نحن والفرس من يتجنى على من ؟ (3)
علماء الفرس نتاج حضارة عربية إسلامية
ينسب البعض علماء الأمة من أصل فارسي الذين ظهروا في العصر العربي الإسلامي إلى الحضارة الفارسية. وهذه نظرة تفكيكية سطحية قاصرة؛ لأنها تنسى أن هؤلاء هم نتاج الحضارة العربية التي سادت وانتصرت، وليس الفارسية التي هزمت وتوارت. ولأنها لا تدرك أن كون الحضارة منسوبة إلى قومية أو ديانة معينة لا يعني خلوها من العناصر الأخرى التي امتزجت بها ففقدت خصائصها الأصلية، أو ضعفت هذه الخصائص بذوبانها أو تأثرها أو خضوعها لعناصر الحضارة الجديدة. إن كثيراً من كبار علماء أمريكا وأوربا اليوم هم من العرب، لكن الحضارة التي يشاركون في بنائها هناك ليست عربية، ولا يمكن أن تسمى كذلك، ولا يصح نسبتهم إلى حضارة مشتق اسمها من قوميتهم أو ديانتهم الأصلية. إنهم نتاج الحضارة الغربية، ولولا احتضان هذه الحضارة لهم لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من مراتب في سلم العلم والإنجاز الحضاري. وهكذا فلولا الحضارة العربية الإسلامية لما ظهر مثل البخاري أو أبي حنيفة أو سيبويه، ولا الفارابي أو ابن سينا، ولا غيرهم بالطريقة نفسها التي ظهروا فيها وقدموا من خلالها خدماتهم للبشرية جمعاء. ولا بأس مع هذا أن يظل العالم على المستوى الشخصي يحمل خصائصه العرقية كلاً أو بعضاً؛ ما دام يعبر عن جهده ضمن منظومة حضارية أخرى. كما هو حال الكثيرين من علماء العرب وهم يساهمون في بناء الحضارة الغربية.
جهد إيجابي يعادله جهد سلبي: ولا يغمط هذا من حق الشعوب في مساهمتهم في بناء الحضارة العربية الإسلامية، ولكن بشرط أن يوضع هذا كله ضمن هذا الإطار، وينظر إليه بهذا المنظار. وكون الطابع السني هو الغالب على هؤلاء المفكرين والعلماء وغيرهم من المجاهدين والعاملين والمشاركين في صنع الحضارة الإسلامية شيء طبيعي بسبب أن الحضارة الغالبة هي حضارة إسلامية سنية بامتياز. هذه ملاحظة جوهرية مهمة جداً. يضاف إليها ملاحظة توازيها في الأهمية وتقابلها في المعادلة، هي أن هذا الجهد الإيجابي للفرس كان إلى جانبه جهد سلبي خطير لا يقل عنه أثراً – إن لم يزد عليه – يتمثل في المؤامرات السياسية والعسكرية والثقافية والدينية وغيرها من المناشط الحياتية والاجتماعية في الفترة التي كانت إيران ذات طابع سني ظاهر. ومن شواهده تلك الجيوش الجرارة من العلماء والرواة والأدباء والشعراء الذين كتبوا وقعدوا ووضعوا أركان التشيع الفارسي، ومصادره الأصلية. إن محمد بن الحسن الطوسي الملقب بشيخ الطائفة واضع آخر مصدرين من المصادر الأربعة التي تأسس عليها التشيع كانت سنة وفاته (460 هـ) بينما لم يبدأ حكم الصفويين لإيران إلا في سنة (906 هـ)! أي بعد أربعة قرون ونصف. وفي تلك الفترة تأسست أول مدرسة حوزوية شيعية في النجف، أسسها الطوسي هذا. دعك من المؤلفات والكتب والأنشطة الأخرى والركام الكثيف للأحاديث المحرفة التي تصدى لها المحدثون. أضف إلى ذلك الكم الهائل من الضخ الشعوبي برجاله ومؤلفاته ونشاطاته وتحكمه في القرار السياسي والعسكري والتثقيف الاجتماعي. وكمثال سريع لا يمثل إلا نقطة في مستنقع نأخذ الفردوسي صاحب الشاهنامة أكبر موسوعة شعوبية تؤرخ للفرس، فقد ظهر هذا الشعوبي الخطير في القرن الرابع الهجري، أي قبل الصفويين بستة قرون. وقد كان هذا الدور بكل تشعباته من الخطورة بحيث تمكن أخيراً من إسقاط الخلافة العربية الإسلامية سنة (656 هـ) أي قبل مجيء الصفويين بقرنين ونصف! وقبلها بأكثر من خمسة قرون شارك مشاركة فاعلة في إسقاط الخلافة الإسلامية الأموية. فنسبة الشر الفارسي كله للصفويين، وتبرئة الفرس منه بإطلاق لا ينطلق من أساس علمي رصين، ولا يقبل إلا عند النظرة السطحية غير المعمقة. وهي نظرة غير واعية تنطلق من زاوية طائفية ضيقة، وتهمل بقية الزوايا وعناصر التأثير؛ فما دامت الجهة سنية فالخير كل الخير فيها، وما دامت غير ذلك فينسب إليها الشر كله.
جهد سلبي ذو حجم كبير وخطير: إننا إذا نظرنا إلى حجم المؤامرة العلمية الثقافية الفارسية نجدها من العظم بحيث لا يمكن أن يشفع للتغاضي عنها أو تسميتها بغير اسمها ونسبتها إلى أهلها بحجة أن الفرس أعطوا للأمة – من ضمن ما أعطوا – علماء ومفكرين شاركوا في صنع الحضارة الإسلامية. بل إن بعض أولئك الفقهاء والعلماء الفرس الذين احتضنهم مجتمع الإسلام كانوا لا يفترون – عن قصد أو بدوافع نفسية غير واعية – عن شحن المجتمع بالحقد على أمرائه وخلفائه، وإثارتهم ضدهم رغم إحسان حكام العرب إليهم ومنحهم الحرية في أن يقولوا ما يريدون. لقد استغلوا هذه الحرية في سبيل تشكيك الشعوب بحكامها، وعزلهم عنهم مستغلين ثقة العامة بهم وتقديرهم لهم. ولا أريد أن أسمي أحداً لأن العقول غير مستعدة لمثل هذه الصدمة، وسماع البحث في موضوع كهذا ظل مطموراً لم يبحث إلى الآن في غفلة تامة عن علماء كانوا يتآمرون على الأمة أو يسيئون إليها دون قصد بسبب نفسيتهم الفارسية المعقدة، ما زالوا إلى اليوم لا يذكرون إلا بالتقدير والتبجيل، وربما يسفر البحث – لو تم – عن وضع كثيرين منهم في قفص الاتهام.
مؤامرة ذات ثلاث شعب: لقد حرص الفرس أن تكون مؤامرتهم على الدولة العربية الإسلامية ذات ثلاث شعب أو اتجاهات رئيسة: الاتجاه العلمي، والاتجاه السياسي، والاتجاه العسكري. وكان أقربها نيلاً، وأسرعها تأثيراً بالمجتمع خصوصاً عوامه، وأسلسها مروراً، وأخفاها مقصداً: العمل بثوب العلماء وطلبة العلم والزهاد والوعاظ والأدباء والمفكرين.
وهذا يفسر كثرة طلبة العلم من الموالي الذين التفوا حول علماء الصحابة على عهد التابعين فمن بعدهم. حتى كادوا بعد مدة أن يسلبوا العرب قيادة العلم. فلما لم يتمكنوا بالدرجة المؤشرة كهدف نهائي، صاروا يخترعون الأكاذيب في تضخيم دور الفرس في هذه الناحية، ومن ذلك نسبة إمامة أي علم في كل أصناف العلوم إلى علماء فرس. أليس من المضحك المبكي، ومن السذاجة والغفلة المهينة أن ينسب علم العربية إلى شخص فارسي؟! ألا ينتبه إلى هذه الخدعة التي بصقوا بها على وجوهنا؟! هل عقر رحم العربية أن ينتج لنا وليداً عربياً تكون له إمامة اللغة؟ ولو سلمنا جدلاً لكل العلوم أن يكون إمامها فارسياً لا يجمل بنا ولا يليق، ومن العار أن نرضى بأن يكون إمام لغتنا فارسياً.
السر في نسبة إمامة العلوم للفرس دون للعرب: سيبويه مثالاً: وهذا ليس منطلقاً قومياً عنصرياً، بل هو نابع من طبيعة الأمور أولاً، ومن معطياتها الواقعية ثانياً. فالعربي أعرف بلغته من الفارسي، وهم أكثر عدداً من الفرس الذين أسلموا بأضعاف مضاعفة؛ فعلى أي أساس تخرج زبدة هذا المخيض في النهاية فارسية لا عربية؟ إلا إذا قلنا بخمول العرب وتخلفهم حتى في مجال خصوصياتهم. وهذا مناقض للمنطق. أما معطيات الواقع فتصرخ في آذان المغفلين: إن إمام اللغة بلا منازع هو العربي الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع معجم (العين) أول معجم لغوي في تاريخ لغة العرب، والذي وضع واكتشف علوماً عدة كان هو مكتشفها ومؤسسها منها علم العروض. أما سيبويه الفارسي، الذي نسبت إليه إمامة اللغة بفعل الدعاية الفارسية، فلم يتمكن حتى من إثبات أهليته العلمية حسب المنهج المقرر عند علماء عصره! والعالم إن لم يشهد له علماء فنه بالعلم فليس بعالم. وسيبويه لم يحز على الشهادة من علماء بغداد وعلى رأسهم الكسائي الذين كانت إليهم المرجعية في العلوم وتزكية العلماء، يوم دخلها ليعرض نفسه عليهم فامتحنوه بالمسألة المشهورة المعروفة بـ(الزنبورية) فأخطأ في الجواب، ورسب في الامتحان؛ فغادرها إلى الأحواز بائساً يائساً حزيناً ليموت بعدها بفترة – وهو ما يزال حدث السن – كمداً وحسرة. ومعلوم أنه كان في أول الطلب يدرس علم الفقه والحديث، لكن عجمته كانت مثار سخرية واعتراض من مشايخه ولداته من الطلبة، وكان كثيراً ما يلحن، فقال: لأطلبن علماً لا يلحّنني فيه أحد بعد اليوم؛ فكان هذا سبب طلبه علم النحو على وجه الخصوص، ومع ذلك لم يفلح فيه إلى درجة الأستاذية والمشيخة؛ فكيف صار إماماً في علم لغة العرب بلا منازع؟!
من الممكن أن يغض الطرف عن هذه الحقيقة الصاعقة فيقال: هل تنكر كتابه في النحو المعروف بـ(الكتاب)؟ وأجيب بمعلومة تنسف هذا الاعتراض ذكرها إمام من أئمة العربية هو (ثعلب) – كما جاءت في كتاب (الأمة العربية وسر تدهورها وانحلالها)
للشيخ محمد سعيد العرفي – من أن أصل هذا الكتاب هو إملاءات الفراهيدي لأربعين من تلامذته، جمعت ونسبت لواحد من هؤلاء الأربعين هو سيبويه، وأطلق عليها هذا الاسم!!! ومن لا يعلم هذه الحقائق لانشغاله بغير فنها لا يمكن أن يشم رائحة العنجهية الفارسية وميلها إلى المبالغة والاستعراض تهب من اسم االكتاب.. (الكتاب)! مضاهاة لكتاب الله تعالى الذي جاءت تسميته بهذا الاسم العظيم (الكتاب) الذي لا يليق إلا به في نص التنزيل وفي أول تعريف به: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2)!!! وهذا ما قصدته بوجوب التوقف عند ما يقوله صاحب الاختصاص قبل رد قولته، لا لشيء إلا لأنها تخالف المعهود. وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ( بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. فغربة الشيء ليست دليلاً على خطئه، بل ربما هي علامة على صحته، لا سيما في زمن الغربة، ونحن في هذا الزمن الغريب.
هذا ما لم يتنبه إليه بالعمق المطلوب إلى اليوم. ويحتاج إلى بحث وتأليف رسائل علمية جامعية. ولكن أين ذلك الفأر العنتري الذي يجرؤ ويتمكن من تعليق الجرس على جبهة القط؟ ومن يسمح له بذلك من هيئة الفئران التي تتحكم بالأمر؟
حديث (لو كان الإيمان عند الثريا…): قد يرد هنا ما رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثاً. وفينا سلمان الفارسي، وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: (لو كان الإيمان – وفي لفظ لمسلم الدين – عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء). ولم أجده بلفظ (العلم). فقد رأيت من توهم فراح يتصور أن في الحديث مدحاً للعجم أو الفرس بإطلاق، دون اعتبار لكل المعطيات المناقضة على أرض الواقع، والتاريخ الدامي والمليء بالدس والتآمر، والتخريب والتحريف، والكوارث التي لم تصب الأمة بمثلها أبداً ! وذلك على يد الفرس! ولو لم يكن إلا التشيع لكفى به شراً! ولا يبعد أن يكون إلى ذلك الإشارة بقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله يشير إلى المشرق فقال: (ها إن الفتنة ها هنا، إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان). وفي رواية لأحمد بلفظ (ها هنا أرض الفتن) وأشار إلى المشرق.
ولو عدنا بالنظر إلى نصوص الحديث لوجدناها تتحدث عن رجال من الفرس يؤمنون ويدينون بدين الإسلام. وليس في هذا نكرة ولا غرابة؛ فإن الأمم كلها قد دخل في دين الإسلام منها رجال، آمنوا بهذا الدين وحملوه إلى غيرهم. والفرق هو مناسبة وجود سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه؛ ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه. وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فآمن من الفرس رجال، وكان منهم العلماء والدعاة والمجاهدون في سبيل الله. ولسنا ننكر ذلك، ولا ننفسهم عليه. وهو من باب قوله تعالى عن اليهود والنصارى وأمثالهم: (لَيْسُوا سَوَاءً) (آل عمران:113). وقد آمن رجال من اليهود منهم الصحابي الجليل عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وكثير من النصارى فكان منهم العلماء والعباد والمجاهدون. وليس أن يقع مثله من الفرس ببدع من الحوادث، أو خوارقها!
هذا إذا أخذنا بلفظ الجمع (رجال). أما إذا أخذنا برواية الإفراد: (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجل من هؤلاء) – وهي رواية صحيحة متفق عليها – فالأمر يخف كثيراً ؛ فقد يكون المقصود به سلمان نفسه، أو أبا حنيفة رحمه الله . وعندها لا يحتاج الموضوع إلى تعليق أصلاً !. بل الحديث يمكن أن يكون فيه إشارة إلى قلة الدين والإيمان في أمة الفرس؛ فأن ينال رجل أو رجال منها الدين أو الإيمان – أو حتى العلم – أمر في غاية القلة. فهو إلى الذم أقرب منه إلى المدح. والله تعالى أعلم.