القيادة والقيادة الوسطى
د. طه حامد الدليمي
قبل شهر ونصف كتبت مقالاً كان عنوانه (جماهير بلا قيادة)، وذكرت فيه أن معضلة حراك الربيع العربي هي في فقدان الصلة بين المحرك والمتحرك.
في الأيام الأولى لانطلاق تظاهرات (ساحة التحرير) في العراق كنت أستمع إلى أحد قادة الفيسبوك وهو يتحدث لنا في جلسة خاصة بفرح عن دورهم وخطتهم في تحريك الجماهير باسم (ثوار بغداد). كانت مشاعري معه ومع المتظاهرين، ولكن هذا لا يغير من الحقيقة، التي تفرض نفسها على الأرض، شيئاً. كنت أبتسم أقول: لو علم المتظاهرون من هم الذين وراء حراكهم لما خرجوا! لا أقول هذا تشكيكاً في محدثي والجهة التي ينتمي إليها، وإنما تثبيتاً للحقائق القيادية التالية:
- إن حلقة أساسية مفقودة بين القيادة المحركة والجمهور المتحرك.
- وإن تحريك الجمهور من وراء ستار لا ثمرة تجنى من ورائه.
- وإنه ما لم يعرف الجمهور قادته على وجه الحقيقة فلا معنى لبذل الجهد من قبل أي قيادة لتحريك ذلك الجمهور نحو أي هدف؛ لأن زمام الأمور ليست في يدها، فالنتائج ستذهب أدراج الرياح. أضف إلى ذلك أن الهدف ينبغي أن يكون محدداً بوضوح.
أزمة قيادة
إن النظر إلى الأمور في غياب هذه الحقائق، لا سيما بعد تجربة ثماني سنين كارثية، يعني أن ثمة أزمة كبيرة في العقل القيادي، بحيث أن (القائد) يستهويه ما يستهوي الجمهور دون أن يتقدم على الجمهور بما يؤهله لتسنم منصب القيادة.
التفكير العوامي لدى ( النخب )
كانت إحدى القنوات العراقية – وما زالت – قد حشدت كل ما في جعبتها من جهد ومال لنقل وقائع تظاهرات ساحة التحرير، وتشجيعها والدعوة إليها بكل وسيلة وفي كل سبيل، حتى خصصت لها برنامجاً بعنوان (برلمان التحرير)! وجعلت هدف أهداف العراقيين (دعك من السنّة) إسقاط المالكي، مع أن مجلس الحكم وعلاوي والجعفري كانوا على رأس نظام الحكم وذهبوا (أو سقطوا.. لا فرق) دون أن يتغير شيء. بل المتأخر أسوأ من المتقدم، ولا فرق بين أن يكون زوال رأس الحكم بطريق عادي أو ضغط شعبي. أيامها كتبت أكثر من مقال عن (الربان التائه والبوصلة المفقودة). وهذا كله يعزز قناعتنا بأننا نعيش أزمة قيادة.
سرقة الثورات .. شواهد ومشاهد
وتناولت هذا القضية الخطيرة في حديثي عن الصراع في ليبيا وسوريا، وسجلت تخوفي من سرقة الثورة في غياب القيادة التي تنبع من الجمهور الثائر تنطلق منه وتعود إليه، وهو شيء لا تلحظه الجماهير الهائجة في حومة وحمى الحماس، بحيث لا ترى إلا شيئاً واحداً ولا تريد ولا تسعى إلا إليه، ألا وهو إسقاط الحاكم. الشيء نفسه الذي يعيش في غمرته القائمون على تلك القناة ومن على شاكلتهم. ثم متى ما وصلت تلك الجماهير الغائبة في لجة الحماس إلى هدفها وذهبت نشوتها وتبخرت سكرتها بذلك صارت تتلفت حولها وتتساءل: أين أنا من الحدث؟
وهكذا نشهد اليوم بوادر أزمة كبيرة في ليبيا هذه بعض شواهدها:
- رفض بعض الثوار تسليم أسلحتهم إلى الحكومة الانتقالية
- ثوار مدينة الزنتان يرفضون تسليم سيف الإسلام القذافي إلى الحكومة
- ثوار طرابلس يتمسكون بعبد الله السنوسي مسؤول مخابرات القذافي رافضين تسليمه
- عبد الله ناكر رئيس مجلس ثوار طرابلس يقول في مقابلة على قناة الجزيرة هذا اليوم (4/12/2011) ما معناه: على المجلس الانتقالي أن لا يتجاهل الثوار. صحيح أن المجلس يمتلك القرار عن طريق الدعم الدولي، لكن الأرض بيد الثوار. ويضيف: هناك مخاوف من العملاء والمندسين إذا سلم الثوار أسلحتهم. وحذر في مقابلة سابقة مع وكالة رويترز بأن أنصاره لن يترددوا في الإطاحة بالحكومة المقبلة إذا لم تعكس تمثيلاً صحيحاً للثوار في صفوفها.
ماذا يعني هذا؟!
الأزمة نفسها تدور في تونس.. ومقصدي يتركز على: هل المحرك والمتحرك هو الذي يقود الآن أم لا؟ بصرف النظر عن رأينا في الطرف الفائز.. هذه مسألة أُخرى تماماً.
في مصر مشاهد تشير إلى عملية سرقة لا يستهان بها تجري! لا أقصد أن السرقة كاملة بحيث لم يبق للجمهور الذي تحرك والأشباح التي حركت من شيء، وفي هذا بعض العزاء لهم! ولا يلزم من هذا أنني أرى الحال الأولى أفضل، وأنني لست مع الحراك. بل أنا مع ذلك عقلاً وشعوراً. ولكن هذا لا يمنع من الرصد والنقد للاستفادة وأخذ العبرة، برؤية عناصر الربح ومواطن الخلل؛ عس أن لا يمر المبضع على جسد الجميع.
لقد شهد (ميدان التحرير) وسط القاهرة قبل بضعة أيام تظاهرات دامية ضد المجلس العسكري. فماذا يعني هذا؟
ولي أن أسأل هنا سؤالاً جوهرياً: هل هذه الحشود كانت عفوية، بمعنى أنها كانت تمثل نبض الشارع؟ أم هي مدفوعة ومجيرة لصالح جهة ما عليها علامات استفهام، ولها علاقات مشبوهة بدولة ما؟ حقاً لقد أثار انتباهي مقترح بعض أعضاء قادة حركة الاحتجاج بأن يتولى الحكومة محمد البراذعي مع أربعة من الأشخاص أحدهم الإخواني المنشق عبد المنعم أبو الفتوح، وهو مرشح قوي لانتخابات الرئاسة؟ علماً أن تظاهرات أُخرى حاشدة باسم (الأغلبية الصامتة) جرت شرقي القاهرة في (ميدان العباسية) تعارض الأولى وتندد بها وتشكك في تمثيلها للجماهير المصرية هاتفة: “أوعَ ترحل من مليون.. إحنا معانا ثمانين مليون”. فمن منهما تمثل من؟
لنأخذ العبرة
في العراق نحن مقبلون على حراك ربما سيكون أشد وأعنف!
وحتى لا تتسرب جهودنا ودماؤنا – لا سمح الله – في فراغ، لا بد أن تضع القيادة المرتقبة النقاط الريادية الثلاث التالية في حسابها:
- أن تكون الهوية السنية حاضرة في كل حركة: مدنية كانت أم عسكرية، وليس الهوية العراقية فقط، التي صارت عملياً تعني الشيعة وحدهم دون سواهم، فكل ما يحصد ويجنى باسم العراق سواء عن طريق السنة أم الشيعة يتدحرج تلقائياً في سلة الشيعة، والسنة لا يجنون من ذلك كله سوى الأذى والتدمير! والواقع شاهد على كل أعمى! وهذا هو السبب الرئيس الذي لأجله عجزنا عن مسك الأرض، رغم أننا تمكنا من دحر المحتل. فالمقاومة قاتلت باسم العراق وليس باسم السنة، ، والسياسيون السنة خاضوا غمار العملية السياسية دون هوية سنية في زمن الهويات الخاصة. ولو تكلم السنة وتحركوا باسم السنة، فأسمعوا العالم اسمهم ودولوا قضيتهم لما انتهت المعركة إلا بتحقيق مطالبهم كسنة، ولما جلت قوات الاحتلال إلا والعراق ينعم في ظل سيادتهم.
- تهيئة قيادات ميدانية وسطى تشغل الحلقة المفقودة بين القيادة المحركة والجمهور المتحرك؛ حتى لا تتبدد الجهود، ولا تسرق الثورة، ولا تنحرف عن أهدافها.
- الظهور الواضح للقيادة المحركة أمام الجمهور المتحرك، قدر الإمكان، ولا مانع من المناورة بحدود، ولكن لا ينبغي أن تظل القيادة إلى النهاية شبحاً لا يعرفه من أحد!
وإلى لقاء الظاهرين المنتصرين على ربوع العراق الحبيب في يوم تسْوَد فيه وجوه إيران وشيعتها بالهزيمة والانكسار، كما اسودت وجوه أميركا وعملائها وهي تنسحب مرغمة من بلادنا على وقع ضربات المجاهدين وصولات كتائبهم الهادرة.