يوم الجلاء
د. طه حامد الدليمي
حدثان كبيران كنا نتمنى وقوعهما، ونمنّي النفس بحصولهما، حتى إذا وقع ما رجوناه، وحصل ما تمنيناه، إذا هو باهتٌ لا طعم له: فك الحصار وجلاء الأمريكان.
أما الأول فقد جاء في وقت كان الوضع الاقتصادي فيه – وما زال – قد بلغ حداً من السوء وغلاء الأسعار، والوضع الأمني بسبب الاحتلال والاختلال، وكذلك الوضع السياسي والعسكري والاجتماعي، كل ذلك بلغ حداً لا يفرح فيه بفك حصار، ولا يؤبه لشدته..!
وقد صارتْ جروحُكَ لا نُبالي ،، لكثرتِها ،، أتنقصُ أَمْ تزيدُ
نعم.. جلاء الأمريكان حدث كبير بكل معنى الكلمة، وشرف عظيم تسربل بإنجازه سنّة العراق أبد الدهر وحدهم دون منازع!
فرحة النصر
وحق لسنة العراق أن يفرحوا ويحتفلوا بنصر الله!
كنت أرى دبابة “برامز” العملاقة رابضة على الطريق، أو تترصد جانبه، فأسرح مع نفسي: “هل يمكن أن تزاح هذه الدبابة من أرضنا يوماً من الأيام؟ وهل يمكن أن نرى ذلك اليوم الذي تختفي فيه هذه الآفة من ربوع العراق؟! كيف؟! ومتى؟!”
وأنتبه إلى نفسي مستعيذاً من هذه الهواجس، فلا أجد مهرباً منها إلا قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر:2-4).
كانت سورة (الحشر) أقرب سور القرآن العظيم إلى نفسي؛ لأنها تبشر بجلاء الاحتلال وهزيمة أعوانه و(إخوانه): (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) (الحشر:11،12). ومع سورة (الحشر) كانت سورة (الشرح) وسورة (الفيل) تهونان عليّ لأواء الطريق، وتحملان عني أوصابها، وتخففان من آلامها رغم أنهما يبدآن بـ(ألم)، فكنت أقول: [(الحشر)، نعم الحادي في طريق التحرير! وما وجدت ألذ من (ألم .. وألم ..) في الجزء الأخير].
في يوم من أيام سنة 2005 رأيت جندياً في سيطرة عسكرية عند مدخل (جسر الجزيرة) في (الرمادي)، يلبس خوذة تطوقها كتابات طائفية متخلفة “يا حسين يا مظلوم يا شهيد” وما شابه ذلك، كنت أقف في طابور التفتيش، وأرقب هذا الصعلوك الشيعي تبدو على وجهه علامات إحساس بنشوة وهو ينقِّل البصر بين أسياده ثم يتوجه به إلينا مبتسماً وفي يده حبل يقود به كلباً بوليسياً، ويستهزئ برجال الجهاد والمقاومة كيف يتخيلون أنهم قادرون على هزيمة الأمريكان وإخراجهم؟ قلت له: بل سيخرجون. قال: كيف؟ قلت: الله يقول سيخرجون، وتلوت على مسامعه آية (الحشر) فأُخرس كأن أُلقم بحجر!
وعند باب مسجد (الإمام الشافعي) في حي (التأميم) في (الرمادي)، كانت السيارات يزدحم بها الطريق وقد سد الأمريكان (جسر الورار)، والناس يتأففون، ونحن ننتظر أكثر من ثلاث ساعات. يومها أردت أن أكون شاطراً فدرت بسيارتي حول حي (الخمسة كيلو) لأتجنب العبور من (جسر الجزيرة)، متوهماً أن المروق من (جسر الورار) سيكون أسهل، فإذا أنا أهرب من المطر لأقف تحت المرزيب. رأيت مجموعة من الشباب ينتحون جانباً من الطريق يتكلمون متذمرين. نزلت من السيارة تاركاً الأهل فيها، سلمت عليهم وقلت لهم: لا تبتئسوا سيخرجون، فأجاب أحدهم: متى؟! والله لن يخرجوا! فأجبته: الله يقول لا أنا.. وتلوت عليهم آية الحشر، فرددوا بصوت واحد: “ونعْمَ بالله”! وكأنهم – والله – لم يسمعوا بها من قبل!
ويتحقق الوعد.. ويخرج الأمريكان! يخرجون بعد ثمانية سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام فقط! في أسرع عملية جلاء لاحتلال في العصر الحديث، والقديم أيضاً. هذا وقد جاء الأمريكان وهم يبشرون بالبقاء في العراق ثمانية عقود، على أن بعضهم ينقص، وبعضهم الآخر يزيد. ويدخل هذا اليوم (18/12/2011) سفر التاريخ!
منغصات الفرح
لكنني لا أكاد أشعر بالفرح!
في يوم 6/6/2005، ثاني يوم على هجرتي إلى الشام، أخذنا صديق إلى بلودان المنطقة السياحية المعروفة. وبينما نحن جلوس في مطعم يطل على واد جميل سألني أحد الجالسين: كيف هو شعورك وإحساسك في هذا الربيع والمكان البديع؟ فأجبته والحزن يلفني بكفنه: إحساس من يبلع أطيب طعام ملفوفاً بغلاف من النايلون: هل يجد له طعماً؟ إنني في عزلة عما يحيطني، ولولا الصحبة ما أتيت.
هذا هو شعوري إزاء جلاء المحتل!
في أواخر عام 1991 تلقيت نبأ هزيمة الروس وجلائهم من أفغانستان برؤيا في المنام كأن صديقاً لي هناك بعث لي بسيارة (بيك آب) محملة بأطيب نوعين من الحلوى في العراق: (الزلابيا والبقلاوة)، لكن الذباب الذي ينتشر على الحلوى كان ينغص عليّ ذلك المشهد الشهي!
هكذا أنا الآن. عقلي وفكري فرحان، وقلبي وشعوري خدران.
إن جلاء المحتل الخارجي ملفوف بنايلون المحتل الداخلي، وحلوى جلاء الأمريكان يلوثها ذباب الشيعة وأقذاء إيران.
علل السنة والمقاومة السنية
إن هذا المحتل الداخلي، الذي جلب المحتل الأجنبي، واصطف معه ضد المجاهدين الشرفاء كان أحد الأسباب الكبرى في إضعاف المقاومة التي أخرجت المحتل الغربي، لكنها لم تتمكن من مسك الأرض من بعده، ولم تفرض عليه التوقيع للجلاء حسب شروطها، رغم أنها أجبرته على الاعتراف بها ممثلاً وحيداً للمقاومة، يوم وقع على ذلك سنة 2009 في إستانبول مع (المجلس السياسي للمقاومة العراقية) بحضور الأتراك.
والسبب الآخر أن المقاومة العراقية – على عكس كل المقاومات في العالم – لم تجد لها حاضنة إقليمية من كل دول الجوار. هذا والمليشيات الشيعية كانت محتضنة من إيران وسوريا ولبنان، وقد عملت بذكاء الشياطين فخططت لمسك الأرض بعد الأمريكان متبعة معادلة اجتثاث السنة ومطاردة المجاهدين، مع المشاغبة على الأمريكان على قدر الحاجة، مترسمة منحنى حمى الملف الإيراني: تصعد بصعوده، وتهبط بهبوطه.
لكن السبب الأهم هو ما كان مصداقاً لقوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:165)، وهو ما ارتكبه السنة في حق ربهم وحق أنفسهم: فقدان الهوية، الذي أفقدهم القضية! هنا العلة الكبرى والأزمة العظمى. فحتى تريد لا بد أن تكون، ولا كيان بلا هوية.
الهوية وتدويل القضية
أيها السنة!
عودوا إلى دينكم، وافهموا واقعكم، وتمعنوا في سياستكم. اعملوا ولكن بهوية سنية، لقضية سنية. هذا من جهة. ومن جهة أُخرى لا تكتمل الدائرة إلا بها: تدويل القضية. لقد دوّل الشيعة قضيتهم فوصلوا، والكرد كذلك فوصلوا، ومن قبل فعل اليهود. وهكذا كل شعب. لسنا في عزلة عن العالم، وما لم نقنع هذا العالم بأن في العراق (سنة) يبادون ويسحقون لن يكون ما نريده أن يكون.
إذا عملنا بهوية سنية، وتمكنا من تدويل القضية، عندذاك نسترجع العراق المفقود، ونفك الأغلال عن بغداد.. ويومئذ نطرد إيران، ونعيد الشيعة إلى حجمهم الذي هم عليه.. (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم:4-6).