الحالة الدينية في ظل نظام البعث
د. طه حامد الدليمي
ما بين دخولي كلية الطب عام 1979 وتخرجي منها عام 1986، وبين تركي عالم الطب بعد ثماني سنين.. قرابة خمسة عشر عاماً. كانت تلك الأعوام الطويلة مشحونة بأحداث جسام وأفكار ونظرياتٍ عاصفة لا بد أن تتجاذب من عاشها، شاركتْ شيئاً فشيئاً في إرساء معالم (القضية السنية) أمام ناظري، وأدت بي إلى تبني هذه القضية على أنها القضية الأولى والمركزية لدول المشرق العربي: العراق والخليج واليمن والشام. هذه الأحداث والأفكار القلقة لا يمكن اختزالها بما سبق عرضه؛ فيحتاج مني إلى وقفات أمام أهم ما مررت به من ذلك.
دخلت كلية الطب في جامعة بغداد فرحاً؛ ها هو حلم والدتي الذي داعب أجفانها سنين وسنين في طريقه إلى التحقيق. كانت تعلق صدريتي البيضاء على الحائط الطيني أمام عينيها وهي راقدة على فراش المرض وتبشر من جاء يعودها: “طه راح يصير طبيب!”، وتشير إلى الصدرية.
بعد أيام جاءني إلى الكلية أخي الشيخ ليكفلني، وهو إجراء لا بد منه لكل طالب يتعهد فيه – بواسطة كفيل – أن يخدم في مستشفيات الدولة مدة من الزمن بعد تخرجه. ما زلت أذكر ابتسامته وهو يراني بلحمي وعظمي طالباً في كلية الطب! وبعد الانتهاء من الإجراءات الرسمية ودعني ومضى. وفي المساء جاءني – وكنت في بيت والدي في المدينة – ليخبرني أن والدتي في النزع وعليّ الإسراع قبل أن تفارق الحياة! أدركتها فوضعت رأسها في حجري على صدري، لكنها كانت في السكرة الأخيرة، ولا أظنها أحست بي، ثم بعد قليل ودعتنا الوداع الأخير. كان ذلك في مساء يوم 11/11/1979.
كنت قبل يومين عندها، جلست بجوارها.. كانت تكلمني ببطء مغمضة العينين. كنت أحمل في جيبي حبيبات حمص، وضعت في فمها واحدة. سألتني عن دراستي وحالتي، ثم بعد ساعة ودعتها ومضيت وفي أذني حفيف آخر كلمة سمعتها منها: “الله يساعدك”.
أظنها – رحمها الله – لو عاشت لخيبت ظنها في أن أتخصص بعد تخرجي في الفرع الذي يعالج مرضها، بل ولا في أي فرع آخر من فروع الطب. وحقاً لقد استجاب الله تعالى دعاءها المختصر في كلمتين فقط “الله يساعدك”، فأعانني إعانة لم أكن أحلم بها، لكن في حقل آخر من حقول الحياة، تجنى ثمارها لا في سلة من سلال الأرض وإنما في أُخرى من سلال السماء.
الحالة الدينية في ظل نظام البعث
تسلم حزب البعث حكم العراق في تموز من سنة 1968، وكان حزباً أقرب إلى الإلحاد آنذاك منه إلى الإيمان. أشاع أجواء الرعب من كل نشاط ديني ولو كان الذهاب إلى المسجد! أغلق المدارس الدينية الملحقة بالمساجد والتابعة للوقف، وحوّل ما تبقى منها – وهي قليلة بل نادرة – إلى إعداديات رسمية تابعة لوزارة التربية، ويشرف عليها اتحاد الطلبة حالها حال أي مدرسة أخرى. والاتحاد كيان حزبي في كل مدرسة يديره الطلبة البعثيون، يشرف ويراقب وينظم العمل الحزبي وله صلاحيات مستقلة عن إدارة المدرسة. بل إن بعض هذه الإعداديات أغلقت بعد مدة، كما حصل لإعدادية المحمودية التي كان أصلها مدرسة دينية تسمى “هيبت خاتون الدينية” ونقل طلابها إلى الإعدادية الإسلامية في بغداد/ منطقة الصليخ، وهي الإعدادية الإسلامية الوحيدة في جميع أنحاء العاصمة! كما كانت هناك كلية دينية واحدة فقط في بغداد، هي “كلية الإمام الأعظم”!
كنت أطلع على بعض أعداد مجلة “الثورة العربية”، وهي الجريدة الداخلية للحزب، توزع شهرياً على المنتمين إليه، فلا أكاد أعثر فيها على شيء له علاقة بالدين ولو كان اسم (الله) فقط! دعك من أي إشارة أو همسة فيها رائحة من آية أو حديث. بل كنت أجد في بعض الأحيان كلاماً إلحادياً يفسر الدين على أنه ظاهرة نفسية جمعية يلجأ إليها الإنسان الضعيف عند الحاجة، لذا تشيع عند الأزمات وتنكمش عند زوالها! هذا ما قرأته يوماً في أحد أعدادها بقلم أحد منظري الحزب وهو كمال عبد الله الحديثي. ولا يتردد بعض صغار المسؤولين الحزبيين من السخرية بالدين في مجالسهم. على أن ذلك لم يبلغ سخرية بعض كبار البعثيين السوريين. وهو فرق يسجل بين الفريقين من الحزب نفسه.
كذلك جريدة (الثورة) الرسمية، ومثلها (الجمهورية)، ومجلة (ألف باء)، وتكاد الصحافة العراقية تقتصر على هذه الصحف، سوى بعض المجلات الدورية أو الشهرية مثل مجلة (آفاق عربية) التي تعنى بالثقافة.. كلها تخلو من أي ذكر للدين! كنت أحياناً أقلب جريدة (الثورة) فأقول متهكماً: ليتني أجد فيها ذكراً (لله) ولو على سبيل الكفر! وكان هذا مقصوداً ففي التقرير الصادر عن المؤتمر القطري التاسع لحزب البعث المطبوع في مجلد كبير، تجد تحت عنوان (المسألة الدينية) توصية مشددة بعدم الأداء العلني للعبادات – التي يطلق عليه التقرير اسم “الطقوس” – من قبل المسؤول الحزبي بحيث يراه من هم في مسؤوليته من الحزبيين! ويبرر التقرير ذلك بأن الحزبي إذا رأى مسؤوله يصلي فسيقلده في ذلك ويقوم بأداء الصلاة كي يتقرب إليه، فيكون التقييم والترقي في سلّم العضوية على أساس الدين وليس على أساس الانتماء والأداء! ومثلها الإذاعة والتلفزيون لولا أنها تفتتح برامجها وتختمها بقراءة القرآن. وهو تقليد لا تخلو منه حتى إذاعة أورشليم! هذا وقد أوقفت الحكومة نقل الأذان ووقائع صلاة الجمعة من خلال الإذاعة والتلفزيون منذ استيلائها على سُدة الحكم في سنة 1968. ولم يعد الأذان إلى الإذاعة إلا في سنة 1986؛ بتأثير الاتهام الإيراني بكفر حكومة البعث وحزبها، واستدلالهم على ذلك بخلو الإذاعة من البرامج الدينية وأولها الأذان وصلاة الجمعة.
هذا وغيره هيأ جواً شعبياً لنمو طغيان المروق من الدين في العراق، وشعور المتدينين بالغربة فيه. فمن المألوف أن يلقي عليك التهم جزافاً من تعترض عليه من عامة الناس بسبب كلمة نابية قالها بحق الله جل في علاه، ومنهم من يسبه علناً دون وجل! وكان المجتمع الذي عايشته يتلقى ذلك بالصمت دون أدنى اعتراض؛ فلا أذكر يوماً أن أحداً تململ أو أنكر، هذا إن لم يجد السابّ عوناً ونصيراً من الحاضرين، ومن يقول لك: ومن نصّبك محامياً عن الله؟ وما هي علاقتك أنت؟ وهناك عبارة مألوفة تطلق عادة في مثل هذه المواقف: “عيسى بدينه وموسى بدينه”!
مرةً في صيف سنة 1984 كنا راجعين من بغداد أنا وأخي الشيخ نوري رحمه الله في سيارة نقل عمومية. كان في السيارة مجموعة من الشباب يمزحون بأصوات عالية فإذا هم يسبون الله سبحانه وكأن مسبة الله مما يُـتفكه به من الكلام! التفتّ إليهم – وكانوا في المقعد الذي خلفنا – فغمزني أخي بعينه تجنباً للمشكلة؛ فعاقبة الأمر لا يُـتكهن بها أو يمكن ضبطها، وقد ينقلب الأمر علينا. لكنني لم أحتمل الموقف فانطلقت أنكر عليهم فحصلت مشادة، وإذا امرأة من الركاب، ترتدي الفوطة والعباءة العراقية، تصطف إلى جانبهم فتصيح علينا منكرة: وما دخلكم أنتم؟ (!). وذات يوم في بداية الحرب مع إيران كنت راكباً في “منشأة” لنقل الركاب متجهة إلى النجف لأنزل على الطريق عند المحمودية، وقد ازدحم فيها الركاب قياماً وقعوداً، ومن بين الزحام أسمع صوتاً يسب الرحمن، فأنكرت على صاحبه، وحصل بيني وبينه تلاسن اتهمني فيه بأنني خمينيّ من “حزب دعوة”(!) وهددني بتبليغ أقرب سيطرة للتفتيش! وظللت متوجساً من تهديده طول الطريق. والأمثلة على ذلك كثيرة. أحد الحزبيين من أقاربي عجبت لوجوده في رواق مسجد (التيسير) القريب من سكني، وكنت لحظتها أخرج من باب الحرم بعد انتهاء الصلاة. ما الذي أتى به إلى هنا وعلمي به أنه لا يصلي! ثم تبين أنه يبحث عن أحد الشباب المتفلتين من حضور الاجتماع الحزبي المناط بمسؤوليته، سمع أنه يصلي في المسجد فأراد أن يكبسه فيه. قلت له ساخراً: “تفضل صل”؟ فكان جوابه: “تريد مني أصير خميني”؟! وكانت ملاحقة رواد المساجد بالتقارير والتهم المغرضة شيئاً معتاداً، فيتحاشى الناس التردد عليها إلا أيام الجمع، وهي لا تخلو من عيون رجال الأمن والحزب والوكلاء والمتملقين، الذين يحصون على الخطيب كلماته ويتحينون هفواته.
تغير الحال بعد منتصف الثمانينيات
بعد غزو الكويت، وقبله بسنوات قليلة، تغير الحال. فصار الرئيس صدام حسين رحمه الله يظهر كثيراً في وسائل الإعلام وهو يؤدي الصلاة، وكثرت على لسانه العبارات الدينية في اللقاءات البينية والخطابات سواء منها ما كان في المناسبات الدينية والوطنية أو المناسبات الحادثة. وقام بإجراءات وإصلاحات في الحزب والدولة والمجتمع والتعليم وغيره تفتقر إليها معظم الدول العربية.
يبدو أن العرق الديني في شخص الرجل، رغم علمانية (البعث) قديم؛ فمما يروى أنه زار مسجد قرطبة عام 1974 وصلى في محرابه فكان أول من صلى فيه بعد خمسمئة عام من تحريم الصلاة فيه تحريماً صارماً.
وهو صاحب العبارة التي كانت غريبة على مسامع قادة (البعث): “لسنا حياديين بين الايمان والالحاد بل نحن مع الايمان ضد الإلحاد”. نعم العبارة لو أخذناها مجردة عن ملابساتها لا تعني أكثر من الإيمان بربوبية الله ووجوده مقابل الإلحاد وإنكاره، والإسلام يشترط الإيمان بإلوهية الله تعالى إضافة إلى ربوبيته، لكن من عاش تلك المرحلة المجدبة عرف قيمة العبارة وما تشي به من توجه للدين غائر في أعماق القائل كالبذرة الدفينة بين الحصى والحجارة، ربما تغلغلت إليها قطرات مطر أو نداوة تربة لتهيجها وتبعثها. وأظن ذلك قد كان، لنا الظاهر والله يتولى السرائر. فعبّر الرجل عن تلك البذرة بطريقته الخاصة التي قد تتفق أو تفترق مع الشرع، لكن ذلك لا يعدمه صدق المنطلق، ومن ذلك أنه كتب القرآن كاملاً بدمه.
قاد صدام حسين “الحملة الإيمانية”، وكانت لها مظاهرها وآثارها الإيجابية الكثيرة. ففتح محطة إذاعة للقرآن الكريم. وأسس (معهد الكتاب والسنة) ومدة الدراسة فيه سنتان، تدرس فيه العلوم الشرعية لكوادر الحزب العليا، ولا يسمح لأعضاء الحزب بالترقي دون التخرج منه. ووُضع منهج لدراسة القرآن الكريم وتفسيره كاملاً موزعاً على اثنتي عشرة سنة يبدأ من الصف الأول الإبتدائي حتى الصف الأخير من الثانوية. وكان السجين يخفف عنه مدة السجن طبقاً لمقدار حفظه للقرآن، وأخذ شيوخ الدين بزيارة السجون لوعظ السجناء. وأسقط الضريبة عمن يبني مسجداً من التجار حسب عدد المساجد أو كلفتها. وأسس عدداً من المعاهد والكليات الدينية مثل (جامعة صدام للعلوم الإسلامية) التي أسست أيام الحرب ضد إيران، و(المعهد العالي للخطابة) الذي تطور فيما بعد إلى كلية الخطابة. ووافق على إنشاء (البنك الإسلامي) في بغداد، وله فرع في الرمادي. وقد تكون له فروع أُخرى.
وأغلقت معظم الخمارات والملاهي وترك أمر إغلاقها لمجالس الشعب في كل منطقة. وأمر بتحويل منتزه لبنان السيئ السمعة في البصرة إلى مسجد سمي (مسجد صدام الكبير). وعلى الشاكلة نفسها تم تحويل خمارة عند مدخل مدينة الرمادي من جهة بغداد إلى جامع سمي (جامع الحق). وبدأت بعض البرامج الدينية، ومنها صلاة الجمعة، تبث في التلفزيون والإذاعة العراقية. وصدر قرار بعقوبة من سب الله تعالى أو رسوله e. وبمرور الزمن ما عدنا نسمع أحداً من العراقيين يفعل ذلك. وطارد السحرة فألقي القبض على كثير منهم. وأمر بقتل الداعرات، وأعدم علناً في سوق المحمودية عند مبنى القائم مقامية رجلاً حاول اغتصاب إحدى المعلمات من أهالي بغداد أقلها في سيارته إلى مدرستها في أحد أرياف المحمودية، فلما امتنعت عليه قتلها، ولكن الله تعالى فضحه فكان مصيره الإعدام بأمر من الرئيس. ونقل إليه خبر أحد السفهاء نثر حزمة من الأوراق النقدية على راقصة فأمر باعتقاله قائلاً: “اضربوا على يد هذا السفيه”، أو كلمة مشابهة. وحين أعلن عن (جيش القدس) أمر بارتداء الحجاب لمن انتسب إليه من النساء.
وعمل لجنة للتحقيق في الأنساب للحد من ظاهرة الانتساب المزور لـ(أهل البيت) والتكسب به، وأمر بمعاقبة من لم يتمكن من إثبات نسبه خلال ستة أشهر. ولا أدري هل تم تفعيل هذا الأمر وأمثاله أم لا.
لست بصدد التفصيل فيما حصل من تحول ديني في عقد التسعينيات في العراق برعاية الرئيس صدام حسين نفسه. وإنما أردت شواهد لكي أكون أميناً على التاريخ ومنصفاً عبر نقل الصورتين المتناقضتين: صورة ما قبل منتصف الثمانينيات وصورة ما بعدها خصوصاً في الفترة اللاحقة لغزو الكويت.. قبل أن أعود إلى الوراء أيام كان الدين منبوذاً وأهله قليل مستضعفون يخافون أن يتخطفهم الناس، لأقول: ماذا تتوقع من موقف شاب نشأ على التدين وتشبع بالعلوم والثقافة الدينية، ويتطلع إلى قيام دولة ربانية تحكمها الشريعة، تجاه دولة وحزب ومجتمع هذا حاله؟!
13/4/2015