منذ زمن بعيد، وقبل الاحتلال بفترة، كنت أقول: الطائفية هي الحل أمام الاحتلال الشيعي في العراق، الذي يقتصر دوره الأساسي على تمثيل (حصان طروادة) حاملاً في أحشائه الاحتلال الفارسي؛ فالشيعة هم القنطرة التي يعبر عليها الفرس إلى العراق. أما الحمار الذي يحمل على ظهره ذلك الحصان فهو (ترضوية) السنة! (ابتسمت في سري وأنا أكتب هذه العبارة.. شيء جميل أن يحمل حمار على ظهره حصاناً؛ كم كبير ذلك الحمار!). وكنت أمثل لجلاسي بأمثلة تصدم الأسماع، أقول لهم: متى ما سمعتم في الشارع من يقول كذا وكذا (ألفاظ معينة ضد رموز الشيعة تعبر عن طائفية السنة واعتزاز السني بطائفته) فقد بدأ الخطر بالانقشاع.
وجاء الحصان الشيعي بالاحتلالين: الغربي والشرقي. فانبرى الحمار يتبختر بنعومة ملمسه ويحصي كم علامة شبه بينه وبين الحصان الشيعي، الذي على قدر اقتراب الحمار منه يبتعد ويتقزز ويتقذر. وكنت أقول لجلاسي: سيقولونها، حركة الاجتماع تفرضها عليهم، وسينطقونها ولو تقيؤاً. أقول ذلك وأنا أقبض على بلعومي وأمرر أصابعي فوقه صعداً إلى الحلقوم!
وها قد جاء اليوم الذي بدأ الجمهور السني يتخلص فيه من تبعات الحمير الخانعة، التي لا تجيد غير الصبر والانتظار إلى ما لا نهاية.
ولا يقيمُ على ضيمٍ يرادُ به | إلا الاذلانِ : جحشُ الحيِّ والوتدُ | |
هذا على الخسفِ مربوطٌ برِمَّتِهِ | وهذا يُشَجُّ فلا يرثي لهُ أحدُ |
وقالوها..
وخرجت جموع السنة في الأنبار يوم أمس (الأحد 23/12/2012)، متجاوزة عتبة التظاهر إلى ربوة العصيان المدني، وقطعوا الطريق الدولي الرابط بين العراق وبين سوريا والأردن، بعد أن لج الشيعي في حماقته، وتمادى في إذلاله لكرام بني يعرب من سنة العراق.
اللافت للنظر في هذه التظاهرات ثلاثة أمور لم تكن من قبل: حجم التظاهر، والعصيان المدني، والشعارات المرفوعة.
ما يهمني من ذلك كله هو الأخير. فالهتافات واللافتات يغلب عليها (السنية)، والتأكيد على حقوق أهل السنة والجماعة. وهذا شيء لم يحصل ولو مرة واحدة من قبل، سوى هتاف لفرسان (القادسية) في سامراء قبل بضعة شهور (سامرا سنية ومتصير شيعية).
إن هذا هو مبدأ الطريق. وهذه بداية اكتشاف البوصلة التي كانت ضائعة في المظاهرات التي حصلت قبل أكثر من عام حين وصلت عدوى خفيفة لحراك (الربيع العربي) إلى أطراف العراق. وكتبت يومها أن الربان تائه والبوصلة ضائعة. نعم بدأ الجمهور الآن باكتشاف البوصلة، ولكنني ما زلت أبحث عن الربان!
أهم المطالب : الفدرالية و….. مشاركة المتظاهرين في صناعة القرار
ما يقال تجاه هذه الظاهرة الجديدة كثير، سأركز على ما أراه الأهم في هذا الوقت، وأختصره بنقطتين فقط؛ حتى لا يطول الكلام فينسي بعضه بعضاً، تمثلان أهم مطلبين أريد من المعتصمين التمسك بهما:
- ضرورة استثمار هذا الحراك وتطويره تصاعدياً حتى تحقيق الفدرالية السنية. فلا توقف دون سقف (الإقليم السني). فهذه فرصة ذهبية قد لا يتكرر مثلها قريباً.
قبل أقل من سنة اتصل بي شخص على قناة (وصال) يقول: إن الشيعة لن يسمحوا بقيام الفدرالية السنية. فأجبته: لا يهم؛ إن ذلك سيكون الوقود لـ(القضية) السنية المغيبة. والقضية هي التي ستحقق الفدرالية وما هو أعلى منها. وها قد أقبلت خيول القضية فحيوها بما تستحق قبل أن تدبر عنكم غاضبة. يقول سيدنا علي رضي الله عنه: “قيدوا أطراف النعم إذا وصلت إليكم، ولا تنفروا أقصاها بقلة الشكر”.
- من الخطأ الاستراتيجي أن يظل الحراك تقليدياً، بحيث لا يمثل المتظاهرون إلا ذيلاً للسياسيين تابعاً لهم، يدعم رؤيتهم، ويقوي موقفهم لمكاسب معظمها شخصية، وهم عادة ما يكونون مدجَّنين مروَّضين لإرادة الحكومة المركزية، يسيرون على خط التهدئة والحلول الترضوية التي تتوقف في منتصف الطريق وعوداً، وتتراجع إلى نقطة الصفر واقعاً. لا يصح أن يصنع الجمهور الحدث ثم يستثمره غيرهم. من يصنع الحدث هو الذي يستثمره.
على قادة العصيان أن لا يبقوا (مشلوحين) على قارعة الطريق بعيداً عن مركز اتخاذ القرار في مجلس المحافظة. عليهم أن يشكلوا منهم هيئة فاعلة تشارك في اجتماعات المجلس تبين رؤيتها، وتطرح رأيها، وتفرض إرادتها حسب الأصول المرعية. وليعلم إخواني قادة العصيان أن الناتج وإن كان يجنى في أرضية الشارع، لكن الميزان لا يكون إلا على طاولة المجلس؛ ومن غاب عن الميزان فقد ضيع الأثمان.
لقد استمعت اليوم إلى ما ألقي من كلمات في جلسة (مجلس محافظة الأنبار) يوم أمس، وكانت كلمات لا يرقى أعلاها إلى أدنى مطلب وشعار سمعناه من الجماهير المحتشدة عند الشارع أو الطريق الدولي! كانت الكلمات ترضوية، تبجل (دولة) رئيس الوزراء، وتدعوه إلى زيارته لمحافظة الأنبار، والمحافظ يبشر بأن (الأزمة في طريقها إلى الحل). وغيرها من مضامين خطاب مخيب للآمال. الغريب أن رئيس المجلس توجه بعدها إلى مكان المعتصمين وتلا على مسامعهم بياناً للمجلس مدغدغاً للعواطف، عمومياً فضفاضاً يتلخص في النص الآتي: “قررنا تأييد مطالب المعتصمين في الأنبار، وأن مجلس المحافظة جزء منكم”. وهنا تعالت أصوات التكبير! ثم خطب فيهم خطبة نارية، لم أجد فيها إلا حقنة مخدرة لوعي الجمهور، ووسيلة مبددة لغضبه وجهده وعرقه!
كنت أرى الصفحتين من خلال الشاشة: صفحة المجلس التي صيغت للتنفيذ، وصفحة الجمهور التي زوقت للاستهلاك، فكنت أرى ثعلبية السياسة، وطيبة الجمهور. وأقول كيف يمكن لهذا الجمهور الذي لم يطلع سوى على صفحة واحدة أن يعرف قبل فوات اللحظة المناسبة تلك الصفحة الغائبة؟ وكيف له أن يدرك أنه الأقوى؟ فلا يرضى أن يقوده ضعفاء يتمسحون بأذيال (الحكمة)، وأن لا يسكت حتى تكون قياداته نابعة من وسطه، وبشروطه ورقابته، فلا تمرر المؤامرات عليه وهو لا يدري ومن تحت قدميه!