مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

النظام السياسي في ( المشروع السني ) .. الأسس والضمانات

د. طه حامد الدليمي

الإنسان روح متجسدة في هيكل مادي. هذا قانون كوني اقتضى أن تتجسد المعاني الإيمانية في أشكال مادية نراها ونلمسها. فتجسد الحب الإلهي في الكعبة، والصلاة – التي هي الدعاء – في حركات محددة، والصبر في الصيام، والتكافل الاجتماعي في الزكاة… وهكذا. لا بد إذن أن تتجسد السياسة في نظام محدد صالح للتطبيق. وعلى هذا الأساس فإن الذي يترشح للانتخابات في الدول المتقدمة يخوضها وبين يديه نظام سياسي ينطلق منه، وبرنامج انتخابي سينفذه بعد فوزه. ولا يكتفي بالبشارات والوعود.

وطبقاً إلى (الإسلامية) التي يستند إليها الإسلاميون – ونحن في الفكر السني نسميها (الربانية) – عليهم أن يبلوروا مقدماً وقبل كل شيء نظاماً سياسياً (إسلامياً/ربانياً) محدد المعالم، فيه ضمانات محددة أيضاً من الفساد الذي يمكن أن يعتري الحاكم أو نظامه، ثم يعرضوا نظامهم على الجمهور ومعه ذلك الضمان. هذه هي الميزة التنافسية لهم على غيرهم، وإلا فالدين والإيمان يمكن أن يدعيه الجميع. وأزعم – لَلأسف! – أن هذا لم يفعله الإسلاميون، مكتفين بالشعار الضبابي الشهير (الإسلام هو الحل)، الذي انساق وراءه الكثيرون دون أن ينتبهوا إلى المفارقة بين الإسلام ومن ينادي به. هنا يكمن سر فشل الإسلاميين، حتى عادت الإسلامية سبة عليهم، وأحد الأسباب الكبرى لنفور الجمهور منهم.

 

تحديات النظام السياسي

أعظم التحديات التي يواجهها النظام السياسي في أي دولة اثنان، هما:

1. طغيان القوة واستغلال السلطة: وهو أصل كل فساد في الحكم، وأساس كل ظلم يلحق بالمجتمع.

2. انتقال السلطة من الحاكم السابق إلى الحاكم اللاحق: فإذا لم يتم الانتقال بطريقة سلسة بعيدة عن العنف تعرضت الدولة: حكومة وشعباً إلى أزمة قد تودي بها إلى كارثة.

مقدماً لا بد من بيان أن الإسلام لم يقيد العقل بنظام محدد للحكم (مثل الملكية أو الجمهورية، أو غيرهما) وترك ذلك للناس يختارون من الأنظمة ما شاءوا بشرطين:

1. تطبيق الشريعة، ومنه: البناء على الأسس التي أمر الله تعالى بها في سياسة الناس من الشورى والعدل ورعاية مصالح العباد في المعاش والمعاد.

2. عدم الاصطدام بتعاليم الإسلام الثابتة التي جاءت للتأبيد لا لظرف معين.

وهذا يعني أن المجال مفتوح للعقل المسلم أن يضع ويختار من الأنظمة السياسية ما يشاء داخل ذينك الإطارين.

 

النظام السياسي في ( المشروع السني )

حتى اللحظة لم ينتج العقل العربي أفضل من النظام السياسي الوراثي بكل أشكاله. ففيه يتم انتقال السلطة من السابق إلى اللاحق بصورة عادة ما تكون سلسة آمنة. وفيه يتم تأهيل الحاكم منذ صغره وتدريبه على القيادة وحسن التعامل مع الشعب. إن هذه المزايا متحققة في النظام الوراثي بنسبة أفضل بكثير من الأنظمة غير الوراثية التي تمتاز بضعف استقرار النظام وكثرة الانقلابات. لكن هل النظام الوراثي هو السقف الأعلى لما يمكن أن يبلغه العقل البشري، ولا مطمع في أن يبلغ ما عداه؟ آخذين بنظر الاعتبار أن النظام التوارثي العائلي يوفر غطاء وفرصة تترصدها النفوس الضعيفة من الحواشي والحاشية في غيبة الرقيب لأن تثري وتتجبر على حساب الآخرين. وهذا وارد ومشاهد، وإن كان في كل الأحوال أقل سوءاً من الجمهوريات.

والجواب: لا.. ونعم.

لا ليس من سقف؛ فالله تعالى يقول:( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (يوسف:76)؛ فلا حدود يمكن أن يقيد بها عقل الإنسان لأن يطور ويبدع ويكتشف ويخترع.

ونعم، هناك سقف؛ إذا أعدنا تدوير توارث السلطة بصورة ثانية.

والسؤال الحتمي: كيف؟ والجواب: إن ذلك يقوم على مبدأين:

1. مبدأ التوازن بين القوى الثلاث: المدنية والسياسية والعسكرية.

2. مبدأ التوارث المؤسسي لا العائلي.

وإليكم البيان:

 

1. مبدأ التوازن بين القوى الثلاث : المدنية والسياسية والعسكرية

جاء في (منهاجنا) تحت فقرة (المشروع المدني) ما يلي: يتكلم السياسيون عن الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، ويُغفلون ذكر التوازن بين القوى الثلاث: المدنية والسياسية والعسكرية، ودون هذا التوازن بين القوى يصبح الفصل بين السلطات هواءً في شبك.

يقوم هذا التوازن على مبدأ الفصل بين امتلاك القوة وممارستها:

  1. فمن يمارِس السلطة لا يملكها. كما يتاجر المرء بما لا يملكه.
  2. ومن يملك السلطة لا يمارسها. كما يفوض المالك غيره بالمتاجرة بماله.

فيُمنع الجناح السياسي والعسكري (وهو من يمارس السلطة) من امتلاكها. ويُمنع الرأس المدني (وهو، مع منظومة القيادة المدنية العليا، من يملك السلطة) من ممارستها. هذا هو الأساس، وللتحقيق تفصيله.

إن هذا المبدأ يمنع تجمع القوة بيد الحاكم السياسي أو القائد العسكري. ومن صورها المعروفة أن يكون الحاكم السياسي هو (القائد العام للقوات المسلحة)، أو تولي السلطة السياسية من قبل المؤسسة العسكرية.

هكذا يتم ضبط القوتين: العسكرية والسياسية، ومنع تحكمهما بالقيادة المدنية. وبهذا يحال بين العسكري وطغيان القوة التي منها يولد القائد الصنم، وبين السياسي والانزلاق في دهاليز السياسة، الذي يدفعه إلى التمرد والانفلات عند فقدان الرادع، في غياب القيادة العليا بمشروعها المدني الأصيل وذراعها العسكري الطويل. وعلى هذا الأساس يخرج من دائرة القيادة العليا كل من يوكل إليه ممارسة نشاط سياسي أو عسكري.

في هذا النظام يكون (القائد) هو الرمز الحقيقي للشعب/الأمة، والرجل الأول في الدولة، ورأس المنظومة المدنية التي تمثل القيادة العليا. يمارس القيادة – وليس السلطة – بالتوازن مع المنظومة العليا التي تتشكل منها مؤسسات رقابية ذات صلاحيات دستورية تحفظ (القائد) من الجنوح نحو التسلط. وذلك كله يجري طبقاً لقاعدة (من يملك السلطة لا يمارسها، ومن يمارس السلطة لا يملكها).

والفرق بين القائد والرئيس أن الرئيس يكون على رأس المنظومة السياسية التنفيذية، وليس على رأس القيادة العليا، إنما هذا حق (القائد). ويمارس الرئيس السلطة السياسية ولا يملك قرارها الأعلى. إنما هذا حق المنظومة أو القيادة المدنية العليا. وإلى جانبه رأس المنظومة العسكرية الذي يمارس السلطة العسكرية ولا يملك قرارها. ويجري تغييرهما على فترات ليست طويلة تحدد في حينها.

أما بقية الأمور من الدستور والنظام الداخلي وتفاصيل الآليات والمؤسسات الرقابية وغيرها، فتأتي في حينها كما هي طبيعة الأمور.

 

2. مبدأ التوارث المؤسسي

إن هذا المبدأ، مع مبدأ (توازن القوى)، يمثلان نقلة نوعية في الفكر السياسي العربي. ونعترف أن مبدأ (التوارث المؤسسي) ما زال لدينا تحت الدراسة من أجل بلورته بصورة أقرب إلى المنهج العلمي القابل للتطبيق العملي. ولكن ناقشته مراراً، وكتبت فيه قبل عام مقالاً بعنوان: (الحكم الوراثي.. الولايات المتحدة الأمريكية نموذجاً) (رابط المقال: من هنا)، وضعت فيه رؤية عامة تصلح لرسم مسار قابل للتطوير في المستقبل إلى نظام حكم يتم نقل السلطة فيه بطريقة أرقى. وذلك من خلال لجنة خاصة دائمة تنتخب من بين أعضاء الهيئة المدنية العليا، تقع على عاتقها تهيئة وتعيين القائد المناسب قبل خلو المنصب بفترة مناسبة، ثم نقل المهام القيادية إليه عندما يحين وقته.

إن هذه الآلية تحقق لنا ثلاث نتائج عظيمة:

1. تهيئة القائد لأن يكون صالحاً للقيادة، وتعيينه كقائد قادم قبل فترة مناسبة من رحيل القائد الراهن.

2. منع الفساد العائلي.

3. نقل السلطة بهدوء.

هذه هي ميزة (المشروع السني) التنافسية.

وهذا هو النظام السياسي الضامن لتحقيق الأهداف والشعارات.

نظام به نجسد الربانية السياسية في هيكل سياسي بارز للعيان، ونخرجها من عالم الأحلام والوعود إلى عالم الواقع المشهود.

كما أننا بهذا النظام نبني دولة المؤسسات: دَولة ولكن بمفاهيم أمة. دَولة لا تكون السلطة فيها دُولة بين الأقوياء، كما لا يكون المال فيها دُولة بين الأغنياء، ولا العلم دولة بين العلماء.

2019/4/30

اظهر المزيد

‫6 تعليقات

  1. كل ما عشناه في حراكنا لعهد طويل هي خيالات لمدينة فاضلة ما بين مهدي السنة الموعود ومهدي التشيع الحاقد الذي بين يدي ظهوره وعيد شديد للعرب احياء واموات هذه هي نظرتنا التي سميناها بالخلافة الراشدة والتي توقفت بعد رسول الله على اربع خلفاء وبغائب ينتظر فكلت العقول عن التفكر وحركة عاطفية تفنى بذور شبابها في لهيب العسكر وبه جعلونا كاعجاز نخل خاوية او يلقها في صحراء السياسة فتركوننا كضمآن سعيه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء فلا رب ارضيناه ولا مجتمع اسعدناه ومن بين هذا الركام و الضجيج وامة تصطرخ من سياط القدر واذا بالتيار السني يهب علينا كطل يأوي الى ربوة ذات قرار ومعين فقرارها الانسان الرباني والارض الصالحة ومعينها كتاب الله المنشور والمقروء وزادها ايمان بعبادة وعمل بنصرة وعدتها الحق والصبر بشطريه الحلم والاناة ولا تجد ذلك في كل المشاريع الا في التيار السني في العراق .

  2. كثرت متاهات الامم بسبب عدم وجود المنظومات المستقلة فعموم الامم تكون السلطة المطلقة بيد الرئيس اذا كان عسكريا فالجيش بأمره وإذا كان مدنيا فكل السلطة المدنية بيده وهذا حال الامم المتطورة والمتأخرة ، ورغم كثرة نظريات القيادة في العالم إلا انها لم تستطع تطبيقها على ارض الواقع فلم نشاهد قائد بمعنى الكلمة وبقيت كلمة الرئيس هي السائدة ، وهذا ينطبق على الحكم الملكي والجمهوري فالحكم الانتقالي يبقى فيه الحاكم حتى ينتقل الى رحمة الله والملكي حتى ينقلب عليه ابنه اخوه ، وعلى هذا فان ما قدمه المشروع السني يمثل ارقى انواع الحكم القيادي المتمثل بالقيادة المنضبطة داخل منظومة متكاملة.

  3. يمكننا القول ان هذا النظام السياسي الذي يطرحه التيار السني، يقدم للامة انموذجا جديدا للحكم اكثر تطورا من “النظام الوراثي العائلي” الذي يعيبون عليه انه يوفر بيئة خصبة للنخب المستفيدة و السياج البيروقراطي الذي تنتجه ..
    و وجود قيادة مدنية عليا ينهي فكرة جنوح القائد للاستبداد..ويكفل تنوع الاراء في عملية صنع القرار وبذلك ينتفي عن القائد تهمة الداعين للديموقراطية من ان القائد الرمز سينشأ عنه احتكار للسلطة لأن بيده القرار السياسي الاعلى والعسكري ايضا
    ….
    لا اخفيكم انني حين قرأت عنوان المقال .. استبشرت كثيرا .. فما يراه الاخرون تنظيرا نراه حركة وخطوة للامام تبشر بقرب الانطلاق ..
    اللهم مكن للتيار السني في العراق و بارك في كل خطوة يخطوها

    1. ما قاله الشيخ طه قول رشيد وفهم سديد ما عليه مزيد .نعم السياسي اليوم ضعيف بلا سلطة والحاكم جبار بلا سياسة فكلاهما أفسد فسادا عريضا ثم جاء من بعدهم من يدعي أن لا حل إلا بالإسلام ثم بقي يراوح بالشعار والشعور دون الشعائر فأصبح سببا بكفر الناس بالإسلام السياسي الذي لم يجنوا منه سوى الإعلام والإعلان .فأقول مستعينا برب جل وعلا ان الحل لا يكمن إلا بالإسلام المدني القائد المالك للسياسة والعسكر وبدون ودون ذلك ففساد وخسار وانكسار كبير ماله جبير والتجربة المصرية ليست منا ببعيدة
      والله أعلا وأعلم كتبه ابو عائشة الدليمي

  4. التيار السني يعطي انموذجاً فريداً للحكم الراشد، لم يسبق اليه احد معالجاً بذلك اكبر قدر ممكن من الاشكاليات التي تُظهرها أشكال الحكم المعروفة.

  5. التيار السُنّي بفكره المتجدد دائماً يطرح الجديد والراقي لما يمكن أن يصله العقل الانساني المحكوم بالشرع، ونموذج النظام السياسي الذي يطرحه هو من أرقى النماذج النظرية التي نتمنى أن ترى النور لكي يعلم العالم أجمع أن الاسلام دين يصلح لجميع الأزمنة إن أعمل المسلم عقله مستنيراً بدين الله وهو يضع الحلول للواقع.

اترك رداً على عبدالرحمن المهندس إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى