدرس إلى قاعة الدراسة ينادي مراقب الصف بالتلاميذ: “قيام”. فيجيبه الطلاب: ” الحسين سفينة النجاة ومصباح الظلام “.
- يلقي الطلاب في كل اصطفاف من يوم الخميس جميعاً بصوت عالٍ قصيدة بترنيمة محددة تقول كلماتها:
أميري حسـين ونعم الأميرْ علـي وفـاطمـة والـداه له طلعة مثل شمس الضحى |
سرور فؤاد البشير النذيرْ فهل تعلمون له من نظيـر وله غرة مثل بـدر منيـر |
- يقوم المدرس دائماً بالسب والطعن العلني أمام الطلاب للصحابة الكرام، وتشويه صورتهم، والإساءة إليهم بكل ما امتلأت به قلوبهم من حقد دفين نحوهم.
- يمنح المدرس درجة عالية لمن يجيبه عن بعض الأسئلة الطائفية المختارة بعناية، منها: لماذا اختار الناس أبا بكر خليفة ولم يختاروا علياً؟ ما معنى عيد الغدير؟ من كسر ضلع الزهراء؟ علماً أن هذه الأسئلة توجه حتى من قبل أساتذة الرياضيات والاجتماعيات والفيزياء، الذين لا علاقة لموادهم الدراسية بهذه الموضوعات البتة.
- يجري هذا التثقيف وما هو أسوأ منه كسياقات متفق عليها في أغلب مدارس المحافظة.
دعك من التدريس العلمي الطائفي في جميع مدارس الحوزات في النجف وكربلاء وغيرها من المحافظات، وما تصدره الحسينيات ومجالس النياحة من ذلك، هذا غير الطقوس الدينية الطائفية المستمرة على مدار الأسبوع، وغيرها من مصادر وعوامل الشحن والتحصين الطائفي! قارن هذه الممارسات الطائفية الخطيرة التي كانت تجري قبل الاحتلال على حذر، ثم أسفرت علناً بعده، بما يفعله أهل السنة في مناطقهم من التزام بالعقد الوطني من جانب واحد إلى حد أن رئاسة جامعة الأنبار – كما أخبرني أحد طلابها – أصدرت قراراً بفصل أي طالب يتحدث عن الخلاف بين السنة والشيعة، أو يثير جدالاً دينياً مع طالب شيعي، واعتبرت ذلك سلوكاً طائفياً يستحق عليه الفصل! هل رأيتم كيف أن المعادلة مختلة؟! وإلى أي حد؟!
في نهاية الجزء الثاني من المقال وثائق عبارة عن كتب رسمية موجهة من مديرية تربية النجف إلى مدارس المحافظة بشأن الأناشيد (الولائية العقائدية) – حسب تسمية المديرية – التي عليهم اعتمادها وإنشادها عند مراسيم رفع العلم والتجمع الطلابي الصباحي والمناسبات الدينية والوطنية كما جاء في نص الكتاب.