في ذكرى الاحتلال السادسة سورة (الحشر) بين البشارة والنذارة (2)
البشارة بهزيمة شيعة إيران
في السورة كذلك بشارة بهزيمة شيعة إيران، من حيث انهزم أهل الصلبان؛ ألمسها من خلال فضحها لحجم قوتهم، وتعريتها لضعفهم الكامن في نفوسهم. تأمل هذا الكشف الرباني ممن (هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) لحال الفريقين رغم ما يتمظهرون به من قوة، ويستعرضونه من شجاعة وقدرة:
(لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ): فهم يرهبوننا رهبة تملأ صدورهم، وتغمر قلوبهم! لم يقل الله تعالى: (لرهبتكم في صدورهم أشد من رهبتهم لله) وإنما قال: (لأَنْتُمْ) أنتم إذن (أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ)، وهذا أفهمه أن الرهبة قد تجسمت في نفوس هؤلاء تجسيماً، وتمثلت لهم تمثيلاً حتى صاروا يرونها عياناً في شخوص المؤمنين، فكأن الرهبة هي هؤلاء المؤمنون أنفسهم! أو كأن المؤمنين هم الرهبة عينها! حتى ما عادوا يفكرون في المقارنة بينهم وبين الله! بكل ما تعني المقارنة من معنى، لا سيما ما تعلق منها بحالة الرهبة التي هم عليها. واللفظ أقرب للمقارنة بين ذات وذات: (أنتم، الله) من المقارنة بين وصف ووصف: (رهبة المؤمنين، رهبة الله) (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ). إن ارتفاع معنويات الجند، وثقتهم العالية بأنفسهم أهم عامل من عوامل النصر في المعارك العسكرية. لكن هذا العامل مفقود عند هؤلاء؛ إنهم خائفون مرعوبون، والخائف المرعوب لا ينتصر.
والعامل الآخر الذي يوازيه في الأهمية هو الجماعة ووحدة الصف. وهذا مفقود أيضاً لديهم، رغم ما قد يظهر مما يخالفه من صورة أو وضع بالنسبة للناظر غير المدقق، فالله تعالى يقول: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى): فهم مختلفون ظاهراً وباطناً (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ). والساحة اليوم تكشف بوضوح هذا الاختلاف والتفرق والتقاتل في صفوف الشيعة بما لا مزيد عليه!
المظاهر خداعة فلا تنخدعوا
لكنهم في الظاهر قد يراهم البعض على عكس ما هم عليه في الباطن “والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم، ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض، كما نرى تجمع المنافقين أحيانا في معسكر واحد. ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم؛ إنما هو مظهر خارجي خادع. وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخداع فيبدو من ورائه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور، وينكشف الحال عن نزاع في داخل المعسكر الواحد، قائم على اختلاف المصالح وتفرق الأهواء وتصادم الاتجاهات. وما صدق المؤمنون مرة، وتجمعت قلوبهم على الله حقا إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات وهذا التضارب وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال. وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار، وينكشف عن الخلاف الحاد والشقاق والكيد والدس في القلوب الشتيتة المتفرقة! إنما ينال المنافقون والذين كفروا من أهل الكتاب من المسلمين عندما تتفرق قلوب المسلمين، فلا يعودون يمثلون حقيقة المؤمنين التي عرضتها الآية في المقطع السابق في هذه السورة. فأما في غير هذه الحالة فالمنافقون أضعف وأعجز، وهم والذين كفروا من أهل الكتاب متفرقو الأهواء والمصالح والقلوب: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ).
والقرآن يقر هذه الحقيقة في قلوب المؤمنين ليهون فيها من شأن أعدائهم، ويرفع منها هيبة هؤلاء الأعداء ورهبتهم، فهو إيحاء قائم على حقيقة، وتعبئة روحية ترتكن إلى حق ثابت. ومتى أخذ المسلمون قرآنهم مأخذ الجد هان عليهم أمر عدوهم وعدو الله، وتجمعت قلوبهم في الصف الواحد فلم تقف لهم قوة في الحياة.
والمؤمنون بالله ينبغي لهم أن يدركوا حقيقة حالهم وحال أعدائهم . فهذا نصف المعركة. والقرآن يطلعهم على هذه الحقيقة في سياق وصفه لحادث وقع، وفي سياق التعقيب عليه، وشرح ما وراءه من حقائق ودلائل، شرحا يفيد منه الذين شهدوا ذلك الحادث بعينه، ويتدبره كل من جاء بعدهم، وأراد أن يعرف الحقيقة من العالم بالحقيقة”([1]).
السر في انتفاشة أهل الباطل وتراجع أهل الحق
هكذا يقرر القرآن الكريم حقيقة عظيمة من حقائق الوجود: أهل الباطل خائفون، متفرقون. ومن كان خائفاً مرتعباً، ومع الرعب متناحراً متفرقاً أنى له أن ينتصر؟ والدليل ما ترونه بأعينكم: (لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ).
هذه هي الحقيقة!
لكن سؤالاً هنا يطرح نفسه بإلحاح: لماذا إذن نرى خللاً في مقتضيات هذه الحقيقة وظهورها على أرض الواقع؟ لماذا لا نجد المؤمنين يحققون النصر المطلوب؟ والمنافقين يخسرون المعركة بوضوح؟
والجواب أن الباطل لا تظهر هزيمته إلا عندما يأتي الحق على أيدي أهله، ويدخل الميدان ليطارد الباطل: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الإسراء:81). (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) (الأنبياء:18). وبغياب أهل الحق الملتزمين بحقهم عن الساحة فالغلبة تكون للباطل. إن الباطل ضعيف ضعفاً ذاتياً لا يمكن أن يشفى منه، غير أنه يظهر للناظر قوياً عندما يكون إلى جانبه أهل حق ضعفاء ضعفاً أشد منه.
المشكلة إذن في فريق المؤمنين عندما يتغير حالهم، ويضعف إيمانهم، وتتشوش بصائرهم فلم يعودوا ينظرون بمنظار القرآن؛ ولهذا أنا أبشر وأنذر، وأؤمل: أبشر المؤمنين بالنصر متى ما رجعوا إلى قرآنهم وأخذوا بمنهاجه في مواجهة إيران وأشياعها. وأنذر بأن ذلك لن يحدث ما لم يتنازلوا عما هم عليه من منهج ترضوي مهزوم في أصله، منخور في أسه؛ فبعيد أن ينبني على منهج كهذا نصر مبين يفرح المؤمنين ويحزن الكافرين والمنافقين. ولكن الأمل معقود بقلة مؤمنة عزيزة بدأت تستيقظ وتأخذ بالمنهج الرباني في مواجهة أعوان الشيطان من كفرة أهل الكتاب وأمثالهم وإخوانهم.
عظمة التسبيح وحقيقته
كان السؤال المهم في أول السورة، الذي يفسر تلك المفارقة العظيمة بين (ما ظننتم أن يخرجوا) وبين وقوع ما لم يكن في الظنون والحسبان هو: من الذي أخرجهم؟ والجواب: هو! ومن هو؟ الله! المذكور بما سبق من كلام في قوله سبحانه في مطلع السورة: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). والموصوف بما لحق من كلام في ختام السورة بهذه الأوصاف العظيمة: الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن، الرحيم. الله الذي لا إله إلا هو، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر. الله الخالق، البارئ، المصور. الله الذي يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم.
إذن لا عجب، ولا مفارقة؛ لأن الفاعل هو الله!
إنما العجب والمفارقة حين ننظر إلى الحدث من زاوية القدرة والمجهود البشري. أما إذا رفعنا رؤوسنا إلى الأعلى فلا نملك إلا تسبيح القادر المهيمن! وهكذا ابتدأت السورة بالتسبيح: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وانتهت بالتسبيح: (يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وما بين البداية والنهاية تسبيح أيضاً، لكنها أنواع متعددة: فمنها ما يكون بالقول، ومنها ما يكون بالعمل.
فالجهاد تسبيح، وقسمة الغنيمة على شرع الله تسبيح، والهجرة نصرةً لله ورسوله والخروج من الديار تسبيح، والموالاة بين المؤمنين وإيثار الغير على النفس تسبيح، والسير على نهج الصحابة والاستغفار لهم وحبهم وموالاتهم تسبيح. ومفاصلة الكفار تسبيح، فالسورة كلها تسبيح. وهذه هي التقوى عينها، وهذا هو الذي نقدمه لغد. والعاملون بهذا هم أصحاب الجنة. والتاركون له المشاققون لله ورسوله هؤلاء نسوا الله فأنساهم أنفسهم، أولئك هم الفاسقون. هؤلاء هم أصحاب النار، وشتان بين هؤلاء وهؤلاء: (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ). يا لله!!! ما أعظم هذا القرآن! حقاً وصدقاً وإيماناً الأمر كما قال سبحانه: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
ما أحوجنا إلى أن نفهم القرآن العظيم هذا الفهم الشمولي، الذي يشعر به المرء أنه عبد لله في كل حركة وسكنة، وأنه منتظم مع ذرات هذا الكون وأجزائه، يسبح معهم في هذا الفضاء، يسبح الله مع مخلوقاته ضمن هذا النظام الرائع، متوافقاً معه، ليس بشاذ عنه ولا خارج عليه. كل قد علم صلاته وتسبيحه.
والآن انظر إلى الواقع لتعرف مَن مِن الفريقين (السنة والشيعة) من هؤلاء؟ ومن منهما من هؤلاء؟
من منهما يسبح الله كما أمر قولاً وعملاً؟ ومن منهما شاق الله ورسوله فراح يسبح البشر وينزههم ويعبدهم من دونه؟
من منهما جاهد كفرة أهل الكتاب حين احتلوا بلاد الإسلام؟ ومن منهما دعاهم لغزو البلاد وقاتل معهم وقدم لهم ما استطاع من عون ومساعدة؟
من منهما أحق بأخوة المهاجرين والأنصار يستغفر لهم ويحبهم ويدعو الله سبحانه أن لا يجعل في قلبه غلاً لهم؟ ومن منهما أحق بأخوة الكافرين إذ وقف معهم وثبتهم ووعدهم بالنصرة والحماية؟ هذا وهو يبغض الصحابة ويلعنهم إلى حد قتل المتسمين بأسمائهم!
هل الجواب في حاجة إلى ذكاء، أو تفكر وعناء؟
فاتقوا الله واعتبروا يا أولي الأبصار.
________________________________________________________________________________
- – في ظلال القرآن، سيد قطب. ↑