الإسلاميون العلمانيون
د. طه حامد الدليمي
لم أتمكن من فهم المقصود الحقيقي لما ورد في كتاب وقع في يدي أيام الاحتلال الأولى سنة 2003، مع أنه مكتوب بالعربية الفصيحة! أعارني إياه أحد أصدقائي من (الإخوان المسلمين)، وأخبرني أن الكتاب بلبل أفكاره، وأثار لديه أسئلة غامضة. يتحدث الكتاب عن التحولات المنهجية التي طرأت على فكر الإخوان المسلمين في العقود الأخيرة فيما يخص الأسس الدينية لـ(الدولة الإسلامية) التي ينادون بها، ومبدأ الحاكمية وعقدة التوفيق بينه وبين مبدأ الديمقراطية الذي صاروا يتبنونه متأخراً. وأثار الكتاب تساؤلات وإشكالات خلص من خلالها إلى أن الخط الفاصل بين العلمانية و(الإسلامية الإخوانية) قد استحال باهتاً، أو لم يعد له من وجود البتة.
كانت هذه المعلومة بالنسبة لي صدمة لم أكن متهيئاً لاستيعابها في ذلك الوقت، فلم أكن أتصور أن الانحراف بلغ أُس التكوين، وكنت أفسر ما ألاحظه من منكرات على أنها قضايا عملية وقعوا فيها نتيجة ضعفهم! لكنني تخلصت من صدمتي تلك بعدة حيل نفسية منها: كون الكاتب علمانياً؛ إذن هو متحامل على الإسلاميين، وربما لا ينقل الوقائع كما هي. ومنها توهم عدم فهم الإشكالات التي وقفت إزاءها محتاراً، وأنني لو فهمتها على حقيقتها لتمكنت من الرد عليها… وهكذا تخلصت من القلق الذي سببه لي الكتاب. بيْدَ أن الأحداث العاصفة، والهزات العنيفة والانفتاح الفكري والإعلامي ودخول البث الفضائي إلى البلد، وظهور عمل الإخوان إلى العلن بحيث صارت المبادئ على المحك: كل ذلك وغيره أعاد المسألة إلى مستوى الوعي والتفكير الموضوعي، فتأكدت أن الإخوان ما عادوا (إخواناً)، وناقشت كبارهم فلم أجد عندهم جواباً. بل اكتشفت أن عموم الأحزاب والجماعات المنبثقة عنهم انخلعت عن (الإسلامية) التي لم يبق بينها وبين العلمانية سوى العنوان الذي لا يمكنهم التخلص منه، وسوى أن الوضع الجديد يتيح لهم الاغتراف من أي الجرفين شاءوا حسب الحال.
الشيعة – مثلاً – حينما تحول معظمهم من المذهب (الإخباري) إلى المذهب (الأصولي)، ثم أخذوا بمبدأ (ولاية الفقيه) نقضوا ركنَي الإمامة كلياً ولم يعودوا (إمامية)؛ فالأول أبطل احتكار الإمام للاجتهاد، والثاني أبطل احتكاره للحكم. وعلماؤهم يدركون ذلك، لكن الجمهور لا يعي هذا التبدل، وإن وعى بعضهم فإن ضغط الثقافة الجمعية يحول بينه وبين الاعتراف بهذه الحقيقة الصادمة، بل يدفعه إلى معاداة من ينبهه إليها. وهكذا جمهور (الإسلاميين الجدد) سواء كانوا من الإخوان المسلمين أم الجماعات المتفرعة عنهم أو المتشبهة بهم أو القريبة منهم. أو الناشئة حديثاً لكن غسلت أدمغتهم قبل النشوء بفعل الثقافة الوطنية الجمعية التي غزت عموم الإسلاميين، إلا من رحم.
أظن بعض الذين يقرأون كلماتي هذه يعانون القلق نفسه الذي عانيته، وربما يعالجونه بالحيل النفسية عينها التي عالجته بها أول مرة، ؛ فيقف ذلك حائلاً بينهم وبين تنزيل كلامي منزلته الصحيحة. لكنني لم أشتم مؤلف الكتاب كما فعل بعضهم قبل أيام عندما وصفت على صفحتي في موقع (تويتر) أحد دعاة الوطنية من ذوي العناوين الإسلامية بأنه “علماني”، فرد علي بكلمات قاسية تنم عن تعصب، وفي الوقت نفسه تشير إلى أنه ومن هو على شاكلته حتى اللحظة يعيشون على وهم أن هؤلاء (الإسلاميين) ما زالوا إسلاميين؛ أليسوا يحملون لافتات إسلامية ويصلون ويؤدون الشعائر الدينية؟ وعليه فكلامي لا تفسير له عنده وعند أمثاله إلا التحامل لا غير!
مَـن ( الإسلامي ) ؟ ومَـن ( العلماني ) ؟
وأقول: لكل لفظ مفهوم يعبر عنه، ولكل مفهوم مصداق أو واقع يصدقه. قال تعالى: (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (الأنعام:67). قال ابن كثير: قال ابن عباس وغير واحد: أي لكل نبأ حقيقة، أي لكل خبر وقوع ولو بعد حين، كما قال: (ولتعلمن نبأه بعد حين)، ولهذا قال بعده: {وسوف تعلمون}. إ.هـ.
وإلا فما أكثر الدعاوى!
فما حقيقة (الإسلامي) من (العلماني)؟ وما نبأه الذي يستقر عنده؟
الإسلامي هو من جعل الدين مرجعه وتحكيم الشرع غايته. والعلماني هو من فصل الدين عن حياته، فإن تدين اقتصر به على الشعيرة دون الشريعة. والدين عند الإسلامي هو القيمة العليا التي لا يمكن التنازل عنها بحال، فإذا اتخذ قيمة أخرى: قوماً أو وطناً أو منصباً أو منتَــفعاً، فجعلها الأعلى انتفت عنه الإسلامية، كما تجد القومية هي القيمة العليا لدى القوميين، والوطن هو تلك القيمة لدى الوطنيين. وعلى هذا الأساس فإن (الإسلامية) منتفية عمن اتخذ (الوطن) قيمته العليا و(الوطنية) مرجعيته الأعلى. هذا إن لم يكن قد أمسى على شفا الإسلام، وإن صام وصلى وادعى أنه من (الإسلاميين). على أننا نكل أمره إلى الله تعالى وحده في الحكم عليه، فلا نكفر أحداً من أمثالهم، وليس هذا من شأننا، ولا موضوعنا.
هذا هو مستقر نبأ الإسلامية والعلمانية!
الإسلاميون الجدد
الإسلاميون الجدد وطنيون أكثر من الوطنيين، أي.. علمانيون بامتياز!
كل شيء عندهم يقبل المساومة إلا شيئاً واحداً هو الوطن، هو العراق.. هذا الوثن الذي حولنا الوطنيون به إلى قرابين تنحر، وأعراض تُنهك، وكرامة تُبذل، وأموال تنثر عند أعتابه يتقربون بها إلى الشيعة زلفى.
لا بأس عند حارث ومحسن وعبد الملك ورافع وأحمد أن يمزق الدين ويقسم، أما تقسيم العراق فلا، وإن مُزق دينك وعرضك وكرامتك ونفسك وأهلك ومالك!
لا بأس أن تنتهك جميع حدود الله جل في علاه، أما حدود العراق فلا ولا!
لا بأس أن يذهب الدين وتمحى السنة وتباد خضراء أهلها أجمع أكتع أبصع، أما ذهاب العراق فلا وكلا ثم كلا!
نعم قد لا يقولونها صريحة جلية، غير أن واقع الحال أبلغ من فاقع المقال. هذا وهم ذوو لافتات ورسوم إسلامية (جماعة، حزب، هيئة، وقف، جبة، عمامة).
ومداراةً للفضيحة ادعَوا أن دين السنة والشيعة واحد. وهذه فرية يهتز لها عرش الرحمن! وهل بقي دين لمن ساوى دينه بدين الشيعة (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) (الكهف:5). ومع الدين العرض والكرامة (7000 امرأة سنية ينتهك شرفها أو معرضة لذلك في الزنازين)، والنفس والمال والعقل والفكر.
وكان للأقدار خيارها
لقد شهد منصات الاعتصام على مدى اثني عشر شهراً شيوخاً للدين بعمائمهم يقولون: لسنا طائفيين؛ فنحن لا يهمنا من يحكمنا سنياً كان أم شيعياً ما دام عادلاً. ولم يكملوا عبارتهم الوطنية اللاإسلامية ليقولوا: (… أم مسيحياً ويهودياً ويزيدياً وشيوعياً)؛ لإن الموسى هنا تستعصي على البلاعين. هذا ولا منكر عليهم منهم ولا من غيرهم!
أمة بكاملها صامتة! الكل سكوت!! سبحان الله!
فقامت الحجة عليهم، وعصفت رياح القدر بخيامهم، وداست بساطيل أبناء المتعة وجاست خلال ساحاتهم وديارهم، بعد أن نحيت أنوار الشرع عنها بأيدي شيوخ الدين أنفسهم قبل غيرهم!
وقلنا لهم مراراً: يا شيوخ الدين – وأسمينا بعض كبرائهم – أفتونا بعلم: هل يجوز شرعاً أن يتولى شيعي حكم السنة ؟ فلم يجيبوا. وأهبنا بالشيوخ الكبار أن يجيبونا عن هذه الأسئلة الثلاثة:
1. هل تؤمنون بوجوب تطبيق شريعة الله تعالى في العراق؟
2. كيف يمكن أن تطبقوا الشريعة في بلد فيه سنة وشيعة؟
2. أمامنا طريقان لتحكيم شرع الله في العراق: إما الإقليم وإما التقسيم. فهل من طريق ثالث لديكم؟ أم لم تعودوا تؤمنون بوجوب تحكيم شرع الله في العراق؟ والوطن عندكم فوق الدين؟
وكالعادة ظلوا صامتين ساكتين أجمعين. والسبب في هذا السكوت أنهم يدركون تمام الإدرك مدى الورطة التي وقعوا فيها: فإن قالوا: نعم ما زلنا نؤمن بتحكيم الشريعة، عليهم أن يجيبوا عن السؤال الذي يليه: كيف…؟ فإن أجابوا كان عليهم أن يختاروا أمَرَّ الخيارين. فإن رفضوهما لم يكن أمامهم سوى الفضيحة.. سوى الإقرار بأنهم لم يعودوا يؤمنون بوجوب تحكيم شرع الله في العراق، وأن الوطن عندهم فوق الدين. لم يعودوا إسلاميين.. فاختاروا أسلم خيار لمن لا خيار له.. السكوت.
وكان للأقدار خيارها!
8/2/2014