يوميات الحج .. من إعجاز الجغرافيا
هذه الصخور .. وهذا الماء والثمر ..!
انظر إلى جبال مكة، تلك الصخور الكونكريتية الجرداء الصماء، لا تكاد تجد فيها نبتة (وادٍ غيرِ ذي زرعٍ): من أين لها بهذه الثمرات؟! وليس فيها من نهر، فمن أين لها بكل هذا الماء المتدفق بلا حساب؟!
ملايين وملايين من الخلق يأتون إلى هذا البلد الخالي من الزرع والنهر على مدار العام، لا يشكون من قلة طعام ولا يعانون من شحة ماء. ليس هذا هو الأعجب في الأمر، إنما الأعجب أن القرآن العظيم وعد بهذا الرزق الوفير وتعهد به منذ مئات السنين، وأخبر أن هذه الحال ممتدة في أغوار الزمان، إنها دعوة الخليل عليه السلام: (وإذْ قالَ إبراهيمُ ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزقْ أهلَهُ من الثمراتِِ).
هل يمكن لبشر أن يعد بمثل هذا الوعد في مثل هذا البلد، ويضمن ذلك على طول الزمن، إلا وكذبه الحاضر والمستقبل، ولو في بعض الأوقات أو المرات؟ انظر إلى بلد مثل الأردن كيف يعاني من شحة الماء، فكيف لو زاره في العام عشرون مليوناً للحج والعمرة فقط، عدا الزيارات السياحية؟! يستحيل أن يقيت كل هذا العدد من البشر، فكيف تفعل مكة ذلك كله؟ وبوعد مسبق عمره آلاف السنين؟!! إنه الله جل في علاه: (وقالوا إن نتبعِ الهدى معكَ نُتخطفْ من أرضِنا أو لم نمكِّنْ لهم حرماً آمناً يُجبى إليهِ ثمراتُ كلِّ شيءٍ رزقاً من لَدُنَّا)، قف عند كلمة (من لدنا) لتدرك أن هذا الرزق لدني رباني، وإذا كان ذلك كذلك فليس في مكنة أحد وصله ولا قطعه.
وما يقال في نعمة الرزق يقال في نعمة الأمن. وبهاتين النعمتين امتن الله سبحانه على قريش إذ يقول: (لإيلافِ قريش…).
وهذا الجو …..؟
وهذا الجو: لماذا هو حار وجاف طيلة العام؟ هل تفكرت في هذا؟
في ثاني أيام التشريق، بين صلاة الظهر والعصر انتهيت من أداء المناسك. كنت في غاية التعب، لم أدر كيف تمكنت من المرور بأحد الدكاكين لأشتري بعض الهدايا. كانت السماء صافية، والجو حاراً نسبياً. نقلت أقدامي ببطء، وجرجرت جسدي إلى حيث ننتظر الحافلة كي تقلنا إلى مقرنا في جدة بعد تكامل عدد رفاقنا من الحجاج. كنا قريباً من فندق (أجياد مكة) عندما بدأت الغيوم تتلملم، وبعد قليل صارت السماء تبرق ثم ترعد بأصوات كأنه قصف الطائرات وانفجارات القنابل وانفلاق العبوات في شوارع الأنبار أيام المقاومة الأُولى. اتجهت ببصري إلى الفسحة المتبقية للنظر أمام المسجد الحرام بين صفي العمائر على الجانبين: إنها تبدو داكنة كأن دخاناً كثيفاً يغطي المكان! ثم….. بدأت الأمطار بالهطول، وصارت تشتد متلاحقة متتابعة كأنها في سباق مع اللحظات والثواني. والغيوم تخترق الفضاء بين أبراج العمائر تجري مسرعة، والرعد يقصف فتتلوى له أجساد الحجيج كأنها تلوذ منه فلا تجد إلا نفسها، وتنخفض الرؤوس، وترتفع بعض الأكف بحركات عفوية لتغطي الآذان رعباً من تلك الأصوات القاصفة، وهم يركضون هنا وهناك يبحثون عن ملجأ أو ملاذ. ثم بدأ البرَد أو كرات الثلج بالنزول.
وتذكرت يوماً شتائياً كنت أقطع فيه الطريق بين الرمادي والصقلاوية، وحبات المطر تتساقط فوق سطح السيارة وهي تتهادى في ذلك الجو البديع فتحركت الشفتان تترجم بعض رفرفات الشعور:
السُّحْبُ تهْتزُّ
ومن أحضانِها تنثالُ أطباقُ الدررْ
والريحُ عانقتِ الشجرْ
وصافحت أوراقَهُ
بلهفةٍ
كزورقٍ عادَ إلى أمواجِهِ
يُضاحكُ الصفصافَ والحَوَرْ
مُرفرفاً شراعُهُ
من بعدِ ما قد أرَهقتْ أحلامَهُ
على شواطئِ النسيانِ
أوهاقُ السهَرْ
فحنَّ للمجذافِ في عُبابِهِ
واشتاقَ للسفرْ
سبحان الله!
ما أروع المشهد! وألذ المنظر! وبرغم كل شيء كنت في غاية المتعة!
التفت إلى (أُم عبد الله) قلت: ها؟ أرأيت؟ هل أدركت الآن، وبالملموس، سر حرارة مكة وجفاف جوها؟ هذا ما حدثتك عنه سابقاً. لو كانت الفصول يسري قانونها على هذه البقعة المباركة كما هي الحال في بقية البلدان، لصادف الحج في بعض السنين أيام الشتاء. عندها يستحيل على أحد أن يحرم بملابس الإحرام الخفيفة، والتي تكشف عن أجزاء من الجسد، دون أن يصاب بأذى الشعور بالبرد، ثم المرض. فإذا ترافق ذلك بالمطر تمت المصيبة وهلك أغلب الحجاج، سيما أولئك الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.
إذن.. الذي فرض الإحرام في الحج هو الذي قضى بقدره أن يكون جو مكة حاراً على مدار العام!
إنه الله جلّ في علاه!