الانقلاب المصري .. الحدث .. والدلالة
د. طه حامد الدليمي
عندما سمعت الخبر أول أمس قلت سبحانك ربي: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:26)، بينما هو رئيس إذا هو حبيس!
وكان المشهد أمامي يعبر عن ظلم من الصعب تبريره بحق أناس جاءوا إلى الحكم طبقاً لأسلوب اتفقوا عليه مع جميع الفرقاء، وكسبوا الانتخابات بنسبة أهلتهم لاستلام الحكم. وكان من العدل الواجب أن ينتظر الفريق الساخط مجيء الانتخابات القادمة لكي يزيحهم بالطريقة المتفق عليها. أما أن يزاحوا بالقوة تحت ذرائع شتى فليس من الصعب على أي جهة قوية أن تزيح خصومها بالذرائع نفسها، ولكن سيتم ذلك طبقاً لقانون القوة لا قوة القانون؛ فأين الديمقراطية؟
ما ينبغي أن يقال كثير حول الانقلاب العسكري في مصر، الذي أطاح بحكم (الإخوان المسلمين) ولما يمر عليه سوى عام واحد. لكن دلالة الحدث أهم من الحدث نفسه، فأحاول الاقتصار على ما أراه الأهم من صور المشهد الجاري. وأبدأ ذلك بالتساؤلات التالية:
- هل إزاحة الإخوان تمت بعيداً عن الإرادة العالمية بقيادة أمريكا؟
- وإذا كانت إزاحتهم بإرادة عالمية، فهل كان مجيئهم للسلطة بعيداً عن تلك الإرادة؟
- هل حدث تغيير في استراتيجية التحالف العالمي مع (الإسلام الديمقراطي) [ويسمى بالليبرالي.. والحداثي أيضاً] للوقوف بوجه (الإسلام الأصولي) حسب تعابير مراكز دراساتهم وبحوثهم؟
- وإذا كان الجواب بالإيجاب فما هو البديل؟ هل هو الليبرالية العلمانية وقد أثبتت فشلها في احتواء النهضة الإسلامية باعترافهم، ولهذا لجأوا إلى ما أسموه بـ(الإسلام الحداثي) بقيادة تركيا، وتبعته معظم التنظيمات الدينية وعلى رأسها تنظيم الإخوان؟
- هل الارتياح السعودي والإماراتي والأردني وبقية الدول العربية التي رحبت بالانقلاب يشير إلى أن العلاقة المصرية الإيرانية ستعود إلى المربع الأول؟ فكيف نجيب على وجود أصدقاء إيران مثل محمد البراذعي وحمدين صباحي على رأس الانقلابيين؟
أكتفي بهذه الأسئلة التي تبحث عن أجوبة ملحة، لأنتقل إلى أهم درس – حسب رأيي – ينبغي أن نستفيده من الحدث.
سقوط الديمقراطية وفشل تجارب ( الإسلام الديمقراطي )
التفتيش عن عوامل الفشل خارج نطاق الذات مناقض لمنهج الإسلام كما في قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:165). وإن تجربة الإسلاميين فيها كثير من عوامل وعناصر الفشل التي تفتقر إلى التشخيص والعلاج. وبمراجعة بسيطة للتاريخ القريب نجد أن تجربة اللعب مع الكبار على أساس الديمقراطية توسلاً إلى تمكين الحكم بشريعة الإسلام غير ناجحة. ومنها تجربة (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) في الجزائر، و(حماس) في فلسطين، و(النهضة) في تونس. ولم يتعظ الإخوان المسلمون من هذه التجارب الفاشلة والمكلفة فكرروها في مصر سالكين طريق الفشل نفسه ليصلوا بها إلى النهاية نفسها!
إن هذا يثبت أن القيادة العالمية لا يمكن اللعب معها على هذا الأساس، ويعلن عن سقوط الديمقراطية في بيئتنا العربية والإسلامية، وبأيدي دعاتها وصناعها.
صندوق الانتخاب تابوت الشريعة
تعني الديمقراطية في أساسها العلمي حكم الشعب نفسه بنفسه بعيداً عن أي مرجعية أخرى حتى لو كانت شريعة الله سبحانه. وكثيراً ما أسأل أقطاب الإسلاميين: كيف توفقون بين هذا المبدأ ومبدأ الحاكمية؟ فلا أسمع جواباً مقنعاً. هذا من حيث العقيدة أو (الآيدلوجيا). أما من حيث آليات الديمقراطية فإن التحاكم لصندوق الانتخاب في تداول السلطة يعني منح الفرصة على الدوام لمجيء جهات غير إسلامية تنقض العمل بالشريعة في فترة حكمها، وربما تطول المدة وأنتم خارج السلطة فأين دولة الإسلام وحكم الشريعة من هذه اللعبة؟ هذا إن سلمنا أنكم ستحكّمون الشريعة في الدورة الانتخابية التي تفوزون فيها، ولا نسلّم: فلا أجد جواباً. فأقول: ألا ترون أن صندوق الانتخاب يكون تابوتاً للشريعة والحالة هذه؟ بعضهم يقول: هذا في البداية فقط، ثم إذا تمكنا حكمنا الشريعة وألغينا اللعبة. لكن الذي رأيناه أن الإسلاميين ينتقلون – دون وعي – من مرحلة مخادعة الطغاة إلى مرحلة مخادعة الذات، وشيئاً فشيئاً يتحولون من تبني الديمقراطية ظاهرا إلى تبنيها حقيقة والدفاع عنها أصالة! يبدو أن الإنسان لا يطيق الانشطار طويلاً.
ومن أكبر النتائج السيئة لهذه المخادعة حلول مفهوم الحكم بدل مفهوم الحاكمية! هذا وقد فات صاحب الجواب أن القوى العالمية ليست بهذه السذاجة. ولذلك فهي تسبق خطوة تسليم الحكم للإسلاميين فتتخذ التحوطات اللازمة، والتجارب التي أمامنا تثبت أن تلك القوى إنما تسلمهم حكماً منزوع الصلاحيات؛ ولذلك رأينا الدكتور محمد مرسي تحول خلال ثمان وأربعين ساعة من رئيس يأمر وينهى إلى معتقل لا يملك من الأمر شيئاً!
لقد أخطأ الإسلاميون بقبولهم لعبة الديمقراطية أساساً للسلطة مرتين: مرة حين تصوروا أنهم قادرون على إدارة هذه اللعبة الخطيرة مع الكبار، رغم أن التجارب السابقة تثبت العكس. ومرة حين خالفوا صريح دينهم فأغضبوا ربهم فوكلهم إلى أنفسهم.
وعلى هذا الأساس نقول لإخواننا الإسلاميين من الإخوان المسلمين وغيرهم: لقد اجترحتم خطيئة كبيرة، وليس أمامكم للخروج من هذا التيه سوى التكفير عن هذا الذنب الكبير بالرجوع إلى الإسلام الصحيح، والعمل مع التيارات الإسلامية لصياغة مشروع رباني تحدد فيه الآليات العملية للخلاص. كما لا أهداف كبيرة بجهود صغيرة، أو ممارسة لعب الصغار مع الكبار تحاشياً لبذل المجهود وأداء الجهود.
ويا رب احفظ مصر وأهلها من شر أنفسهم، وشر أعدائهم، وفرّج عن المظلومين منهم؛ فالوضع في حبيبتنا (أم الدنيا) لا يطمئن الصالحين!