د. طه حامد الدليمي
الأخبار طيبة، والنفوس مستبشرة، والآمال في انتعاش. وصفحة سوداء طويت من واقع السنة، لتنتقل فتكون واقع الشيعة في العراق.
لقد انتهت مرحلة وبدأت مرحلة.
ميدان المعركة حتى الآن
المعركة في تقدم مستمر لصالحنا، والانتصارات تتلاحق.
على أن هذا لا يلزم منه أن لا تكون بعض المعارك لصالح العدو؛ فالحرب تجري على مساحة واسعة جداً، وضد جيش وقوى أمنية وشرطة بمئات الآلاف مدججة بالسلاح، يسندهم عملاء السنة وهم كثر ويمثلون الجانب الأكثر إصراراً ومطاولة. هذا وصفحاتها عديدة، فليس من طبيعة الحروب أن لا تخسر الجهة المنتصرة بعض معاركها. هل تعلم أن مساحة من الأرض تعادل مساحة الأردن حررها مقاتلونا خلال بضعة أيام! وإذا أضفنا إليها تلك التي سيطروا عليها منذ انطلاقة الحرب قبل حوالي ستة أشهر، تكون المساحة الكلية للأرض التي أصبحت تحت نفوذ السنة حتى الآن أكبر من مساحة سوريا بأجمعها! بصرف النظر عن الجيوب التي تنتثر هنا وهناك فيها والتي ما زال بعضها بيد العدو الذي ترتخي قبضته عنها يوماً بعد يوم.
يمكن توصيف المعركة في هذه المرحلة بأنها معارك تطهير الجيوب، وإعادة التنظيم والتعبئة تهيؤاً لمعركة بغداد إن شاء الله.
اليوم هو يوم الانتصارات
أمس تحررت بلدات عانة وراوة والقائم غربي الأنبار، وأصبح منفذ القائم الحدودي بيد السنة. وانفتح الحد بين مدينة البو كمال السورية ومدينة القائم (حصيبة) العراقية، وصار أهالي المدينتين، وهم من قبائل واحدة، يزور بعضهم بعضاً تغمرهم الأفراح، كأنهم في عرس، ينثرون الحلوى ويطلقون نيران البهجة. ويزود السوريون إخوانهم العراقيين بالبنزين.
اليوم 22/6 هو يوم الانتصارات. وهذا بعض ما تحقق فيه من إنجازات عسكرية:
- السيطرة على منفذ الوليد، وهو المنفذ الوحيد المتبقي في يد الحكومة السورية. يعني بالتعبير العراقي (باي باي إيران!).
- الاستيلاء على منفذ طريبيل الذي يريط العراق بالأردن.
- السيطرة على قاعدة البغدادي العسكرية غربي الرمادي.
- سيطرة المقاتلين على قضاء الرطبة غربي الرمادي (تبعد عن الأردن 120 كم).
- تحرير تلعفر وسيطرة المقاتلين على مطارها، وهروب اللواء محمد القريشي المعروف بـ(أبو الوليد) إلى سنجار وتسليم نفسه إلى قوات البيشمرگة الكردية مع 600 من قواته.
- تحرير قضاء حديثة وهي من مدن غربي الأنبار أيضاً، وهروب قوات الصحوات والشرطة، وانسحاب الجيش عند الغروب عبر مفاوضات بينية.
- وبالمجمل يبدو أنه لم يبق خارج نطاق السيطرة سوى عقدة الرمادي. وهناك أخبار عن اتفاق كبار المسؤولين وقادة الجيش المتبقي في محافظة الأنبار مع المقاتلين على الانسحاب من المحافظة عن طريق النخيب جنوباً مقابل عدم التعرض لهم.
- إبادة أكثر من رتل عسكري ومليشياوي، أحدها تمت إبادته في منطقة الإسحاقي جنوب سامراء أثناء معركة استمرت من الساعة العاشرة صباحاً حتى السابعة مساءً.
انعكس هذا الوضع العسكري على مثيله في سوريا، سيما بعد انسحاب المليشيات الشيعية إلى العراق فتنفس السوريون الصعداء وتحسن وضعهم العسكري ضد طاغية الشام. ولا أستبعد تطور الأمور لتبلغ أوكار الشيعة في لبنان بقيادة (حزب الشيطان).
الحرب خدعة ولا بد من تأمين ظهر الأنبار وصلاح الدين
تظهر قراءة خريطة المعارك ذكاء وحنكة عسكرية فائقة لدى مقاتلينا!
ليس من الصعب إدراك حقيقة عسكرية هي أنه لا يمكن تنفيذ هجوم ناجح لفتح بغداد دون أن يؤمن المقاتلون ظهرهم من جهة الأنبار غرباً وصلاح الدين شمالاً. فماذا فعلوا؟ شدوا أنظار الحكومة إلى بغداد وأوهموها أنهم على وشك الهجوم عليها، ثم قاموا بهجمات على بعض مناطق ديالى، فرمى الشيعة بثقلهم على بغداد، وبلعوا الطعم فطفقوا يهربون وينسحبون إليها وإلى ديالى؛ فأصبحت الجبهة الغربية والشمالية هشة عسكرياً فاكتسحها المجاهدون، وما هي إلا جيوب سيتم تطهيرها قريباً إن شاء الله.
غروب الفكرة الوطنية وبزوغ الفكرة السنية
من الطبيعي أن ينعكس الوضع العسكري على الصعيد الفكري، لتنكشف سوءات أفكار شاركت مشاركة أساسية وفاعلة في الجناية على أهل السنة. لقد عبّر الحدث عن سقوط مدوٍّ للفكر الوطني في العراق: تنظيراً وواقعاً. وأدى ذلك إلى انكشاف الفكر الإسلامي التقليدي، ومعه الفكر القومي والليبرالي؛ بسبب الفكر الوطني المتخلف الذي يشكل الدعامة الأساسية لهذه التوجهات الفكرية، إضافة إلى جمودها وافتقارها إلى الواقع الذي تستند إليه؛ فهي أفكار تنطلق من واقع افتراضي يحلم بشعب واحد في العراق المنقسم حقيقة إلى ثلاثة شعوب لا يجمع، ولا يمكن أن يجمع، بينها جامع إلا إذا تحول الشيعة إلى سنة، أو يعزلون بإقليم لحل المعضلة الشيعية. في ظل حكم رباني يمكن أن يجتمع في ظله الشعبان السنيان: العربي والكردي. وهذا في حاجة إلى زمن وإلى تحولات اجتماعية وفكرية وسياسية كبيرة. ودون ذلك فالتقسيم آت لا محالة. اقلعوا خيامكم وارحلوا يا أصحاب الفكر الجامد؛ لقد ذهب زمانكم. وجاء زمان (الفكر السني) الواقعي المرن. فكر المستقبل الذي لا إنقاذ لثلاثة أرباع الأمة (العراق والشام والجزيرة العربية) إلا به.
العالم اليوم يتكلم بلا حرج باسم السنة الذي طالما حاد عنه المنهزمون، ونكره المتخاذلون، وكان أول من نطق به رئيس الولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما، فتبعه الآخرون كأن سلكاً انقطع فانفرطت خرزه تباعاً، وفي مقدمتهم أولئك الذين هم أكثر الناس استغراقاً في حلم الوطنية، بل أصيب هؤلاء بحالة (إسهال فكري) جعلتهم يرددون عبارة (سنة، شيعة، أكراد) بلا انقطاع؛ يبدو أنها نتيجة طبيعية لحالة حرمان مزمن عانوا منها طويلاً وتحرروا منها فجأة.. فهنيئاً لهم!
إيران وعنقود العراق الحامض
أما إيران فتمر الآن بحالة سيئة لم تمر بها منذ سنة 2000. لقد قاتل الجميع بالنيابة عن إيران وحصدت هي العناقيد كلها. لقد استخدمت إيران أمريكا في إسقاط أخطر عدوين لها: دولة طالبان في أفغانستان، ودولة البعث في العراق. وحصدت ثمار تسع سنين من المقاومة العراقية. وتمددت فبلغت بمكرها سوريا ولبنان وغزة واليمن، وزادت شهيتها فمدت يدها لتنوش البحرين. ثم فاجأها الحدث فأرادت أن تكرر اللعبة نفسها لتورط أمريكا نيابة عنها فدعتها للتدخل العسكري في العراق وضرب من وصفتهم بالإرهابيين. لكن اللعبة مكشوفة جداً الآن، إلى حد أن جي گارنر الحاكم العسكري الأمريكي للعراق عند احتلاله أجاب هازئاً بالإيرانيين: (إن “داعش” مشكلة إيران قبل أن تكون مشكلة أميركا. وإيران لديها سلاح جو فلماذا لا تتولى هي ضرب “داعش”)؟ بل قال: (إن المالكي عميل إيراني يريد منا ضرب “داعش” ليجير المكاسب السياسية بعد ذلك لنفسه ولرعاته في طهران). فلم يجد خامنئي أمامه إلا أن يلبس فروة النمر مرة أخرى ليقوم بتحذير أمريكا من التدخل في شؤون العراق! وقديماً قيل: من لم يقدر على نوش العنقود قال عنه “حامض”!
لقد انتهت مرحلة وبدأت مرحلة. وما على القوة التي بدأ نجمها بالظهور في سماء العراق إلا أن تحسن التعامل مع الواقع بحكمة وعقلانية حتى لا يعيد التاريخ علينا نفسه فيضحي قوم ويحصد ثمار تضحياتهم قوم آخرون.
الإثنين
22/6/2014