الخاسر الأكبر لماذا ؟
قال لي صديقي وهو يهاتفني: هل سمعت ما صرح به د. أسامة التكريتي أخيراً على الفضائيات؟ لقد اعترف قائلاً: “نحن الخاسر الأكبر في الانتخابات”. قلت له: لا ، لم أسمع بذلك. وهذا القول رغم ما ينضح به من شعور بالهزيمة الكاسحة والمرارة البالغة، إلا أن الأهم منه والأخطر ما قاله نائبه إياد السامرائي حين عزا تلك الخسارة إلى ما أسماه بـ(تغير المزاج الشعبي).
واتصل بي أحد معارفي من المحمودية، وكان مراقباً في إحدى محطات الانتخاب هناك، وأعطاني بعض النتائج الأولية لعدد الأصوات:
في مركز الراكوب الانتخابي حصلت العراقية على 716 صوتاً، بينما التوافق على 99 صوتاً فقط، علماً أن هذه المنطقة صوتت للتوافق بالإجماع في الانتخابات الماضية! في محطة انتخابية (أصغر من المركز): العراقية: 85 صوتاً، بينما التوافق 2 صوتين فقط! في محطة ثانية في وسط المدينة: العراقية: 79، التوافق: 16. وفي محطة ثالثة: العراقية: 96، والتوافق: 11. وهكذا وفي كل المرات تأتي التوافق في ذيل القائمة ليس بالنسبة للعراقية فقط وإنما لدولة القانون والائتلاف العراقي أيضاً! علماً أن قضاء المحمودية في انتخابات ديسمبر/2005 صوت للتوافق بنسبة 85% !
قال: فذهبت إلى مجموعة من المراقبين من التوافق وسألتهم عن سبب تدني حصتهم من الأصوات، أتدري بم أجابوا؟ قالوا: “لقد خاننا الناس”! وهكذا يقدم الفاشلون نسختهم الجوابية نفسها دون تغيير. إنهم يبحثون عن سبب هزيمتهم في كل شيء، إلا في داخل أنفسهم التي تعشعش فيها عناكب الضعف، والله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11). وهكذا ينتقلون من فشل إلى فشل أسوأ منه.
الإعراض عن السنن
لا يبدو هذا الجواب مجرد انفعال لحظي لمهزوم لا يريد أن يقر بمسؤوليته عن الهزيمة، إنما هو رؤية مغلوطة تواطأ عليها الكبار، ويرددها وراءهم الصغار. في شتاء 2009 قلت لأحد الأعضاء الكبار في الحزب الإسلامي: لماذا ليس لديكم فعاليات سياسية تحرك الوسط الجامد، وتحرجون بها خصومكم؟ مظاهرات، إضرابات، عصيان مدني، تجمعات شعبية… وقد مرت بنا كوارث وكوارث تستحق هذا وأكثر منه، فضيحة المقابر الجماعية في المحمودية مثلاً. قال: يا أخي ماذا نفعل؟ الناس لا يستجيبون. وصار يذم الناس ويحملهم المسؤولية! قلت له: الناس قد غسلوا أيديهم وأيسوا منكم بسبب ضعف أدائكم؛ فمن الطبيعي أن لا يستجيبوا لنداء خاوٍ كسحابة صيف نافضة ينظرون إليها تقطع باسترخاء سماء يأسهم وإحباطهم. لم تحققوا لهم إنجازاً يعيد شيئاً من الحياة إلى أرواحهم الذاوية. صاح أحد الجنود في ساحة اليرموك وهو ينظر إلى الجيشين: ألا ما أقل العرب وأكثر الروم! فصرخ به سيف الله خالد: “اسكت! بل ما أكثر العرب وأقل الروم! إن الناس يكثرون بالنصر ويقلون بالهزيمة”. فأنعشوا أرواح الناس بنصر يلتفون به حولكم ويستجيبون لندائكم. فلما رأيت صاحبي لا يريد أن يسمع، وظل مستمراً يمعن في جداله قلت في نفسي: لا داعي للمداراة، لأقولنها في وجهه. قلت له: أتذكر يوم كنت على قناة الجزيرة تذم الدستور وتدعو إلى عدم تأييده، فقال لك المقدم: جاءنا الآن ما يلي: الحزب الإسلامي يوافق على التصويت للدستور، فما تعليقك على هذه المفارقة: أنت تدعو إلى مقاطعة الدستور وحزبك تراجع فأيده؟ وكان موقفاً لا تحسد عليه! أتذكر؟ ظل صاحبي ينظر إلي بحيرة ولم يحر جواباً. قلت له: فلا تلوموا الناس ولوموا أنفسكم، وارجعوا إليها فأصلحوها.
مبدأ ( تجنب المشكلة ) !
لا أريد أن أعدد أسباب الفشل؛ فليس هذا من شأني أنا، ولكن يمكنني أن أتكلم عن واحد منها فأقول: من أكبر معضلات (الحزب الإسلامي)، التي لا يشعر بخطورتها، تبنيه مبدأ (تجنب المشكلة)؛ وهذا يسبب حالة من (الجبن الجمعي)، وهي تختلف عن الجبن والشجاعة الفردية؛ إذ ليس شرطاً أن تتمثل في جبناء: فالأفراد قد يكونون شجعاناً – وهذا ظننا بهم – لكن المجموع يبدو مع هذه القاعدة البائسة كما لو كان جباناً، يخذل قومه وأهله أحوج ما يكونون إليه. والعراقيون على وجه الخصوص يهيمون بالشجاعة والأريحية والمواقف الشرسة، ولا يمكن لهم أن يتبعوا ويختاروا من يظهر بغير مظهر الشجاعة وشدة البأس. عشرين شهراً وأهل السنة في المحمودية، الذين صوتوا لجبهة التوافق، يذبحون بالجملة، وترمى جثثهم على المزابل، ويخطفون ويداهمون ويروعون ويهجرون، ولا يجرؤ أحد منهم أن يدخل السوق! فماذا فعلت لهم تلك الجبهة البائسة؟ لا شيء سوى أصوات خافتة مرتعشة تظهر مرة وتختفي دهراً، لا تزيد أهلها إلا ضعفاً، ولا أعداءها إلا جراءة. ثم لما فضحت المقابر الجماعية كانوا أكثر الصامتين صمتاً، وأقل العاملين عملاً؛ بسبب طمعهم في الرجوع إلى مناصبهم التي انسحبوا منها قبل الحادث، ثم راحوا يقتلون أنفسهم ويريقون البقية الباقية من ماء وجوههم في سبيل العودة إليها مرة أخرى، والمالكي يتلذذ بذلتهم وتذللهم، ولم يقبل بهم إلا بعد أن جرعهم نغبها جرعة بعد جرعة!
بعد كل هذا يعجبون لم لم ينتخبهم الناس؟! عجباً والله ثم عجباً!
ليس من سر
ليس هذا الذي أقوله سراً معجزاً، ولا طلّسماً معقداً، إنه واقع يتلكم بلسان فصيح، ولكن بعض الناس لا يفقهون.
كنت في موسم الحج بداية 2006 بعد الانتخابات السابقة بأقل من شهر، كان لجبهة التوافق في تلك الانتخابات شيء من المقبولية في الشارع السني. شكوت لأحد الأعضاء القدماء في الإخوان من المقيمين في أوربا خذلان الجماعة لنا، وضعف مواقفهم، وتهربهم من المواجهة. قال: الأخبار تقول بعكس ذلك، ألا ترى إلى تأييد كثير من الجمهور لهم؟ قلت: ليس حباً بموسى، وإنما كرهاً بفرعون. الناس يريدون تخليص رقابهم من الذبح، فيتعلقون بقشة. ولكن موعدنا الانتخابات القادمة، وسترى!
وحل الموعد ورأينا، ولكن ما الفائدة إذا كان السبب تغير المزاج الشعبي؟
ألا من سائل يسألهم: لماذا؟
ألا يسأل (إسلاميو) السنة أنفسهم: بعد سبع سنين لماذا الكرة ما زالت بين أرجل الشعوبيين من علمانيين ودينيين يتداولونها فيما بينهم، والجمهور السني غسل يديه سبع مرات منهم؟ لماذا ومأساة الأربع السنين الماضية مرشحة للتكرار وبالوجه نفسه؟ فأمارات التزوير تتجه لصالح المالكي. نعم قد ينفر علاوي ويشخر ولن تمر العاصفة بهدوء، ولكن النتيجة هي هي سواء فاز الأول وهو المرجح، أو الآخر وهو وارد: الخاسر الأكبر هو هو كما قالها خبير خسارات جبهة التوافق الأمين العام للحزب الإسلامي.
ويا قرة عيونهم!
وعيوننا أيضاً بهم!