مقالات

السياسة ليست ظاهرة صوتية

د. طه حامد الدليمي

في سنة 2004 دارت معارك ومناوشات بين الحكومة الشيعية بقيادة إياد علاوي وبين جيش المهدي بزعامة مقتدى الصدر. ولهذا الصراع جذوره القديمة بين ما أسماها محمد صادق الصدر والد مقتدى بـ(الحوزة الصامتة) لمزاً بالسيستاني ومرجعيته و(الحوزة الناطقة) التي يتزعمها هو بدفع من المخابرات العراقية آنذاك بناء على وهم تأسيس مرجعية عربية مقابل المرجعية الفارسية التي يمثلها السيستاني. وقد افتتح الوضع الجديد عهده بمقتل عبد المجيد الخوئي في 10/4/2003 أي في اليوم التالي لسقوط بغداد، على يد أتباع مقتدى. وكانت أزمة كبيرة استمرت تداعياتها فحرم مقتدى من أي حصة في الحكومة وأموال المراقد فكانت تهديدات متبادلة وتشهير واتهامات حتى آلت الأمور إلى التقاتل. وكان الوضع الأمني تحت مسؤولية الاحتلال الأمريكي فكان طبيعياً أن يتدخل الأمريكان لصالح الحكومة، وكان طبيعياً أيضاً أن يجر ذلك إلى أن يكون جيش المهدي في الطرف المناوئ لهم لا قصداً بمقاومة المحتل؛ فمقتدى أعلن من اليوم الأول أن الأمريكان ضيوف وأن عدوه البعثيون والنواصب (أي السنة)، وإنما عرضاً جرت إليه طبيعة الأمور.

تزامن ذلك مع معركة الفلوجة الأولى في نيسان/2004 فعجت الأجواء بالثناء على مقتدى رغم جرائمه التي ارتكبها بحق السنة على مدار السنة الماضية، وكان البعثيون والإخوان المسلمون وهيئة علماء المسلمين وشيوخ الوقف السني ورؤساء العشائر على رأس الذين بوقوا لمقتدى وحتى بعض فصائل المقاومة ومعهم معظم الجمهور السني الذي لم يكن آنذاك يدرك كينونته السنية، وأنه مستهدف من قبل الشيعة حصراً بسببها حصراً.

صورت هذه الأطراف (السنية) قتال جيش المهدي لأبناء جلدته قتالاً للمحتل، وسوقوا قائده المجرم مقتدى رمزاً كبيراً من رموز المقاومة الوطنية العربية، ودليلاً على مصداقية مقولة (الشيعة العرب). وعندما كنا نواجههم بالحقيقة التي يتجاهلونها كانوا يلجأون إلى دعوى أشبه بالوهم منها بالحقيقة. إنما نريد تفرقة الصف الشيعي. وهي دعوى ساذجة ليس من ورائها سوى خداع السنة!

أفي كل مرة لا تعقلون ؟!

ويعيد اليوم خفافيش الحكمة وملالي السياسة خشخشتهم نفسها مع مجرم آخر لا يختلف عن مقتدى وإجرامه بشيء هو محمود عبد الرضا الملقب بالصرخي. وللسبب نفسه صراع داخلي في البيت الشيعي سرعان ما تخمد ناره كما خمدت نار مقتدى وتحولت إلى الصف السني جرائم ضجت السماء منها قبل أن تجأر الأرض، وما زالت تلك الخفافيش على ضلالها القديم وكأنها لم تعتبر بمقتدى وإجرامه، وسلسلة طويلة من أمثاله!

السياسة خطة تطبق في الميدان .. لا أصوات تطلق في الفضاء

يقول بعضهم: إن هذا أسلوب سياسي لتفرقة الصف الشيعي. وأقول: إن من كان جاداً في دعواه عليه بالنزول إلى الميدان حسب خطة محكمة مرسومة سلفاً، ينفذها أفراد محنكون في سبيل تحقيق الهدف وهو تفريق الصف الشيعي، لا أن يطلق رفسات في الهواء من خلف شبكة الانترنت أو كاميرات الفضائيات؛ فالصرخي ليس غبياً لينخدع ببيان تصدره الهيئة أو غيرها تضحك به على نفسها متناسية أن الزمن قد فاتها، ولا الشيعة أغرار إلى هذه الدرجة فيستزلهم منشور عبر المسافات أو الشاشات.

ولنا في سياسة رسول الله وسيرته في أعدائه وتفريق صفهم حين يجتمعون عليه دروس عندما تحالف اليهود مع المشركين. وإليكم أحد الشواهد على السياسة الربانية الحكيمة من معركة (الخندق).

سميت معركة الخندق بغزوة (الأحزاب) لاجتماع الأعداء بمختلف صنوفهم آنذاك وتحزبهم على اجتثاث دولة الإسلام الناشئة في معركة واحدة. وقد نزلت سورة كريمة عن المعركة سميت بـ(الأحزاب) إشارة إلى ذلك جاء فيها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) (الأحزاب:9-11). لم يجلس النبي مع أفراد جيشه ينظر ماذا يصنع أعداؤه، أو ظل يطوف عند الخندق يضرب يداً بيد ويحوقل، أو ينتظر مشكلة تقع بينهم ليطلق الكلام في الهواء من بعيد مادحاً طرفاً وقادحاً في طرف؛ فهذه لعبة ساذَجة مكشوفة حاشى له أن تخطر منه على بال. وهذه حيلة عاجز غارق في السلبية، لا تكون لمن كانت الإيجابية والفاعلية قاعدة بني عليها دينه العظيم. بل كان دائم التفكير في وسيلة يفرق بها هذا الجمع المتألب عليه. وروت لنا السيرة أكثر من وسيلة اتبعها لذلك. فبادر وأرسل من يفاوض اليهود على ثلث ثمار المدينة إذا هم حلوا عقدهم مع المشركين. ولكن الأنصار رفضوا فتحول إلى وسيلة أو مسعى آخر.

ذكر ابن إسحاق في (السيرة) أن نعيم بن مسعود أسلم ولم يعلم قومه بذلك، فأتى النبي فقال: مرني بما شئت، فقال رسول الله : (إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّلْ عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة). فأتى بني قريظة، وكان صديقاً لهم فخوّفهم من انسحاب قريش وغطفان وباقي الأحزاب وأشار عليهم أن يأخذوا رهنًا من أشراف قريش يكونوا بأيديهم، فقالوا له: لقد أشرت بالرأي. ثم ذهابه إلى قريش وأخبرهم أن يهود بني قريظة قد ندموا على نقض العهد مع محمد، وأنهم قد عرضوا عليه إن كان يُرضيه أن يأخذوا له رجالاً من أشراف قريش وغطفان حتى يضرب رقابهم. وحذرهم من أن يسلِّموا رجلًا منهم رهينة عند يهود، ثم أتى غطفان وحذّرهم كما حذر قريشًا.

فلما كانت ليلة السبت في شوال سنة خمس، وكان مما صنع الله عز وجل لرسوله أن أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفرٍ من قريش وغطفان فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مُقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه. فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً. ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد. فقالت قريش وغطفان: تعلمون والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا فإن أنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق. فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم وخَذل الله بينهم، وبذلك نجحت الخدعة.

هذه هي السياسة! وهذا صنيع من كان جاداً في معركته وصادقاً في دعواه وقوله. لا أن يجلس على بعد مئات الأميال يطلق شعاراته المفضوحة وأكاذيبه المتكررة على الله ورسوله عبر الأثير، ويخدع المؤمنين في كل مرة يهز فيها الشيعة ذيلهم، ليتخطفهم الفخ نفسه بالطريقة نفسها.

كفاكم مغالطة أيها الوطنيون؛ فقد تخرق ثوب العذر فما عاد يستر فكراً لم يجن منه السنة غير الويلات، وقوماً لا يجيدون غير الكلام؛ فالسياسة فكر عميق يقدح ويستخلص، وخطة دقيقة ترسم وتكتب، وجهد مضن يبذل وينفذ. وليست ظاهرة صوتية يطلقها الحالمون عبر قنوات الفضاء، أو بيانات يسطرها العاجزون على أجنحة الهواء!

السبت

5/7/2014

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى