نحن لا نملك عيوناً .. لمن لا يرى في وضح النهار (2)
عليل يدّعي الطب
من أعجب ما جاء في المقال: “هل إن هذه الأنظمة التي تتولى كبر الحشد معنية بالفعل بمذهب أهل السنة، أم أنها تفعل ذلك من أجل أهدافها السياسية التي تلتقي غالبا مع أهداف نخبها الحاكمة أكثر من أهداف الشعوب والأمة”؟
ولي أن أسأل هنا فأعيد الكلمات نفسها: هل إيران التي تتولى كبر التباكي على فلسطين معنية بالفعل بالإسلام أو مذهب أهل السنة، أو بفلسطين أصلاً؟ أم إنها تفعل ذلك من أجل أهدافها السياسية التي تلتقي غالباً مع أهدافها القومية العنصرية أكثر من أهداف الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة العربية والإسلامية؟ وهل صديقتكم روسيا معنية بشيء من هذا، حتى تقيموا معها أحسن العلاقات، وتضعوا أيديكم بأيديها الملطخة بدماء إخوانكم من الشيشان والأفغان وغيرهم من عشرات الملايين من شعوب الجمهوريات الإسلامية الذين أبادوهم بالقتل والتجويع والتشريد في متاهات سيبيريا الجرداء إلا من الثلوج؟ أم إن الله جل وعلا لم يخلق عدواً سوى أمريكا واليهود؟ أم إن بني البشر يتفاوتون في غلاوة دمائهم: فدم الفلسطيني غير دم العراقي غير دم الشيشاني…؟ أم إنكم لطول عشرتكم لمن لا يشعرون بغير أنفسهم صرتم لا تتحسون غير آلامكم؟ أم لأن إيران تتعطف على البعض بما تلمع به قفاها؛ إذن قضي الأمر فليحترق الدين والسنة وأهل السنة في العراق والمسلمون في بقية البلدان! ثم إني أشك بمن يشيح بوجهه عني وعن أحداث مأساتي، ويضع يده بيد عدوي يدافع عنه ويهون من شأن جرائمه ومخاطره: أن يكون معنياً بي أو بمذهب أهل السنة، أو بأهل السنة أنفسهم؟ ولم لا وهو قد سكت عن مأساة أولي رحمه من الفلسطينيين الذين نحرتهم إيران في العراق، وما تبقى منهم عادوا للتشرد من جديد في أصقاع الأرض؟ فمن فرط بحق الأقرب فرط، من باب أولى، بحق الأبعد. على أننا – ولله الحمد – لسنا بحاجة إلى أحد، ولا ننتظر عوناً ممن خذلنا في (عز) مأساتنا.
سواسية
بعدها: “هل تنسى الأنظمة التي تحشد ضد الشيعة هذه الأيام كانت ترفض ذلك في مرحلة سابقة”؟ وأقول: كما ترفضون اليوم ما رفضوه من قبل، ولكن الفرق أنهم استيقظوا قبلكم بعد أن وصل الخطر إليهم. وأنت تعرف أن من هو في موقع المسؤولية يستشعر الأمور قبل غيره. فكونوا على مستوى المسؤولية حتى تستيقظوا قبل أن تصل النار إلى أذيالكم فتحرقكم من وراء. ولا أراني على قدر كافٍ من الجرأة عند ربي، ولا القسوة مع إخواني، لأدعو الله لكم أن تكون إيران بجواركم حتى تذوقوا من طعم إسلامها وحلاوة تشيعها وشيعتها ما ذقناه منهم جميعاً. ولكن لم العجلة؟ ها هي تدور حولكم تخومكم.
بعدها: “وهل نتجاهل أن من يحشدون ضد إيران وحزب الله، لا يفعلون ذات الشيء مع حلفاء إيران الشيعة في العراق لأن الأمريكان لا يسمحون بذلك؟ ألا يعني ذلك أن الموقف لا علاقة له بالدين بقدر علاقته بالسياسة”. عذراً سيد زعاترة إن أحرجتك بتوجيه السؤال نفسه إليك فأقول: وهل نتجاهل أن من يحشدون ضد أمريكا واليهود، لا يفعلون الشيء نفسه مع إيران وحلفائها الشيعة في العراق وهم يقتلون الفلسطينيين كما يقتلهم اليهود وأشنع – دعك من العراقيين؛ فهؤلاء دماؤهم ماء – وقد أخرجوهم من ديارهم وشردوهم في شتى أنحاء الأرض، والفرق في مكان القتل لا في القتل نفسه؟ أم لأن إيران والعلاقة معها لا تسمح بذلك؟ ألا يعني ذلك أن الموقف لا علاقة له بالدين بقدر علاقته بالسياسة؟ ثم من أولى بأن يُطالب بأن يلتزم بضوابط الدين: العلمانيون؟ أم أنتم أيها (الإسلاميون)؟
بعده: “وهنا تحديدا ينبغي أن نسأل عن المصلحة السياسية في تقديم الخطر الإيراني على الخطر الأمريكي الصهيوني، وهل مثل هذه الأجندة مخلصة للأمة، أم أنها جزء من منظومة تقف على النقيض من مصالح بعض الأنظمة؟ ومصالحنا؟”. ولم لا نسأل نحن سؤالاً مشابهاً عن المصلحة السياسية في تقديم الخطر الأمريكي على الخطر الإيراني؟ وهل مثل هذه الأجندة مخلصة للأمة؟ أم إنها جزء من منظومة تقف على النقيض من مصالحها ومصالحنا، لصالح بعض الأنظمة والمنظمات والفئات الحزبية؟
هذا إن كانت (قضيتنا) واحدة. أما إذا جزأنا قضايانا – كما هو واقع حال هذه المنظمات والفئات الحزبية – فليفعل كل واحد منا ما يشاء بما يتلاءم ومصالحه الخاصة، دون لوم لا اتهام ولا تخوين.
ظالم يتباكى من الظلم
ويستمر المقال بهذه المغالطات المقلوبة، ولا أريد الاستمرار في إيرادها. غير أن أغرب ما وجدته منها قوله: “من المؤكد أن لإيران مشروعها في المنطقة، وهي قوة كبرى معنية بالتمدد والنفوذ”. ثم يقوم بالالتفاف على هذه الحقيقة الخطيرة بقوله: “تركيا السنية لها ذات الطموح أيضا.. كما أن أحدا لا يرفض أن تكون لمصر على سبيل المثال طموحاتها في التمدد والنفوذ وقد كان لها شيء من ذلك أيام الحقبة الناصرية”. ولا يترك هذه المغالطة حتى يعقب عليها بالتباكي قائلاً: “ما هذا الظلم؟”!
وأعجب من ظالم يدّعي المظلومية!!!
هل تدرون ما معنى هذا؟ معناه ما دام أن الآخرين يريدون احتلالكم، ويخططون للتمدد وبسط النفوذ بين ظهرانيكم؛ فلم الاعتراض على إيران أن تفعل الشيء نفسه بكم؟ اسمحوا لها بذلك دون نكير ولا شخير! بمعنى آخر أن من كان معرضاً للإصابة بمرض ولو على سبيل الوهم أو الافتراض، عليه أن لا يشكو ولا يسعى في علاج مرض خطير قد استوطن جسمه!
بأي منطق تم تخريج هذا الكلام؟!!!
هل يسمح لي الأخ ياسر زعاترة هنا بسؤال: كيف تكون التسوية بين دولة بذلت كل ما في وسعها لتحقيق احتلال العراق، ومسؤولوها يتفاخرون علناً بهذا الفعل الشنيع، وبين دولة أخرى لم تسمح بدخول الأمريكان إلى العراق من أراضيها. وليس لهم إلى اليوم قنصلية في كركوك المدينة التي يكثر فيها التركمان الذين يهمها مصيرهم؟ قارن ذلك بقنصليات إيران المتعددة في محافظات العراق.
لكن ما لا ينقضي العجب إزاءه أن تقارن مصر العربية السنية وتساوى بإيران العجمية الشيعية؟ وأستسمح السيد ياسر أن أسأل أيضاً: لو دخل إخوتنا المصريون بلاد الرافدين هل يتوقع أنهم سيفعلون بنا كما فعلت الإيرانيون؟ إذن كيف يطالب الفلسطينيون المصريين بالقتال إلى جانبهم لدخول فلسطين وتحريرها من اليهود؟ أليس هذا – بناءً على هذا المنطق – استبدال محتل بمحتل؟ ما هذا المنطق المقلوب؟
وأضرب لك مثلاً من الواقع القريب: قوات البيشمركة تضامنوا مع القوى الشيعية على احتلال العراق، ووقفوا مع المحتل ضد المقاومة السنية وأهلها، وكانوا يطلقون علينا لقب (إرهابيين). هذا وهم في جبال كردستان. لكنهم عندما دخلت قواتهم بعض أحياء بغداد في بعض الفترات التي كانت تصول فيها المليشيات على مساجدنا وبيوتنا ومناطقنا أمام أنظار المحتل وقوى الحكومة، وشاهدوا الظلم الواقع علينا بأنفسهم: حنوا لأصلهم السني، وانقلبوا فصاروا مدافعين عنا يحمون مناطقنا ضد هذه المليشيات. فتآمرت عليهم الحكومة وأخرجتهم من مناطقنا ليستمر مسلسل الذبح. لماذا هذه المفارقة؟ لأن هؤلاء ليس في بالهم مخطط حاقد لإبادتنا. هذا وهم أكراد لا عرب؛ أفيكون المصري العربي أقل رحمة بنا؟ ألم تعلم أن الأمريكان كانوا – وما زالوا – أرحم بنا من شيعة إيران؟ وأن المعتقلين اليوم يطالبون الأمريكان بالإبقاء عليهم في سجونهم، ولا يسلموهم إلى الحكومة (العراقية)؟
منكم نتعلم ومنكم نتألم
لن أتابع بقية فقرات المقال، سوى أن أذكر الأستاذ زعاترة بما سطره هو لا غيره منذ سنة ونيف فقط على إحدى صفحات جريدة السبيل (25/3/2008) حينما قال بالحرف الواحد: “قبل عام ونصف التقيت في مبنى إحدى القنوات الفضائية في لندن بنائب الرئيس الإيراني أيام (خاتمي)، السيد عطاء الله مهاجراني، ولما سألته مباشرة عما تريده إيران في العراق أو من العراق؟ لم يتردد الرجل في القول، إنها تريد دولة تابعة سياسياً واقتصادياً وثقافياً. وللتذكير فنحن هنا إزاء رجل إصلاحي يعيش في لندن ويؤمن بحوار الحضارات وعموم مفاهيم الانفتاح، وهو ليس من التيار القومي المتعصب، ولا حتى من التيار الديني المتعصب الذي يريد تحويل العالم العربي والإسلامي إلى المذهب الشيعي، وبالطبع تحت اللواء الإيراني”. فكيف إذن لو كان مهاجراني من التيار الديني المتعصب، وعلى رأسه المرشد الذي يمسك بحبال السياسة الإيرانية كلها؟! ماذا سيقول؟ وبم سيصرح من نوايا وخفايا؟ وماذا سيخرج لنا من خبايا وبلايا ؟
لا أرى أخي السيد ياسر الزعاترة بحاجة إلى التذكير. سوى أن نسأل الله تعالى أن يمنح إخواننا بصيرة بها يرون الواقع على ما هو عليه. وحكمة يتداركون بها أنفسهم قبل فوات الأوان.