القعقاع بن عمرو التميمي .. المسلسل التاريخي على قناة الـ (mbc1)
أبناء الرشيد
في بداية الشتاء الماضي أهداني صديق المادة الكاملة لمسلسل (أبناء الرشيد) على أقراص مضغوطة (DVD). لا أخفيكم أنني أصبت بالرعب وأنا أشاهد ذلك التشويه المتعمد لتاريخ أمتنا وسيرة عظمائها، في عمل بدا واضحاً – ومن أول الحلقات – أن اليد الشعوبية الإيرانية كانت وراءه، وأما الممثلون (العرب) فلم يكونوا أكثر من واجهة للعمل يتخفى وراءها المحرك الأصيل لهذه الواجهات الورقية المزيفة. وهكذا يستعيد التاريخ نفسه على المغفلين بصور مختلفة في مظهرها متحدة في جوهرها؛ إذ كانت الأحداث التاريخية التي حركتها على أرض الواقع اليد نفسها، قد اتخذت من وجوه عربية: إما ساذجة مستدرجة، أو متساذجة منتفعة، واجهات لتلك الأحداث. لا فرق سوى أن الحدث نفسه، بعد أن غادر أرضه، التقطته تلك الأيدي، فعملت به ما عملت تقطيعاً وقطعاً وإضافة وحذفا؛ ليطوع كما يراد له أن يكون، ويعرض على صفحات الكتب وشاشات التلفزيون.
قد تسألني:
- وهل رعبت حقيقة؟ أم ذلك من مجازات التعبير لدى الكتاب؟
- تريد الحقيقة؟ لقد شعرت بالرعب حقاً.
- وقبل أن تسألني متعجباً: عن السبب أقول لك:
- نظرت إلى العمل فوجدته إنتاجاً عربياً أردنياً، وإلى الممثلين فإذا هم سوريون وأردنيون. وإلى حجم العمل فإذا به ضخم مكلف مادة وجهداً، ويتطلب دعماً لوجستياً كبيراً، وموافقات أمنية ورسمية، رغم أن لغته كانت هابطة، وهذا لا يهم كثيراً.. المهم أن (الفكرة قد وصلت).
- لكن لما سألت نفسي: لصالح من كان هذا العمل؟ ومن دفع التكاليف؟ على قاعدة: (إذا أردت معرفة الجاني فابحث عن المستفيد).
- أجبت فوراً: إنها إيران!!! فكيف لا أرتعب وقد بلغت منا هذه العدوة الماكرة الخبيثة هذا المبلغ الخطير. و (ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا). وقد غزتنا إيران دينياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وها هي أصابعها تمتد إلى جمهورنا غير المحصن بما يكفي لتغزوه ثقافياً! فما العمل؟
وتذكرت فلم ( القادسية )………!!!
وتذكرت كيف أنني قبل الاحتلال بسنتين أو ثلاث سنين بحثت عن فلم (القادسية) الذي أنتجه العراق أثناء الحرب مع إيران، وكان التلفزيون العراقي يعرضه في كل مناسبة. لم أدع مكتباً للتسجيلات في بغداد يمكن أن يكون مظنة لوجوده إلا وطرقته لأعود منه بالخيبة! وسألت عنه من سألت ممن يظن أنه يمكن أن يكون إليه خيط صلة، ولكن دون جدوى!!! فتصور مدى تغلغل اليد الشعوبية في أجهزة إعلامنا! وكيف تآمرت على إخفاء هذا الفلم الذي يزعج إيران وأذنابها. ألهذا الحد وصلنا؟! ولهذا الحد وصلت إيران معنا وبنا؟!
بعد الاحتلال بسنين لم أصدق عيني وأنا أرى فلم (القادسية) في مكتب لبيع الأقراص المضغوطة في إحدى العواصم العربية فاقتنيت منه نسخاً، إحداها نقلنا محتوياتها مباشرة على موقعنا (القادسية). أقول لكم: كأنني أرى التاريخ يعود إلينا من جديد!
ورحت – وأنا دائخ الرأس في مسلسل (أبناء الرشيد) – في دوامتي أقول: أين الأمة؟ أين مثقفوها وأصحاب الشأن والمال والسياسة والقضية فيها من هذا العبث؟ لم لا يواجهونه بمثله؟ وانكفأت على نفسي أتخيل وأضع في ذهني بعض الحلول والتصرفات على قاعدة (مهمة أمة بجهود فرد).. وهذه هي علة مأساتنا المزمنة!
مسلسل القعقاع بن عمرو التميمي
شاهدت الحلقات الأُولى من مسلسل (القعقاع بن عمرو التميمي)، التي بدأ عرضها مع أول رمضان على شاشة قناة الـ(MBC1)، وأنا أتوجس خيفة أن تكون كالعادة: “وجوه عربية وأعجاز شعوبية”. ولكن شيئاً فشيئاً بدأ الأمان والاطمئنان يتسلل إلى نفسي. عندها صارت آثار ذلك الرعب تنمحي بالتدريج. إذن لسنا وحدنا في الميدان. إن هذا العمل وراءه أناس ساهرون كما نحن ساهرون. ترى هل سينتهي ذلك العهد الذي جعلت شعاره طيلة حياتي:
إذا الرعاةُ على أغنامِها سهرتْ | سهرتُ من حبِّ أغنامي على الراعي |
سرني في المسلسل – وقد رأيت أكثر حلقاته – تركيزه على المسائل الجوهرية التي اتخذتها الشعوبية الفارسية نقاط ارتكاز في المشاغبة على تاريخنا وديننا ورموزنا، ومعالجتها بما يناسب ويشفي ويثري. ومما زادني ثقة بما أرى أن المسلسل جرى تحت إشراف جماعة من أهل العلم، وجدت من بينهم المؤرخ العلامة أكرم ضياء العمري، وهو عراقي الأصل من الموصل يقيم منذ زمن طويل في المملكة العربية السعودية، وجرى تحت يديه تخريج الكثير من طلبة علم وعلماء التاريخ، ومنهم الدكتور علي محمد الصلابي المؤرخ الليبي صاحب المؤلفات المشهورة؛ فعمل يتم تحت رقابة هؤلاء يستبعد ألا يكون وراءه عاملون ساهرون، يحملون هم قضية.
انتقادات متحاملة
فوجئت بعد أيام من مشاهدتي المسلسل بمقال نشر على بعض المواقع لا يعرف كاتبه الذي استعار كلمة (وطن) اسماً مستعاراً له، استنسخه وأرسله إلي قبل أسبوع صديق على بريدي الخاص. عنوان المقال مثير وطويل: (مسلسل القعقاع دعم لوجستي إيراني ومالي لنشر الرؤية الإيرانية المذهبية وقلب للحقائق وإثارة للفتن الطائفية. غزو فارسي لعقول المسلمين من خلال المسلسلات المزورة للتاريخ)! مع تحذير نصه: (أضخم عمل إعلامي يعرض في شهر رمضان تتبناه دول الخليج). كذلك رأيت في شريط الأخبار على قناة (صفا) تحذيراً مشابهاً لهذا التحذير بنصه!
يومها كنت أتهيأ لكتابة مقالة تمتدح المسلسل، وتبين أهميته في هذا الظرف بالذات. لكن المقال المرسل أثار في نفسي شكوكاً، جعلتني أفكر أن ما سبق من حلقات ربما يكون استدراجاً لما بعدها؛ فأجبت صديقي بالرسالة التالية، وطويت كشحاً إلى حين كتابة تلك المقالة التي كنت أزوِّرها في خاطري خشية الاستعجال:
“إن كان المسلسل كما ورد في المقال، فهو خطير. ولكنني الى الآن لم أر فيه شيئاً غريباً – دعك من موضوع التجسيد – فننتظر إلى أن نرى المواضع التي تثبت الدس الإيراني، ولا أستبعد وقوعها. ولكن أشم رائحة المبالغة في كلام الناقد. خذ مثلاً هذا الاعتراض: (المشاهد 207-311: تعرض لموضوع قتل مالك بن نويرة، وزواج خالد بن الوليد من زوجة مالك، وشهادة أبي قتادة عليه. وبالرغم من أن المؤلف سلّمَ بردة مالك التي توجبُ قتله، إلا أن هذا لا يمنع من أن الموضوع خلافي بين الشيعة والسنة إلى يومنا هذا، ويُطرحُ دائما للنيل من إسلام خالد بن الوليد). هذا فيه مبالغة وتجنٍّ؛ فالأمر على العكس فيه تجلية ذكية لحقيقة الموقف. فعسى أن تكون بقية اللقطات كهذه.
ثم إني أستبعد أن تقوم إيران بدعم مسلسل أو أن تكون وراءه، وفيه مدح صريح للخلفاء الراشدين وعلى رأسهم الصديق والفاروق، بينما المنهج الإيراني يقوم على الصفاقة والعلنية في ذمهم. ولديهم من النفسية المعبأة بالحقد ما يكفي ليمنعهم من ذلك. اللهم إلا إذا تغلب عليها جانب )التقية). والله أعلم. وننتظر لنرى”. إ.هـ.
وها هو أسبوع يمر ولم أجد في المسلسل – إلى الآن ونحن في الحلقة الثامنة عشرة – ما يؤيد كثيراً تلك الرؤية المتطرفة للمقال، سيما وقد شهدت بنفسي بعض النقاط المنتقدة فوجدتها إما لا أساس لها، وإما فيها تحامل من شخص يبتغي تهشيم الهدف المقصود على أية حال، وبأية وسيلة. حتى صرت أقول، ولا أستبعد ما أقول: ولم لا يكون هذا الكاتب المجهول مدفوعاً من قبل إيران لتشويه هذا العمل الذي أتى على كثير من قواعد الفكر الشعوبي الإيراني، ومنها الطعن في عدالة الصحابة، فجعلها جذاذاً، ولإثارة البلبلة بين صفوف المشاهدين، لا سيما من أهل السنة لصرفهم عنه، وقد حك على جرب موضوع تجسيد الشخصيات الدينية العظيمة كالخلفاء الأربعة. النقطة الوحيدة التي وجدتها تستحق التوقف والنقاش. ولكنها لا يمكن أن تشطب على حسنات المسلسل العظيمة إلى حد اللحظة. بل هي، في أقصى حالاتها، من مثالب المسلسل التي تقدر بقدرها، ولا يتجاوز بها إلى وأد هذا العمل الذي أجده من أوائل الأعمال التي هي حجر عثرة في طريق الغزو الثقافي الشعوبي الإيراني، وليس العكس، ودليلاً على يقظة أو بداية استيقاظ الأمة على هذا التسلل الثقافي الخطير.
الملاحظ بقوة أنني لم أسمع – على حد علمي – أحداً وجه نقداً لتلك المسلسلات التاريخية الشعوبية التي صنعت على عين إيران، مثل مسلسل (أبناء الرشيد) الذي ذكرته في بداية الكلام. وفيها من المشاهد المسيئة لتاريخنا وديننا ما لاتخطئه عين الناظر فضلاً عن بصيرة الناقد. فلماذا؟
لماذا ذلك؟ ولماذا هذا؟