دروس في القيادة وعوامل النصر
د. طه حامد الدليمي
أثارني القارئ كثيراً وهو يتلو – قبل أيام – قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة:25). تأملت في عظيم ما بذل نبينا موسى عليه السلام من جهد، وما قدمه لقومه من تضحيات وإنجازات، ثم يقابل بهذا النكران والخذلان! وكأني أسمع صوته يتحشرج ألماً، وأرى عينيه تدمع حسرة على هذه النتيجة. والتفتّ لحالي ونظرت خلفي إلى طريق الدعوة الطويل المتلاشي خلف الأفق: كم تخلف فيه من خاذل، وكم خذل فيه من متخلف! كنت أتحسس قلبي وهو يُعتصر ألماً، وتجلت أمامي بعض معاني قول النبي صلى الله عليه وسلم، كلما عرض له ما يؤذيه: (رحم الله موسى لقد أُذي بأكثر من هذا فصبر). لم أجد ألماً كألم خذلان الأخ لأخيه، والصاحب لصاحبه!
كان موسى عليه السلام قائداً بحق، وكان أهلاً لأن ينتصر ويقيم دولة، لكنّ شيعته خذلته، كما خذلت علياً رضي الله عنه شيعتُه، فكانت النتيجة: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة:26). وفي هذا درس لنا أن القائد بجنوده وأتباعه، والرجل الواحد حتى لو كان نبياً من أولي العزم لن (ينتصر) ما لم تكن أمته أهلاً للنصر، وأن الأمة التي لا تعرف قيمة رجالها لا تنتصر.
أركان العلاقة بين الشعب والقائد
الثقة والطاعة، هما الركنان اللذان تنبني عليهما العلاقة السليمة من الشعب تجاه القائد. والثقة تتعلق بثلاثة أمور:
- الثقة أو الإيمان بالفكرة والمنهج والقضية التي يتبناها القائد
- والثقة بدينه وخلقه ونزاهته
- والثقة بكفاءته وأهليته للقيادة
فما لم يتأكد التابع من توفر هذه الشروط مجتمعة في شخصية القائد، فلا ينبغي ولا يصح ولا يجوز له أن يتبع قائداً لم يتيقن من حيازته على واحد من هذه القيم الأساسية في شخصيته. وذلك يعتمد على التاريخ والتجريب والسؤال من أهله.
ومتى ما تأكد التابع من ذلك وأعطى العهد على الوفاء لم يحل له أن ينكث لأدنى سبب، ثم يروح يختلق المعاذير، بل تجب عليه الطاعة في ما يحب وما يكره (في المنشط والمكره).
وأما ما مطلوب من القائد تجاه الأتباع فالاحترام وتوظيف الطاقات والشورى التشاركية.
أقسام الشعب المخذول
يؤسس القرآن الكريم لحقيقة كبيرة هما: أن الشعب المخذول هو الذي يتصف بإحدى خصلتين: عصيان القائد والتفلت من أوامره، أو ضعف الثقة به. ويتم الشر باجتماع السيئتين معا! تمثلت الخصلة الأولى في اليهود، وتمثلت الخصلة الثانية في النصارى. وهذا يتفق مع كون علة اليهود ليست في عدم العلم وإنما في العمل بمقتضى العلم، على العكس من علة النصارى، فكان اليهود مغضوباً عليهم والنصارى ضالين.
ثبّت القرآن الكريم هذه الحقيقة في مواضع من كتابه، وحكاها لنا في قصتين. أولاهما قصة موسى وهو يحث قومه على دخول الأرض المقدسة، لكنهم يأبون ذلك بكل وقاحة في الرد وإصرار على العصيان كما أخبر عنهم سبحانه فقال: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة:20-26). هذا شعب لا يستحق النصر، فليعانِ من التيه درساً حتى يستوعب الفكرة منهجاً، وقضية للحياة.
وانظر إلى النصارى من خلال الحواريين، الذين هم أفضل أتباع المسيح عليه السلام. يقول تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ * إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (المائدة:111-115). فهذا حال الحواريين: (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا) فكيف بمن دونهم؟! وهذا شعب لا ينتصر أيضاً.
والقصتان في سورة واحدة هي سورة (المائدة)، جاءت القصة الأولى في أولها، وجاءت القصة الثانية في نهايتها!
من دروس الواقع
من خلال التجربة الشخصية وجدت الفشل يتسلل إلى كل عمل جماعي من تخلف واحد من هذين العنصرين: الثقة والطاعة، أو كليهما. هذا عندما يتعلق الأمر بالأتباع. كما لاحظت استخفاف الناس العجيب بالوفاء بالعهد، وكأن الله تعالى لم يقل في كتابه: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:26،27)، ولم يقل كذلك: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) (الرعد:19-26)! حتى بت كثيراً ما أتذكر قوله تعالى عن أهل القرى وهو يقص على خلقه من أنبائها: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) (الأعراف:102). ولو اقتصر الحال على العوام لهان الخطب، ولكن رأيت كثيرين من شيوخ الدين هم أسرع الناس إلى نقض العهود وإخلاف الوعود!
نصيحتي إلى جنود القادسية وقادتها أن ينتبهوا إلى هذا الموضوع الأساسي في نصر قضيتهم، ويتمثلوه قولاً وعملاً ودعوة وتطبيقاً، وليترقبوا ساعة النصر، فما هي منهم ببعيد.