من يلعن من ؟ وقفة مع أحدوثة اللعن على عهد الأمويين (2)
رواية اللعن على المنابر موضوعة لا تثبت
إن موضوعنا الذي نحن بصدده فيه مسألتان: الأولى أن علياً رضي الله عنه كان يلعن على أعواد المنابر عامة العهد الأموي حتى مجيء عمر بن عبد العزيز. والثانية: أن سباً وشتماً أو لعناً حصل هنا أو هناك. وهذه سنأتي إليها لاحقاً.
أما الأولى فقد ناقشناها من حيث المتن، وبينا كيف أنها لا تتوافق مع معيار (منطق الحدث). والآن جاء دور النظر في سندها.
ذكر هذه القصة الطبري في تاريخه (5/71) من طريق أبي مخنف عند ذكر قصة التحكيم. قال: (كان – أي علي – إذا صلى الغداة يقنت فيقول: اللهم العن معاوية وعمراً وأبا الأعور السلمي وحبيباً وعبدالرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد. فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا قنت لعن علياً وابن عباس والأشتر وحسناً وحسيناً)!
والطبري لم يشترط لروايات كتابه الصحة وقد صرح بذلك في مقدمته، وأحال الناقل على السند. وسند الرواية يكفي لسقوطه أن فيه لوط بن يحيى (أبو مخنف) وهو كذاب متروك الحديث وإخباري تالف لا يوثق به وعامة روايته عن الضعفاء والهلكى والمجاهيل. انظر (الميزان:3/419). ولهذا قال ابن كثير بعد ذكر الرواية (البداية والنهاية:7/284): (ولا يصح هذا).
وعن الطبري تداول هذه الحكاية بعض المؤرخين. ثم تفنن من بعدهم من مؤرخي الشيعة وغيرهم من الفرق الضالة أعداء الصحابة؛ كالمعتزلة والخوارج في حبك هذه الأكذوبة والزيادة عليها، وأنها استمرت يُعمل بها عشرات السنين على منابر المسلمين دون أن ينكرها أحد! إلى أن جاء عمر بن عبدالعزيز فأبطلها.
وروى ما يشبهها ابن سعد قال: أخبرنا علي بن محمد، عن لوط بن يحيى، قال: كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلاً رضي الله عنه، فلما ولي هو أمسك عن ذلك. فهذا الأثر واهٍ كما قال النقاد (انظر مثلاً محمد علي الصلابي في كتابه (عمر بن عبد العزيز ص107): فعلي بن محمد هو المدائني فيه ضعف، وشيخه لوط بن يحيى كذاب تالف كما مر بنا.
وأضاف الصلابي يقول: “قد اتهم الشيعة معاوية رضي الله عنه بحمل الناس على سب علي رضي الله عنه و لعنه فوق منابر المساجد ، فهذه الدعوة لا أساس لها من الصحة، والذي يقصم الظهر أن الباحثين قد التقطوا هذه الفرية على هوانها دون إخضاعها للنقد و التحليل ، حتى صارت عند المتأخرين من المسلًمات التي لا مجال لمناقشتها علماً بأنها لم تثبت قط في رواية صحيحة، ولا يعول على ما جاء في كتب الدميري، واليعقوبي، وأبي الفرج الأصفهاني، علماً بأن التاريخ الصحيح يؤكد خلاف ما ذكره هؤلاء، ومن احترام وتقدير معاوية لأمير المؤمنين علي وأهل بيته الأطهار. فحكاية لعن علي على منابر بني أمية لا تتفق مع منطق الحوادث ولا طبيعة المتخاصمين. فإذا رجعنا إلى الكتب التاريخية المعاصرة لبني أمية، فإننا لا نجد فيها ذكراً لشيء من ذلك أبداً، وإنما نجده في كتب المتأخرين الذين كتبوا تاريخهم في عصر بني العباس بقصد أن يسيئوا إلى سمعة بني أمية في نظر الجمهور الإسلامي. وقد كتب ذلك المسعودي في مروج الذهب وغيره من كتًاب الشيعة. وقد تسربت تلك الأكذوبة إلى كتب تاريخ أهل السنة، ولا يوجد فيها رواية صحيحة. فهذه دعوة مفتقرة إلى صحة النقل، وسلامة السند من الجرح، والمتن من الاعتراض، ومعلوم وزن هذه الدعوة عند المحققين والباحثين”.
وفي رواية الطبري أن علياً كان يلعن في قنوته معاوية وأصحابه، وأن معاوية إذا قنت لعن علياً وأصحابه. وهذا يناقض أيضاً المعلوم من أخلاق علي رضي الله عنه ونهيه عن السب والشتم. لكن يلزم من يحتج بهذه الحكاية الباطلة على ذم معاوية أن يقول مثل ذلك في علي رضي الله عنهما. بل ما هو أشد لأن الرواية تذكر أن علياً كان هو البادئ باللعن والسب، ومعاوية إنما تكلم باللعن رداً عليه! والله يقول: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (الشورى:41). فإن اعتُذر لعلي فليُعتذر لمعاوية. فإذا انتقض – بناء على هذا – ثبوت لعن علي لمعاوية انتقض معه ثبوت العكس، وهو لعن معاوية لعلي؛ إذ الأمران وردا في رواية واحدة لم تثبت. لكن أهل البدع والزيغ والجهل يتمسكون بما يتوافق وأهواءهم، ويعرضون عما يعارضها. فيتناسون أن علياً – طبقاً للرواية – كان يلعن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهم! ويتباكون على أن معاوية كان يلعن علياً وغيره. فلماذا يذكرون لعناً، ويبلعون لعناً مثله؟!
على أنه في كل الأحوال ليس في الرواية ما يفيد أن اللعن على المنابر. فمن أين جاءت هذه الأسطورة؟
السب والنيل المطلق
إذا انتهينا من موضوعة اللعن على المنابر، أتينا إلى موضوع السب أو النيل الذي يمكن أن يقع في حال أو وقت دون آخر، فأقول:
قرائن اللفظ الحالية ضابط آخر
لقرينة الحال أثر كبير في تفسير اللفظ الواحد وحمله على عدة وجوه من المعاني والمقاصد. فقولك لشخص وأنت غاضب تشير إلى الباب: “تفضل”، له معنى مغاير لمعناه في حال أنه استأذنك للخروج فقلت له وأنت تبتسم الكلمة نفسها: “تفضل”. من أسباب اختلاط الفهم واختلاله أن الراوي أحياناً يذكر اللفظ مجرداً عن قرينته الحالية. إن هذا يسبب اضطراباً في الفهم واختلافاً في التفسير، يجعل اللفظ محتملاً لأوجه، ولا يصح حمله على ظاهره مطلقاً سيما إذا قامت في وجهه عوارض. وهنا نحتاج إلى ضوابط معينة لفهم النص. سنذكر بعضها بعد تقييد رواية مسلم التي رواها بسنده عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد رضي الله عنه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب؟ فقال: أما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلن أسبه. لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم… (وذكر الحديث). وهذا أقوى نص ورد في ذلك. وثمة روايات لهذه المحاورة بألفاظ أخرى، رواها ابن ماجة وغيره، لا تثبت لانقطاعها ومجيئها عن طريق ضعفاء.
مع رواية مسلم
لنا مع هذه الرواية وقفات:
- الرواية خارجة عن موضوع لعن معاوية علياً على المنابر، فضلاً عن استمرار هذه الخطيئة أربعين سنة من بعده.
- إن “منطق الحدث” من كون معاوية صحابياً وقافاً عند حدود الله، وحليماً حكيماً…إلخ مما ذكرناه سابقاً يفرض علينا حتماً حمل اللفظ على محمل آخر غير ما يبدو من ظاهره.
- يضاف إلى هذا ضابط آخر: فقد قال العلماء: الأحاديث الواردة التي في ظاهرها دخل على صحابي يجب تأويلها. قالوا: ولا يقع في روايات الثقات إلا ما يمكن تأويله.
- والذي يترجح لي – بناء على كل ما تقدم – أن الراوي نقل اللفظ ونسي الحال التي اقترنت به عند قوله. فلا بد من حمل اللفظ على معنى يتناسب وهذه الضوابط. وأنسب ما جاء في ذلك قول النووي رحمه الله (شرح صحيح مسلم:15/175): (قول معاوية هذا، ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب، كأنه يقول: امتنعت تورعاً أو خوفاً أو غير ذلك. فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب، فأنت مصيب محسن، وإن كان غير ذلك فله جواب آخر. ولعل سعداً قد كان في طائفة يسبون، فلم يسب معهم، وعجز عن الإنكار، أو أنكر عليهم، فسأله هذا السؤال). وذكر بعضهم قول القرطبي في المفهم:6/278): (وهذا ليس بتصريح بالسب، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج من عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد ظهر من جوابه. ولما سمع ذلك معاوية سكت وأذعن، وعرف الحق لمستحقه). ولهذا قيل: إن سكوت معاوية هنا تصويب لرأي سعد. ولو كان معاوية ظالماً يجبر الناس على سب علي كما يدّعون، لما سكت عن سعد ولأجبره على سبه، ولكن لم يحدث من ذلك شيء؛ فعُلم أنه لم يأمر بسبه ولا رضي بذلك.
وأنت إذا تمعنت في قول النووي والقرطبي وغيرهما وجدتهم يذكرون أحوالاً سكتت عنها الرواية. وهو الذي عنيته بـ(قرينة الحال)[1].
رجل من آل مروان
هناك رواية فيها أن رجلاً من بني مروان أمر غيره شتم علياً رضي الله عنه أو لعنه. وحتى نضع الرواية موضعها لا بد من استحضار ضابط (منطق الحدث). ذكر ابن خلدون في النص السالف الذكر في بداية المقال أن من أسباب الزلل في فهم الحوادث عدم قياس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب. وهو ملحظ مهم من ملاحظ ضوابط الحدث. فقد وجدنا كثيراً في الخصومات أن أقارب صاحب المشكلة وأتباعه قد يكونون أحرص منه على الخصومة، وأبلغ منه في القول والفعل المضاد، حتى إنه يحصل أحياناً أن تتحول الخصومة بين الصف الواحد بسبب إنكار صاحب الشأن على بعض المتجاوزين من أتباعه وعدم التزامهم بتوجيهاته. ومن هنا جاء المثل (ملكي أكثر من الملك). وسببه الجهل والتعصب وعدم تقدير العواقب وأمثال ذلك. وقد حصل معي مثل هذا مراراً. حتى إن أخاً لي في واقعة معينة تجاوز فيها الحدود المسموحة فنهرته ونهيته بشدة، لكنه خالفني وظل مقاطعاً لي شهوراً بسبب ذلك. ومن المؤكد أن بعض من لا يعرف حقيقة الأمور يُحمِّل صاحب الشأن مواقف غيره من أقاربه أو أتباعه، ويحسبها عليه. والمفروض في مثل هذه الحال أن ينظر المراقب ليرى هل ما يصدر من التابع يتوافق وأخلاق وعوائد المتبوع أم لا؟
إذا استحضرنا هذا الضابط استطعنا أن نَحمل هذه الرواية على محملها الصحيح طبقاً لما تقتضيه طبيعة الأمور. روى مسلم عن سهل بن سعد. قال: استعمل على المدينة رجل من آل مروان. قال فدعا سهل بن سعد. فأمره أن يشتم عليا. قال فأبى سهل. فقال له: أما إذا أبيت فقل: لعن الله أبا التراب. فقال سهل: ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي التراب. وإن كان ليفرح إذا دعي بها. فقال له: أخبرنا عن قصته لم سمي أبا التراب؟ قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة. فلم يجد عليا في البيت. فقال (أين ابن عمك؟) فقالت: كان بيني وبينه شيء. فغاضبني فخرج. فلم يقل عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان (انظر. أين هو؟) فجاء فقال: يا رسول الله! هو في المسجد راقد. فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه فأصابه تراب. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول (قم أبا التراب! قم أبا التراب!).
فالرواية فيها ذكر (رجل من آل مروان)، ومعاوية من آل أبي سفيان. فهو معاوية بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد مناف. أما مروان فهو ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد مناف. فانظر كم بينهما من أب؟! والرجل من آل مروان، فقد يكون من أحفاده. فما علاقة معاوية بالأمر؟ إن مثل معاوية مع قريبه وعامله على المدينة هذا كمثلي مع أخي الذي ذكرت قصته قبل قليل.
وحصول مثل هذا من أطراف أخرى في زمن معاوية رضي الله عنه أو بعده، معه أو ضده، يجري مجرى هذه الواقعة. وليس هو بمستغرب عندما يستحضر القارئ مستوى الخصومة التي وقعت بين أطراف الصراع؛ إذ وصلت حد التقاتل والحروب التي فرقت حتى بين البيت الواحد. وهذه لا شك تسحب وراءها ذيولاً من الإحن والأحقاد والثارات والكلام بحق أو بباطل بعضهم ضد بعض. فما وقع بين القوم لم يكن نزاعاً أو عراكاً بالأيدي ساعة من نهار، ثم انتهى في ساعته. إنها حروب! وحروب دامت سنين.
الغريب أن عامة المستنكرين لوقوع السب حين يعترض معترض على وقوع التقاتل بين الطرفين يجدون ما يتأولون به لهما، لكنهم يقعون فيما هو أشد حين يعترضون أو يستغربون وقوع ما هو أخف من القتل والتقاتل بينهما كالسب واللعن وما شابه!
ولله في خلقه شؤون!!!
_________________________________________________________________________________
- – وذلك كله توجيه حسن مقبول، يليق بمنزلة الصحبة، فيما لو صحت الرواية! لكن تبين أن زيادة “قول معاوية لسعد ما منعك أن تسب علياً” زيادة غريبة معلولة الإسناد. وأن العلة في بكير بن مسمار. ضعفه البخاري، وترجم له العقيلي في (الضعفاء). وقال (الضعفاء الكبير، 1/150): بكير بن مسمار أخو مهاجر بن مسمار حدثني آدم بن موسى قال: سمعت البخاري يقول: بكير بن مسمار أخو مهاجر مولى سعد بن أبي وقاص المدني روى عنه أبو بكر الحنفي. قال البخاري: في حديثه بعض النظر.إ.هـ. وهو ليس من رجال مسلم، وإنما ذكره مسلم استششهاداً لا احتجاجاً.قال د. محمد طاهر البرزنجي ما ملخصه: [بحث بعنوان (حقيقة معاوية رضي الله عنه) على الرابط: http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=266680]: لم يستشهد مسلم ببكير بن مسمار إلا في موضعين من (الصحيح)؛ فهو ليس على شرط مسلم. ولم يعتمد عيه مسلم في مواضع الاحتجاج، وإنما ذكره في محل الاستشهاد؛ لفائدة استدعته؛ لذلك أخرج مسلم نفسه الحديث من طرق أخرى متعددة أصح إسناداً بكثير من هذا الاسناد ومن طريق رواة ثقات يحتج بهم مسلم كل الاحتجاج دون ذكر هذه الزيادة؛ فقد أخرجه في الرواية 6167 من طريق أربعة آخرين من شيوخه الثقات هم يحيى بن يحيى التميمي ومحمد بن الصباح أبوجعفر وعبيد الله القواريري وسريج بن يونس، كلهم من طريق يوسف بن الماجشون عن محمد بن المنكدر عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، قال: قال رسول الله لعلي: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي). أي ان بكير بن مسمار وسعيد بن المسيب كلاهما رويا الحديث عن عامر ابن سعد عن أبيه سعد، وليس في رواية سعيد بن المسيب هذه الزيادة. ومما لاشك فيه أن سعيد بن المسيب أحفظ وأثبت عشرات المرات من بكير بن مسمار. والجمع من الرواة الثقات هم أولى بالحفظ من الثقة الفرد، فما بالك لو كان هذا الفرد (بكير بن مسمار) ضعيفاً، بينما من خالفه أحفظ وأكثر عدداً.
وضعف د. البرزنجي رواية ابن ماجة في (سننه) في طريق آخر للحديث قال: (فنال منه)، أي نال معاوية؛ وعلتها علي بن محمد، وفيه ضعف. وعبد الرحمن بن سابط ثقة لكنه كثير الإرسال. وقد حكم أئمة الحديث كالحافظ ابن معين وأبوزرعة والذهبي (تقريب التقريب ترجمة 3867) بأنه لم يسمع من سعد بن أبي وقاص؛ فالرواية غير صحيحة. ↑