العقيدة والتاريخ و .. شيء من التجريب
د. طه حامد الدليمي
أتريد مفتاحاً ذهبياً يفتح لك أبواب الأمم والطوائف والأفراد، ويحُل ما في أقوالهم وأفعالهم وسلوكهم من عُقد وشفرات تستعصي على الفهم؟ ويمَكِّنك من اتخاذ الموقف المناسب تجاههم؟
اقرأ عقيدتهم، وقلّب صفحات تاريخهم. فستعرف كل ذلك. أما واقعهم فيكفيك منه الإشارات.
العقيدة .. التاريخ .. وإشارات الواقع دون عباراته.. هذا هو مفتاح معرفة الأمم والطوائف والأفراد، بأسنانه الثلاثة متدرجة حسب حجمها! ولكن علتنا في جمهور لا يقرأ، و.. نخبة لا تريد الاستشفاء إلا بمبضع الجراح، و.. على طاولة التشريح!
قصة أبينا آدم عليه السلام
في أول قصة وردت في القرآن الكريم تجد ذلك كله بشيء من التدبر الحكيم.
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:34). في مواضع أُخرى تجد بعض تفصيل لعقيدة إبليس الكفرية بما فيها من عُقد نفسية تختصر لآدم عليه السلام الصورة المعبرة عن تلك الشخصية: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (الأعراف:12،13). عصيان ودعوى وكبر.
هل كان أبونا آدم في حاجة لتجريب إبليس أكثر للتعرف على إبليس وعداوته له، وعنده هذان المعلمان الكبيران: معلم العقيدة الفاسدة؛ فأي عقيدة أفسد من عقيدة تدفع صاحبها إلى التعالم على الله! وتوهم الخيرية الذاتية التي لا مستند لها سوى عنصر التخليق (النار)! ومعلم التاريخ الذي ينضح بالحسد بالكبر والتعالم وينم عن شخصية حسود حقود؟ ثم هو الذي قال في حوار غير مؤدب مع الله سبحانه: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:16،17). ثم أعقب هذا الموقف الطرد والإبعاد: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف:18). وكل شيء كان يجري بمحضر آدم وشهوده هو والملأ الأعلى؟
يقول تعالى في سياق الآيات السابقة: (وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف:19-21). قاسمهما: أقسم لهما. المقسِم هو إبليس الكافر الحقود، والمقسَم عليه هو أنه ناصح أمين، والمقسَم له أبوانا آدم وحواء. كيف صدق أبوانا هذه الدعوى مع سابق المعرفة بكفر إبليس وفساده وصفاقته ووقاحته وتكبره على الله وملئكته، وعلى آدم أيضاً؟! ومع النهي الحاسم الصريح عن الوقوع فيما دعاهم إليه ذلك الكافر الصفيق؟!
من أخطأ بعد البيان فعليه تحمل النتائج
لما توفر العنصران الأساسيان لمعرفة العدو (العقيدة والتاريخ)، وجرى التحذير على أساسهما، فلم يحصل الاتعاظ، كان القرار الرباني: (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (الأعراف:24). وهبط أبونا آدم عليه السلام مزوداً بتجربة غنية: علماً وعملاً، أفادته الاعتبار الذي أغناه عن الوقوع في تجريب جديد لعدو تليد.
لم يقص الله تعالى في كتابه القصص لأجل التسلية وقطع الفراغ، وإنما للعبرة حتى لا يتكرر علينا الدرس بكل ما فيه من أثمان وتضحيات. وإلا فمن أخطأ بعد البيان فعليه تحمل نتائج عمله.
إشارات الواقع
كان مع أبينا آدم شيء من العذر، إذا قلنا: إن النظرية تحتاج إلى تجربة لكي تترسخ في نفس الناظر، فوقع في خطأ التصديق بتغرير إبليس المعزز بالقسم، وربما كان هذا سبباً في قبول عذره وتوبته؛ فليس أحد أكثر من الله تعالى حباً لإعذار المذنب والعفو عنه لأهون سبب.
كانت تلك التجربة التي تسببت في خروج آدم عليه السلام من نعيم الجنة، وهبوطه إلى شقاء الأرض بمثابة إشارة كافية من واقع مرير تكفي للاتعاظ، وتغني عن أي تجريب آخر لإثبات حسن نوايا إبليس من سوئها. إضافة إلى إشارات سبقت كان يمكن الاستفادة منها.
والسؤال المهم: ماذا لو لم يستفد أبونا آدم من تجربته السابقة في الجنة، وأعاد في الأرض التجربة مجدداً (لإثبات حسن النوايا) – كما يقول ملالي سياسة (آخر زمان) – وظل يصدق ما يقوله عدوه إبليس ليكرر الوقوع في الخطأ نفسه؟ ما تقييمنا لشخصه؟ ماذا سنقول عنه؟ وماذا تتوقعون: هل سيظل الله تعالى يقبل عذره، ويعفو عنه في كل مرة؟!
أيها المعتصمون إلى أين يراد بكم ؟
ماذا تقولون إذن في هذه الزعامات التي ما زالت تتقدم صفوفنا، وبين أيديهم عقيدة الشيعة مفصلة، وتاريخهم الأسود على مدى قرون متعددة متطاولة، ثم إشارات واقع عبّرت عن نفسها بشتى الصور، كما في غوغائية 1991 وقبلها وبعدها. ثم لم يعتبروا حتى وقعت الواقعة بنا في 2003، ثم تمت المصيبة في أحداث متتابعة وكوارث متلاحقة، جناها علينا الشيعة بمرجعياتهم وأحزابهم ومليشياتهم. كل هذا لم يكفهم ولم يغنهم! حتى إذا انطلقت جموع المظلومين في 23/12/2012 إذا بتلك الزعامات تستقبل أبالسة الشيعة مرة أخرى وأخرى: تصدقهم بكذبهم، وتطمئن لقسمهم، وتثق بوعودهم وقد جربوها مئة مرة ومرة!!
هل لهؤلاء من عذر؟ وهل لهذه الجموع التي تتبعهم على أوهامهم وخبالهم من عقل؟
وهل سيكفي بعدها ومعها أن نقول ما قاله أبوانا، وقد أخطآ مرة واحدة نالا بها العقوبة المستحقة: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف:23). وإنما كانت توبة الله عليهما هي توبة القبول، دون الطرد من الرحمة كما طرد إبليس تلاحقه اللعنة.
نعم.. لم يقص الله تعالى في كتابه القصص لأجل التسلية وقطع الفراغ، وإنما للعبرة حتى لا يتكرر علينا الدرس بكل ما فيه من أثمان وتضحيات. وإلا فمن أخطأ بعد البيان فعليه تحمل النتائج. فكيف وقد تم البيان، وحصل العصيان، وحلت العقوبة وتكررت حتى تحولت إلى طوفان! وما زال إبليس و(شيعته) يعيدون علينا مقالبهم، وينشبون فينا أسنانهم ومخالبهم ضاحكين ساخرين يعجبون من موهبة في الغباء استصَمّت على كل نصح، واستعْصَت على كل تجربة!