الفقه الحقيقي (1)
د. طه حامد الدليمي
الحاضر السيئ غرس ماض سيئ، وأسوأ ما في الماضي الذي أنتج هذا الواقع السيئ هو الفكر، وما سواه فليس سوى نواتج وإفرازات وتداعيات.
واقعنا ينام على ركام من الأفكار والمسَلّمات المريضة.
وقد لا تجد كلمة مثل كلمة (الفقه والفقيه) و(العلم والعالم) و(الشيخ والمرجع) توجهت إليها حملات التشويه والتخريب فاختفى وجهها وما عاد حتى طالب العلم يتبينه من وراء تلك الحجُب الكثيفة من التغيير والتحوير والتزوير المتراكم على مر العصور. وحتى صار مثلها مثل المال حين تحتكره مجموعة من التجار والأثرياء فيكون (دُولة) بينهم، لا يكاد يخرج إلى أحد من غيرهم حتى توجه إليه التهم من كل مكان (من أين لك هذا)؟ ولا يتركونه دون أن يستعملوا نفوذهم في اتهامه وإسقاطه. وإن نجا من بين مخالبهم ناجٍ فهو أولى الخلق بأن يقال له: “يا ويحه كيف نجا؟!”. وإذا كانت الشعوب تثور على من يغتصبها أموالها وحقها في الرزق، فأولى الناس بالثورة أولئك الذين تغتال عقولهم، ويغتصب فكرهم، ويقادون إلى الهاوية بسلاسل من خيال العلم وخبال الفكر.
لقد صارت كلمة (الفقيه والعالم والشيخ) حكراً على طبقة هي أقل الناس نفعاً للناس، ومع ذلك لا ترضى حتى تقدس وترفع فوق الرؤوس! مثلهم كمثل ثري بخيل يرهبه الناس ويحترمونه لمكانته، وإن لم يستفيدوا منه إلا النزر اليسير.
لهذا كان مفتاح التغيير في تاريخنا (اقرأ).
من الفكر يبدأ التغيير. فالفكر هو المسار والطريق والسكة، ولن يصل قطار موضوع على السكة الغلط. هذا أقل ما يقال في حقه، وإلا فهو المسار والسائر والمسير، والمسافر والخطى والطريق، والسكة والقطار وما فيه.
ومن تصحيح الفكر إرجاع الكلمات إلى معانيها الصحيحة. فتعالوا بنا (نقرأ).. نصحح.. نفكر.
إن الموضوع الذي أريد الحديث عنه شرعي بامتياز، فقبل كل شيء ينبغي أن نتحاكم فيه إلى الشرع في ركنيه الأساسيين: القرآن والسنة لنتملى في المعاني الربانية لمفردة (الفقه) حيثما وردت في أيٍّ من هذين المصدرين العظيمين. بعدها يمكن التوسع بما لا يتناقض أو يهمش المعنى الرباني للفظ القرآني.
الألفاظ الدينية: لغوية واصطلاحية شرعية
اللفظ الديني [أي الوارد في الكتاب والسنة] له أحد معنيين: الأول: المعنى اللغوي. والثاني: المعنى الاصطلاحي الشرعي. فإذا كان للفظ تحديد شرعي زائد على المعنى اللغوي، وإلا رجعنا باللفظ إلى أصله في اللغة، مثال ذلك ألفاظ (الشجر، الحجر، الإنذار، البشارة، الصدق، الكذب، الليل، النهار، النوم، اليقظة، الأكل، الشرب، السحاب، المطر) وغيرها. أما الألفاظ التي يرجع فيها إلى التعريف الشرعي فمثالها (الإيمان، الإسلام، الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، العبادة، الزواج، الطلاق) وغيرها.
ألفاظ اصطلاحية متأخرة
هناك ألفاظ شرعية صار لها – بحكم الحاجة العلمية التي طرأت متأخراً – معانٍ اصطلاحية متأخرة، ومثالها – باختصار – لفظ (السنة). فهذه تفهم حسب معناها الوارد في الاصطلاح ضمن إطارها العلمي الخاص فقط، ولا يخرج بها لتتجاوز حدها المقصور في إطار العلم إلى اللفظ بمعناه المقصود في فضاء الشرع.
السنة في اصطلاح (أصول الفقه): (ما أثيب على فعله ولم يعاقب على تركه). أو هي المستحب من العبادات. أما في مقصود نصوص الشرع فيعني لفظ (السنة) واحداً من أربعة أمور:
- أولها الدين كله كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي)([1]).
- وثانيها الحكم الشرعي كما قال تعالى في وجوب قتل المنافقين المجاهرين: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (الأحزاب:60-62).
- وتعني أيضاً الحكم القدري أو (القانون الكوني) كما في قوله جل وعلا: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (فاطر:43).
- كما ورد لفظ (السنة) بمعناه اللغوي الأصلي، وهو ابتداء شيء لم يكن معهوداً من قبل. كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).
ولم ترد (السنة) في نصوص الشرع المتقدمة بالمعنى الاصطلاحي المتأخر، وهو المستحب.
لا يفسر اللفظ الشرعي المتقدم بالمعنى الاصطلاحي المتأخر
يفهم اللفظ الديني أو الشرعي بمعناه حين نزوله، وليس بالمعاني الاصطلاحية العلمية المتأخرة، أو بالعرف المتأخر. فلا يصح أن نفسر قوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي)، ولا قوله تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) وأمثاله بالمستحب من الأحكام الشرعية.
فالمعنى الاصطلاحي أو العرفي المتأخر ليس حجة على المعنى الشرعي المتقدم، يخضع له ولا يفهم إلا بحدوده. بل المعنى الشرعي هو الحاكم والمهيمن، ولا يصح الاصطلاح على معنى في خلافه أو نقيضه. بل يفهم اللفظ بمعناه حين نزوله فحسب. تماماً كما لا يفسر لفظ (السيارة) في قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) (المائدة:96)، وقوله: (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ) (يوسف:19) بما اصطلح على معناه من المركبة المعهودة في العرف المتأخر.
المعنى الشرعي للفظ ( الفقه )
لو أخذنا مفردة واحدة من مفردات الجذر الصرفي (فقه)، وهي كلمة (يفقهون) وتتبعناها في الكتاب الكريم نجد ما يلي:
- وردت هذه الكلمة (يفقهون) [13] مرة في القرآن الكريم.
- في كل المواضع الثلاثة عشر – وبقية المواضع ذات التصاريف الأُخرى – ورد اللفظ وَفقاً للمعنى اللغوي المراد من كلمة (الفقه)، وهو: العلم بالشيء والفهم له سواء أكان الشيء دقيقاً أو جلياً. قال ابن منظور في (لسان العرب): الفِقْهُ: “العلم بالشيء والفهمُ له… يقال: أُوتِيَ فلانٌ فِقْهاً في الدين أَي فَهْماً فيه. قال الله عز وجل: (ليَتفَقَّهوا في الدين)؛ أَي ليَكونوا عُلَماء به”. ومنه دعاء النبي صلى الله عليه و سلم لابن عباس: (اللهم فقِّهه في الدين, وعلمه التأويل)([2]).
لقد شملت معاني الكلمة في المواضع المذكورة علوم الآخرة وعلوم الدنيا معاً. فمن ذلك العلم بالقدر والسبب (النساء:78)، والعلم بقدرة الله والتمعن بآياته ودلالاتها: (الأنعام:65)، وما في هذا الباب من معرفة الله وكل ما يبعث على تعظيمه وإخلاص العمل له، وما شابه ذلك من المعاني المذكورة، مثل الهداية والتزكية والعلم الباعث على معالي الأمور دون سواها.
وفي الوقت نفسه تناولت الكلمة الحث على العلم بأصل الخلق: (الأنعام:98). والعلم بآيات الله في الكون: (الأعراف:179) جنباً إلى جنب العلم بفنون العسكرية والقتال: (الأنفال:65)، وفنون الصناعة وبناء السدود وما يدفع به العدو الصائل: (الكهف:93-96)، وما شابه ذلك.
وهذا يعني أن الفقه المطلوب من قبل الله تعالى لا يقتصر على علوم الدين البحتة، بل يعم علوم الدنيا كذلك. ففقهاء السياسة والقيادة والإدارة والحرب والأمن والقانون والطب والزراعة والإعلام والهندسة والنفس والاجتماع وغيرهم من المتخصصين في علوم الدنيا هم (فقهاء) بالمعنى الشرعي للفقه. ولا تبنى دولة الإسلام من دونهم، أو بفقهاء الشريعة فقط، فضلاً عن فقهاء الفروع دون سواهم من فقهاء الشريعة.
- لم ترد الكلمة بالمعنى الاصطلاحي المتأخر في كل المواضع الثلاثة عشر.
نعم يندرج الفقه الاصطلاحي في عموم معنى الفقه الشرعي. لكن يبقى الفقه المذكور في القرآن الكريم أسمى منزلة وأرقى درجة وأعظم مكانة من الفقه المسكوت عنه فيه. ولا يجوز بحال أن يطغى المتأخر المسكوت على المتقدم المذكور. فإذا حصل العكس – كما هو الواقع – فمعنى ذلك أن انقلاباً كبيراً حصل في أخص مفاهيم الدين وأسس الحضارة.
________________________________________________________________________________
[1]– رواه أبو داود، وهو صحيح.
[2]– رواه البخاري.