القسمة .. على اثنين .. والضرب في واحد
د. طه حامد الدليمي
على مائدة إفطار في رمضان الماضي التقينا في بيت أحد المعارف. وبعد صلاة التراويح جلس بجواري ضابط قديم وموظف في السلك الدبلوماسي على عهد الدولة السابقة قبل الاحتلال. وكالعادة كان الحديث عن الأوضاع في البلد.
الملاحظ أن العلمانيين عندما تكلمهم عن شريعة الإسلام يجبهونك بأن تلك الشريعة نزلت لزمان غير زماننا ولناس غير ناسنا. ثم يحدثونك عن ضرورة التغيير والتجديد وأن لكل ظرف ما يناسبه من فكر وتشريع. لكنني لا أدري ما الذي يجعلهم يطلبون التغيير في الدين ولا يطلبونه في السياسة؟ فهم جامدون على أفكار قديمة لا يتزحزحون عنها والماء سائح من تحتهم ولا يشعرون! هذا والدين أقرب للثبات.. والسياسة أقرب للتغيير.
التقسيم الثلاثي فكرة قديمة
قال جليسي: إن الأمريكان واليهود ومعهم إيران يهدفون إلى تقسيم العراق إلى ثلاثة أقسام: شيعة وسنة وأكراد. أتذكر الحظر الجوي الذي فرضته أمريكا على العراق سنة 1991، والذي منع الطيران العراقي من التحليق فوق المنطقة الشمالية الكردية والمنطقة الجنوبية الشيعية؟ وها أنت ترى الأكراد مستقلين بإقليمهم شبه منفصلين، والمؤامرة ماضية إلى نهايتها.
ضحكت بهدوء وقلت: كان هذا في زمن قديم! أما الآن فقد تغيرت أهداف المؤامرة. قال: كيف؟ قلت: التقسيم الآن على اثنين: الشيعة والكرد فقط، لا على ثلاثة. وذلك لسببين أساسيين:
الأول: أن الشيعة وجدوا أنفسهم – بعد فترة من الاحتلال – أقوى من أن ينعزلوا في منطقة أو إقليم، وأن بمستطاعهم تشييع المنطقة السنية ثم بلعها بكاملها. والعمل لتحقيق هذا الهدف الخطير قائم على قدم وساق! ولهذا يرفض الشيعة وإيران إقامة الإقليم السني ووقفوا ضده بضراوة، وسخرت إيران مجموعة من أعضاء مجلس النواب بدعم مفتوح من السفير الإيراني في بغداد لإفشال المشروع. هذا بينما وقف الطرفان بضراوة عند كتابة الدستور سنة 2005 كي يضمناه تشريع الفدرالية أو الأقاليم.
ألا تلاحظ الفرق بين الحالين؟ وهل فكرت أو تساءلت ما هو السر فيه؟
والسبب الثاني: الحقوق تنتزع ولا تمنح. وحتى تنتزع الحقوق من الظالمين لا بد أن يكون أصحابها حاضرين عند القسمة. وإلا أُكلت حقوقهم، وإن تفضل عليهم المقتسمون فبعظمة يرمونها نحوهم أو قضمة يزدردونها بذل وغصص. وحتى يكون أصحاب الحق حاضرين لا بد أن يكون لهم كيان يمثلهم وعنوان يميزهم وقوة تحفظهم وتنتزع حقوقهم. وهذا كله مفقود عند السنة العرب!
الكرد اليوم لا يرون إلا الشيعة، والشيعة لا يرون غير الكرد. فتكون القسمة بينهم حتى وإن كانت ضيزى. أما نحن فلا يروننا. وهذه ظاهرة طبيعية؛ لأن من لا كيان له ولا عنوان مفقود غير موجود.
انظر ترَ الأمور وكيف تصرّف على أرض الواقع.. لاعبان اثنان فقط يقتسمان بينهما الغنائم والموارد، ويحتكران السياسة والقرار. الكرد اليوم لديهم من القوة واستقلال الإرادة بحيث يصدرون النفط دون الرجوع إلى المركز مع أن هذا مخالف للدستور، بينما تجد السنة العرب مثلهم كمثل بعير أجرب يحمل على ظهره الذهب ولا يجد غير الشوك طعاماً، ويقتله الظمأ والماء على ظهره محمول! رغم أن عددهم يزيد على عدد الكرد بما يقرب من أربعة أضعاف! لماذا؟ لأن الكرد لهم كيان وعنوان تحميه قوة، بينما بقي السنة العرب يهيمون في أودية ضلالهم القديم، وفكرهم الوطني السقيم. والأوضاع سائرة على هذا النحو – ما لم يكن للسنة كيان وعنوان – حتى يتم تذويبهم في الكيان الشيعي ويمسوا في خبر كان!
ماذا تتوقع يكون مصير السنة لو قرر الكرد الانفصال: هل سيقول لهم الشيعة: تفضلوا هذه أرضكم فاستلموها، وهذا إقليمكم فاحكموه؟ هذا إن بقي للسنة حتى ذلك الحين شيء من الوجود.
ابتسم صاحبي وقال: (إي والله صحيح)!
نبضة أمل في قلب مكدود
الأمور على معظم الصعد: الدينية والسياسية والعشائرية وغيرها لا تبشر بخير. شيء واحد يمثل نبضة أمل هو تراجع الفكر الوطني الخائب أمام الفكر السني الصاعد، يمكننا من التأسيس عليه لإقليم يحفظ لنا وجودنا. لكنني لم أجد، عند جميع من التقيتهم من السياسيين وغيرهم ممن يؤيد الإقليم، جدية أو رؤية سليمة تقدر الأمور حق تقديرها. فإقامة الإقليم يحتاج إلى مشروع متقن حتى لا يكون مصير الإعلان عنه مصير ديالى وصلاح الدين، والمشروع في حاجة إلى تمويل. والتمويل عند التجار. والتجار يبحثون عن ربح مادي ومنصب سياسي، والله المستعان.. كأنني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يصف به حال الناس عند قيام الساعة فيقول: (فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع) رواه مسلم، مفصل عليهم تفصيلاً.
مناورات لكسب الوقت
قبل أسبوعين (25/11/2013) يزور محافظ الأنبار ورئيس مجلس المحافظة وأعضاء المجلس رئيس الوزراء، الذي يحل الأوضاع الكارثية للمحافظة كلها بوعود منه بإنشاء مطار فيها ومصفى للنفط، في مقابل “تعزيز المحافظة بقوات إضافية من الجيش والشرطة لفرض الأمن والاستقرار”، أي تعزيز الوجود والهيمنة الشيعية في عرين السنة. ويؤكد (دولته) أن المدخل إلى البناء والإعمار وتعزيز الخدمات، هو استتباب الأمن ودحر المجموعات الإرهابية التي تعمل على إشاعة الخوف، حاثاً أهالي الانبار وعشائرها على إلحاق الهزيمة بهؤلاء. بمعنى لن ترى عيونكم شيئاً من الوعود ما لم تقوموا بـ(واجبكم) في قتل بعضكم بعضاً. وكأنه ليس هو وشيعته السبب في الكارثة الحائقة بالسنة عموماً والأنبار خصوصاً، بل العراق كله. وليست المشكلة في مليشياتهم التي تتحرك وتصول جهاراً نهاراً، إنما المشكلة في الضحية التي لا تجد غير الصراخ، فإن حمل بعضهم السلاح دفاعاً عن النفس والوجود والمصير فهم إرهابيون لا حق لهم في الحياة إلا تحت مطارق الجور والذل! والأمر، كله على بعضه، لا يعدو مناورات لكسب الوقت حتى القضاء على السنة وتشييع مناطقهم.
ويعقد المحافظ ورئيس المجلس مؤتمراً صحفياً يعلنان فيه حصولهم على الدعم اللازم من الحكومة ورئيس الوزراء!
السحق إذن مسلط على طرف واحد، والحصة – يوم تقسم – ستكون بين اثنين، ولا نصيب للشريك الثالث لأنه لن يكون حاضراً يومها؛ فوجود الشعوب بهويتها المعنوية لا بكتلتها المادية. وعلى من يتوهم غير ذلك أن يراجع (عملياته الحسابية) من جديد، ليتأكد من أن القسمة على اثنين والضرب في واحد.