يوم ال شهيد من رواية ( هكذا تكلم جنوبشت )([1])
د. طه حامد الدليمي
ومرت سبع سنين أُخرى ولم يأت ذلك العام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون. بل كانت الأعوام تعصرنا.. وعاماً بعد عام!
واشتقت إلى عمي رحيم كثيراً.
لماذا لا أستعين بصاحبي (جنوبشت)؟ بدل أن يسافر بي إلى بابل مرة وإلى الكوفة مرة، ليسافر بي إلى إيران هذه المرة؛ لعلني أرى عمي في زنزانة من تلك الزنازين، أو قفص من تلك الأقفاص. وخرجت منتصف ليلة. لم يكن في الشارع من أحد. ناديت على (جنوبشت)، وناديت. لم يجب.
لا أدري كيف قادتني قدماي إلى ذلك البستان أبحث عن الكهف! كان الظلام دامساً كليلة رجعت من مجلس العزاء قبل شهرين. رأيت عينين تقدحان في الظلام، وقهقهة تجلجل في المكان قادمة كموجة من هناك. أوجست في نفسي خيفة. كدت أطلق ساقيّ للريح. استحييت وتماسكت. أخرجت مسدسي الصغير، الذي أستصحبه دائماً، من الحقيبة، وتقدمت وإصبعي على الزناد. ثم خطرت ببالي فكرة. استعذت بالله من الشيطان بصوت عالٍ. ليس هو طيفون اللعين! من إذن؟
– وهل غير صديقك؟
وعرفته من صوته:
– أهكذا تفعل بي يا (جنوبشت)؟
– أردت أن أعطيك درساً.
– شكراً لك يا صديقي! لكنني اشتقت إلى عمي رحيم. أريد أن أبحث عنه في معسكرات الاعتقال في إيران.
– لا بأس لكن عليك أن تعلم أن الرحلة ستعود منها بجروح لن تندمل سريعاً. وقد تصاحبك حتى الموت.
– مهما يكن سأذهب إن ساعدتني على الذهاب.
– لا بأس ولكن للأمان سأعمل لك تدريباً خفيفاً واختباراً قصيراً.. (تراي) كما يقولون لأرى مدى قوة التحمل لدى قلبك. تعال معي الآن لندخل الكهف.
وفي لحظة طوينا ألفاً وسبعمئة عام!
رجل يلبس بزة الملوك وعلى رأسه تاج كبير، يجلس على كرسي مرصع بالذهب والياقوت وجواهر لا أحسن تسميتها. خلفه قلعة عظيمة مدعمة جدرانها بالأبراج وعليها الحرس. وأمامه بساط أخضر عريض طويل من سجاد محبوك النسج، وحشد كبير من الناس يقفون على حافة البساط الأخضر صفوفاً صفوفاً قد حنَوا رؤوسهم جميعاً وأيديهم مشبكة على صدورهم كأنهم في صلاة، وجنود من حولهم يملأون الرحب.
وهمست في أذنه: من هذا؟
وهمس في أذني: إنه سابور الثاني بن هرمز.
– سابور ذو الأكتاف؟!
– أجل.
– وأين نحن؟
– في مدينة الحضر جنوبي نينوى.
التفتّ على صوت جلبة ورائي. خيول تساق اثنتين اثنتين. ورجال مكبلون يقربون من المئة وجنود يسوطون ظهورهم!
أشار الملك فابتعد الناس، وحل محَلهم الأسرى والخيول.
بخفة ومهارة ربطت يدا أحد الأسرى كل يد إلى فرس. وبينما يربط آخرون أسيراً ثانياً بالطريقة نفسها ضرب جنديان الفرسين الأُوليين بقوة وسرعة وهما يزعقان، وصرخ الأسير صراخاً رعيباً شعرت أن القلعة اهتزت له، وما هي إلا لحظات حتى خلعت إحدى يديه من كتفه وهوت على الأرض تسحبها إحدى الفرسين، وتمزقت اليد الأُخرى من منتصفها. في الوقت الذي كانت فيه الفرسان التاليتان قد انطلقتا. ثم تبعتهما الفرسان الأُخريان. وبالإيقاع نفسه تقدمت الفرسان اللتان بعدهما.. وهكذا حتى تم النصاب!
الصراخ والزعيق يملأ الفضاء، والدماء تصبغ الرمال. والملك.. يا لَلهول! يدني الكأس من فمه يعبه وهو يضحك ضحكاً هستيرياً ويقول: “أرب سگ أرب سگ”!
وكانت مذبحة رهيبة.. مقرفة!
لم أنتبه إلى (جنوبشت) لحظة أن أدنى فمه من أذني وهمس:
– هيا قبل أن يجعلوا منك سگاً مخلوع اليدين يا أربي!
أُجفلت كأن سوطاً من تلك السياط قد لسعني، ثم تماسكت وهمست:
– وما السگ بالله عليك”؟
وهمس لي ضاحكا:
– الكلاب أجلك الله!
– هكذا إذن!
– هيا كفاك أسئلة!
( 3 )
لم يمهلني حتى قطع بي جنوبشت في لحظة واحدة تلك القرون المتطاولة فإذا نحن في منطقة (البسيتين) بالبصرة عند غروب يوم 29/11/1981، في ميدان معركة كانت تدور منذ يوم أمس بين الجيش العراقي والجيش الإيراني على وشك الانتهاء.. لا بل انتهت وجموع كبيرة من الجنود العراقيين خمنت عددهم، إنه قرابة ألف وخمسمئة جندي، يساقون أسرى.
لم يطل بنا الوقت كثيراً حتى تم تقسيم الأسرى إلى مجموعات، كل مجموعة لا تتعدى مئة فرد. “ما هذا؟”.
وابتسم صاحبي بمرارة وهمس في أذني: “أنت للآن لم تعرف الفارسي وحقده!”
“يعني؟”.
“يعني؟ هه.. لكي يتم إعدام كل مجموعة بطريقة تختلف عن طريقة أختها”.
وشهقت ولم أقل شيئاً.
وتوقفت سيارة عسكرية ونزل منها ضابط كبير وصرخ في الجنود: “ذبح کردن”! وكرر العبارة عدة مرات. ناوله أحد الجنود حربة من النوع الذي يركب على البنادق فقام بنحر أقرب أسير إليه، ثم ثانٍ وثالث. واندفع ضباط آخرون ففعلوا فعله. بعد دقائق بدا أن هستريا أصابت الجنود فأخذوا يتدافعون وبأيديهم الحراب، صار كل واحد منهم يتناول أسيراً ويذبحه بيده ذبح الخروف! وبعضهم يطلق الرصاص على الأسرى ويقتل منهم كيفما اتفق، وآخرون يضربون جموعهم بالهراوات.
لم يكد هذا المشهد الاحتفالي ينتهي حتى تقدمت ثلاث دبابات نحو إحدى المجموعات ومالت عليهم دهساً بسُرفها. وانطلقت أعداد من الجنود في أيديهم علب ملأى بالبنزين يرشون ما فيها على مجموعة أخرى من الأسرى. ثم ابتعدوا عنهم وتقدم واحد من المجموعة غير بعيد ليلقي عليهم عود ثقاب، وسمعت صوتاً أشبه بالانفجار فإذا المجموعة تتحول إلى كتلة من لهب!
لم تحتمل أعصابي بشاعة المشهد. العرق يتصبب من جبهتي ووجهي بغزارة. دارت بي الأرض، هبطتُ مضطراً إلى الأرض كالمغمى عليه. أومأت إلى جنوبشت فأسرع إلي حركت يدي بإشارة إلى رجليّ فرفعهما كما أشرت. كانت أصوات صرخات رعيبة تخترق أذنَيّ، وامتلأ المكان بدوي الصراخ. جلست.. نظرت إلى ما حولي. مجموعة أخرى تُقَطَّع أيديهم وأرجلهم بالفؤوس والسيوف والحراب! أردت أن أصرخ من هول ما أرى فوضعت يدي على فمي فخرج صوتي كالفحيح. وبينما نحن كذلك تناهى إلى سمعي أصوات طائرات هليكوبتر. “ما هذا؟! يا إلهي!”. أسراب من الأسرى يلقى بهم من أفواه الطائرات إلى الأرض!
وكانت حفلة موت مبتكرة، تنوعت فيها المشاهد، لم تكد تشرف على الانتهاء حتى سمعت الضابط الكبير يرطن كأنه مجنون لأحد حراسه بكلام لم أفهمه. وحالاً أقبلت سيارتان عسكريتان. تقدم الحرسي من أحد الأسرى، وبيده سلسلتان طويلتان، قيّد كل يد بسلسلة، ثم ربط كل سلسلة بسيارة ثم ابتعدت السيارتان عن بعضهما، وسرعان ما انفصلت يمينه، وسارت السيارة الأُخرى تسحله من شماله، قطعت به مسافة والجنود يركضون من حوله وهو يصرخ بكل ما في حنجرته من قوة ويتقلب جسده ورجلاه، ثم توقفت السيارة، تقدم منه بضعة جنود أطلقوا على رأسه الرصاص فقضى مكانه.
قلت: سابور اللعين ورب الكعبة!
وكانت مذبحة ولا في الخيال!
عندما انجلى الغبار رأيت مجاميع من الجنود ممن شارك في ذبح الأسرى وتعذيبهم يتكلمون اللغة العراقية. تفرست في وجوههم عبر الغلالة التي على وجهي.. إنها وجوه عربية! وقال لي صاحبي:
– إنهم من (فيلق بدر). انظر إلى ذاك الشاب الذي بالقرب من الضابط! ونظرت.. إنه يشبههم! قلت:
– من هذا؟
فابتسم بمرارة وقال:
– إنه أبو حسن العامري.
وسألني:
– أين كنت في تلك الأيام؟
– كنت في المرحلة الثانية من الكلية.
سكت قليلاً ثم قال:
– والآن وقد تم التدريب هل ما زلت مشتاقاً لعمك رحيم؟
– بل ازداد شوقي.
– ضع في بالك أنك قد ترى هناك ما هو أبشع مما رأيت، وأنني لن أذهب معك.
– لن تذهب معي؟!
– أنت تريد زيارة عمك، وأنا؟ هل لي من عم هناك؟
ضحكت بنبرة ذات مغزى وقلت:
– أنت، أنت.. هناك أخوالك.. أليسوا هم (أهل البيت)؟
وبادلني ضحكة بضحكة وقال:
– أها؟ أهل البيت! (وحملق بعينيه مستغرباً) إنه مسمار طويل يا شيخ! لكن لا بأس؛ ما دامت القسمة بيننا بالتساوي.
قلت في نفسي: “لأستمرَّنّ معه حتى النهاية”:
– بل لا سواء يا (جنوبشت)، ألا تدري؟ نحن العراقيين نقول: “ثلثين الولد ع الخال”!
لم يغضب – كما توقعت – ورد بهدوء وقد اكتسى وجهه بحزن عميق وكان صوته أشبه بالأنين حين سمعته يقول:
– سل أعمامك لماذا زوّجوا والدي ممن صرت أُعَيَّرُ بخؤولتهم؟!!
لقد أفحمني فلم يكن أمامي إلا أن أقول:
– صدقت!
وإن رددت مع نفسي: “مسؤولية المقدمات لا تغير من واقع النتائج”.
لا أدري كيف سمع ما هجست به فقد قال:
– صدقت.. “مسؤولية المقدمات لا تغير من واقع النتائج”. ولكن أعمامك يحملون الضحية تبعات القضية!
استحييت أكثر حد الخجل وقلت بصوت خفيض:
– صدقت.
لكنه عاد إلى أصل الموضوع فقال:
– سأزودك بكل ما أنت في حاجة إليه. ومعك الرداء والغَلالة. وهي تعمل بطريقتين.. وسأعلمك كيف ترتديها لتصيراً عارفاً بكل ما يحيط بك. ها ماذا قلت؟ أما زلت مصراً على الذهاب إلى.. إلى أخوالي؟
وقبل أن أجيب تابع:
– إلى أخوالي؟ أم إلى عمك؟
وأجبته وكأنني لم أسمع تعليقه الأخير:
– لقد قلتُ وانتهيت.
عند باب الكهف ودعني (جنوبشت)، وقال:
– كل شيء جاهز لديك. التعليمات سهلة وقليلة.
ثم مدّ يده إليّ بخوصة سعف وقال:
– للاحتياط إذا وجدت نفسك في حاجة إليّ فادعك أي موضع من الخوصة ثم استنشق عبيره حتى تملأ رئتيك تجدني عندك… وداعاً.
– وداعاً.. شكراً لك.
7/12/2016
___________________________________________________________________________________________
- – في يوم 29/11/1981 وفي منطقة (البسيتين) نحر الفرس قرابة ألف وخمسمئة أسير عراقي بطرق بشعة. واتخذ العراق من هذه المناسبة الأليمة يوماً تذكارياً تاريخياً فكان يوم الأول من كانون الأول من كل عام (يوم الشهيد) في العراق. لكنني تأخرت لحدوث هجوم إيراني غير مسبوق على موقع (القادسية) أدى إلى تعطيله مدة يومين. لكن أصلحناه وبدأنا هجوماً مضاداً. وإنا لمنتصرون بإذن الله جل في علاه. ↑