السنة تحت مطارق التحليل والطرح والتركيب في الذكرى الثانية عشرة لاحتلال بغداد
د. طه حامد الدليمي
استشفاف الأقدار لا يقل أثراً عن استقراء الأسباب لمعرفة النتائج! فليس بمستغرب على من نظر إلى الواقع بعين القدر أن يتوقع ما لا يراه واقعاً كثير من البشر.
لا يقع شيء في الأرض إلا بحكمة مقدرة من الرب على واقع تسببه العبد. ولو امتلك إنسان ما النظرة الشاملة وكان له عقل كامل، لاستطاع – من خلال النظر في الحاضر – أن يرسم لك صورة المستقبل ساعة بساعة ويوماً بيوم. ولكن ذلك ليس بمقدور لغير الرب جل في علاه.
كان ممكناً لموسى أن يقوم بثورة في مصر أو يجمع قومه ويخرج بهم تحت جنح الظلام وتنتهي المأساة. لكن حكمة الله اقتضت أن يدخل المدينة على حين غفلة من أهلها، ويقتل القبطي، ويفر ليرعى الغنم في الصحراء عشر سنين. ثم يعود ولكن كما قال تعالى: (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) (طه:40).
– أيش؟
– (على قدر)
– على قدر إذن!
يقول الطاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير): “فكان من فتون موسى بقضية القبطي أن قدر له الخروج إلى أرض مدين ليكتسب رياضة نفسه وتهيئة ضمير لتحمل المصاعب، ويتلقى التهذيب من صهره الرسول شعيب . ولهذا المعنى عقّب ذكر الفتون بالتفريع في قوله: (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) فبين له كيف كانت عاقبة الفتون”.
وإذا احتاج موسى u إلى عشر سنين للإعداد والاستعداد لحمل رسالة التغيير والإنقاذ، فإن قومه احتاجوا إلى أربعين سنة يتيهون في الأرض كي يتهيأوا لذلك عدا مدة ما قبل الخروج من مصر. لقد كانت تلك المدة المتطاولة ضرورية لتحليلهم وإعادة تركيبهم.. لهدم بنيان ما عاد صالحاً للاستظلال بفيئه، وإعادة تركيب الصالح من لبناته وإضافة لبنات جديدة إليه من أجل بناء نافع جديد. أرأيت الخبزة التي تقضمها؟ لن تتمكن من استعمالها في بناء وتجديد خلايا جسمك ما لم يتم تحليلها إلى عناصرها الأولية، وطرح ما لا يصلح منها فضلات إلى الخلاء، ثم إعادة تركيبها بما يتناسب والبرنامج الحيوي لجسدك. ودون هذا التحليل والطرح ثم تركيب الصالح طبقاً للبرنامج يموت الجسد.
هذا ما حصل لبني إسرائيل في تلك المدة المتطاولة. هدم جيل فاسد غير صالح لأي بناء، وطرحه فضلات في الصحراء، ثم تصنيع جيل جديد مستعد لحمل تكاليف الرسالة وبذل مستحقات القيادة. فكان طالوت وكان داود على رأس ذلك الجيل. ودون ذلك الهدم والطرح ثم إعادة التصنيع لم تكن تقوم لبني إسرائيل قائمة. بذلك صدق فيهم قوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:6،5)!
سنة العراق ومطارق الإعداد
ما يجري على أهل السنة في العراق منذ اثنتي عشرة سنة، حين ننظر إليه بعين القدر، نجده يحكي قصة التكوين وقانون الكون في الطبيعة وفي البشر.. تحليل وطرح وتركيب. جيل فاسد قضى تحت تأثير (الفكر الوطني) المتفسخ ثمانين سنة. لو بعث فيه موسى لما سمع له فتخلى عن (الوطنية) الجاهلية وتبنى (السنية) الربانية. بل لحاربه حتى أخرجه أو قتله. جيل فيه مثل ذلك الرجل الذي استصرخ موسى، حتى إذا توهم الخطر لجأ إلى التجمل بالمواعظ. يجيد الصخب والضوضاء ولا يريد تحمل المسؤولية، ما أكثر خطباءه وأقل حكماءه! وفيه مثل قارون يرفل بالنعيم وأهله في بؤس الجحيم! ألا ما أشبه سياسيي السنة به!
جيل قاتل الأمريكان عشر سنين وهو لا يدري أنه يخوض المعركة الخطأ، بالفكر الخطأ، بالمشروع الخطأ، بالهدف الخطأ. بل الخطيئة.. والخطيئة المغلظة! فأزاح الله عن عينه غشاوة الأمريكان وسلط عليه الشيعة وإيران؛ لعله يثوب إلى رشده فيتمكن من رؤية العدو الحقيقي بلا مواربة. فاحتل الشيعة دياره وسبوا نساءه وشردوا أبناءه يقدمهم الفارسي قاسم سليماني جهاراً نهاراً، وكتبوا على جدرانه شعارات الفرس المجوس والشيعة النجوس، وفي تكريت “ما غيرها” عقر دار قائد الفكر الوطني، ونبشوا قبره! فماذا بقي؟
وإني لأنظر إلى الأحداث الجارية فقلت لمن حولي منذ ما يقرب من عام: إنها (حرب بعاث) التي وقعت بين الأوس والخزرج قبل الهجرة بخمس سنين، فحصدت معظم رؤوس الكفر والنفاق ليمهد القدر الساحة لاستقبال الجيل الجديد. وقد فهمت الإشارة أمنا عائشة رضي الله عنها فقالت: “كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله ، فقدم رسول الله وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم وجرحوا، فقدمه الله لرسوله في دخولهم في الإسلام”. رواه مسلم.
لا بد لقارون أن يخسف به وبداره الأرض..
ولا بد أن يموت في التيه جيل الصراخ والضوضاء والتواعظ الفارغ..
ولا بد أن يسحق جيل الحماس الفاقد للبصيرة.
ويظهر جيل داود وطالوت..
جيل (الهوية السنية) و(القضية السنية) و(المشروع السني).
ولا بد من (بعاث) تأتي على من يقف في وجه سنة التكوين من ملأ وسروات لا تقبل التغيير.
ونحن في زمن (بعاث).
فعلى جيل الانبعاث الرباني أن يتقدم بمشروعه السني كي يرث الأرض بعد التيه ويصدق فيه قوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:6،5)!
9/4/2015