الانحيازية في كتابة التاريخ (3) تأسيس الدولة العثمانية
د. طه حامد الدليمي
إن مبتدأ تأسيس الدولة العثمانية ونشأتها يتناقض مع كل ما قاله د. علي الصلابي سابقاً. ولن أعتمد فيما أقرره إلا على قول الصلابي من كتابه المذكور (محمد الفاتح). ففي (ص13) يقص علينا كيف كان أول ظهور إمارة بني عثمان. فعندما كان أرطغرل يجوب بقبيلته – وكانت تزاول الرعي – بلاد الأناضول، وقد فر بها أبوه من كردستان خوفاً من المغول.. صادف معركة حامية بين السلاجقة المسلمين هناك وبين النصارى، فانتصر لأبناء دينه فكان النصر حليفاً لهم بعد أن كانت كفة الغلبة للنصارى. فأقطعه قائد السلاجقة تقديراً لجهده أرضاً له ولقبيلته التي لا تتجاوز مئة أسرة بأربعمئة فارس في الحدود الغربية للأناضول بجوار ثغور الروم. وقام بين الطرفين حلف عسكري. حتى إذا قويت شوكة أبناء عثمان استولوا على دولة السلاجقة الذين آووهم وكانوا السبب في بداية بزوغ نجمهم، وأنهوا دولتهم!
يقول الصلابي (ص46): (حدث في سنة 736هـ ـ 1336م أن توفي أمير قره سى – وهي إحدى الإمارات التي قامت على أنقاض دولة سلاجقة الروم – واختلف ولداه من بعده وتنازعا الإمارة. واستفاد أورخان من هذه الفرصة فتدخل في النزاع وانتهى بالاستيلاء على الإمارة. وقد كان مما تهدف إليه الدولة العثمانية الناشئة أن ترث دولة السلاجقة الروم في آسيا الصغرى، وترث ما كانت تملكه، واستمر الصراع بينها وبين الإمارات الأخرى حتى أيام الفاتح حيث تم إخضاع آسيا الصغرى برمتها لسلطانه).
ونحن نسأل هل ما فعله أورخان بالاستفادة من الصراع بين أخوين يحكمان إمارة إسلامية ذات فضل سابق عليه ليقضي عليها، ويسفك دماء مسلمة في سبيل ذلك.. هل هذا فعل من (لم تكن أعماله وفتوحاته من أجل مصالح اقتصادية أو عسكرية أو غير ذلك، بل كان فرصة لتبليغ دعوة الله ونشر دينه)؟ كما جاء ذلك في (ص18) بعنوان (التجرد لله في فتوحاته) في الحديث عن عثمان والد أورخان. دعك من حكم الشرع في تصرف كهذا. ولو افترضنا أن السلاجقة تصدوا لأورخان وقضوا عليه واستولوا على إمارته وأراضيه، وأقاموا على أنقاضها دولة كالدولة العثمانية: هل سينقل الأوصاف التي أضفاها على العثمانيين إلى السلاجقة؟ فأين الحق؟ هل نحن مع القوي المنتصر في كل ما يأتي به ويفعل، لا مع الضعيف المندحر وإن كان محقاً، دون النظر إلى الحق من الباطل؟
الاستنصار بالنصارى على المسلمين
وفي (ص57) يتحدث د. علي عن السلطان بايزيد الأول (ت1402) كيف تحالف مع الصرب النصارى لإخضاع الإمارات السلجوقية الإسلامية في آسيا الصغرى! وقد برر هذا الفعل بقوله: (كان يشعر بضرورة اتخاذ حليف له في سياسته العسكرية النشطة التي استهدفت تلك الإمارات). وقال عن بايزيد: (كان شجاعاً شهماً كريماً متحمساً للفتوحات الإسلامية). ولم يعلق على مدى شرعية مثل هذا العمل الخطير: التحالف مع الكفار ضد مسلمين أحسنوا إليه([1])!
لكنه (ص73) بعد أن امتدح السلطان مراد الثاني بأنه (كان محباً للجهاد في سبيل الله، والدعوة للإسلام في ربوع أوربا. وكان معروفاً لدى جميع رعيته بالتقوى والعدالة والشفقة) ذم عمه مصطفى على تمرده وحروبه الداخلية (التي كانت تدعم من قبل أعداء الدولة العثمانية، وكان الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني خلف الدسائس والمؤامرات والمتاعب التي تعرض لها السلطان مراد، فهو الذي دعم عم السلطان مراد الذي اسمه مصطفى بالمساعدات حتى استطاع أن يحاصر مدينة غاليبولي ابتغاء انتزاعها من السلطان واتخاذها قاعدة له. إلا أن السلطان مراد قبض على عمه وقدمه للمشنقة. ومع ذلك فقد مضى الإمبراطور مانويل الثاني يكيد للسلطان، واحتضن شقيقاً لمراد الثاني ووضعه على رأس قوة استولت على مدينة نيقيا في الأناضول، وسار إليه مراد واستطاع أن يقضي على قواته واضطر خصمه للاستسلام ثم قتل).
إن احتمال انتصار مصطفى عم السلطان مراد أو أخيه، وكلاهما استنجد بعدو كافر، أمر وارد. وكان يمكن للدولة العثمانية أن تستمر بهذا الذي استنصر بأعداء الإسلام وصار سلطاناً، وهو مصطفى أو أخوه. وعندها هل يلجأ د. علي الصلابي إلى التبرير نفسه فيقول: (إن السلطان كان يشعر بضرورة اتخاذ حليف له في سياسته العسكرية النشطة التي استهدفت تلك الإمارات)؟ أرى أن الأولى من هذه التبريرات الضعيفة أن نتحدث عن هؤلاء السلاطين كبشر لهم سيئاتهم كما لهم حسناتهم. وهذا لا يغض من الخدمات الجليلة التي قدمتها الدولة العثمانية للإسلام والمسلمين.
ومن غريب تبريرات الدكتور الصلابي قوله عند الحديث عن وفاة مراد الثاني والد محمد الفاتح (ص81،80): ناقلاً عن صاحب (النجوم الزاهرة): (وكان خير ملوك زمانه شرقاً وغرباً، مما اشتمل عليه من العقل والحزم والكرم والشجاعة والسؤدد، وأفنى عمره في الجهاد في سبيل الله تعالى… على أنه كان منهمكاً في اللذات التي تهواها النفوس، ولعل حاله كقول بعض الأخيار – وقد سئل عن دينه – فقال: أُمزقه بالمعاصي وأرقعه بالاستغفار. فهو أحق بعفو الله وكرمه؛ فإن له المواقف المشهورة، وله اليد البيضاء في الإسلام).
وبعد الانتصارات العظيمة في أوربا (اتخذ بايزيد لقب “سلطان الروم” كدليل على وراثته لدولة السلاجقة وسيطرته على كل شبه جزيرة الأناضول – كما يقول الصلابي ص59 ويضيف – كما أرسل إلى الخليفة العباسي المقيم بالقاهرة يطلب منه أن يقر هذا اللقب حتى يتسنى له بذلك أن يسبغ على السلطة التي مارسها هو وأجداده من قبل طابعاً شرعياً فتزداد هيبته في العالم الإسلامي. وبالطبع وافق السلطان المملوكي برقوق حامي الخليفة العباسي على هذا الطلب لأنه يرى بايزيد حليفه الوحيد ضد قوات تيمورلنك).
ومرة أخرى لم يبين لنا د. الصلابي مدى ملائمة هذا التصرف للشرع! كما لم يذكر لنا كيف تطور الأمر على يد السلطان سليم الأول حين دخل مصر فاتحاً إياها بحد السيف فقتل من أهلها الألوف – بلغت، كما في بعض الروايات، خمسين ألفاً – ورشوته ذلك الخليفة العباسي القرقوزي القابع في مصر هو وأجداده منذ ما يزيد على مئتي عام بـ(ثلاثمئة ألف دينار) ليبيعه (امتياز) الخلافة العباسية في أعجب صيغة بيع وأطرف عقد يصل به شخص إلى منصب الخلافة! وبهذا انتقلت الخلافة الإسلامية إلى العثمانيين ليتسموا بعدها بخلفاء المسلمين، ويتبنوا المذهب الحنفي لأنه المذهب الذي يجيز تولي الخلافة من قبل شخص غير قريشي، مع أن الخلافة ليست إرثاً أو لقباً أو رسماً أو (امتيازاً) يباع ويشترى!
________________________________________________________________________________
[1]– أشرت آنفاً إلى أنني كتبت هذا البحث في ربيع 2010. بعد ذلك بعام ثار الليبيون على معمر القذافي واستعانوا عليه بطائرات الحلف الصليبي، وكان د. علي الصلابي – وهو ليبي – مؤيداً، كما يبدو، لذلك؛ فقد كان يدعو بقوة إلى إسقاط القذافي.