مقالاتمقالات أخرى

أسطورة رفع المصاحف في معركة صفين

أ. العنود الهلالي

كانت أدوات ووسائل الكتابة في عصر الصحابة بسيطة للغاية، فقد كان الناس يستخدمون لتسجيل أشعارهم وعهودهم ومواثيقهم ومواعظهم وسائل مختلفة من الأحجار والرقاع والجلود والأخشاب وما إلى ذلك مما يصلح للكتابة من الأشياء المتوفرة لديهم، وذلك لندرة الورق، وهي أيضا الوسائل التي استخدمها الصحابة لكتابة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده بقليل.

عندما جُمع القرآن الجمع الثاني في عهد الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه لتوزيعه على الامصار بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية كانت النسخ التي تم توزيعها للمصحف العثماني قليلة، قال أكثر المؤرخين بأنها سبع نسخ، نتيجة لقلة وسائل الكتابة آنذاك.

نسخة كاملة من المصحف المنسوب لعثمان بن عفان رضي الله عنه المحفوظ بالقاهرة بالمشهد الحسيني.

يقول الدكتور عبد الرحمن بن معاضة الشهري في تعريف ووصف هذا المصحف: (هذا المصحف نسخة من المصاحف الستة التي نسخت بأمر عثمان رضي الله عنه ثم أرسل أربعةً منها إلى الأمصار، وبقي اثنان منها في المدينة. ويتكون هذا المصحف من 1087 ورقة من الرق من القطع الكبير، وقياسها 57سم ×68 سم، وعدد الأسطر 12 سطراً، وارتفاعه 40 سم، ووزنه 80 كجم، ومكتوب بمداد داكن، وبخط مكي يناسب القرن الهجري الأول، خال من النقط والزخارف الخطية، وتوجد فواصل بين السور عبارة عن رسوم نباتية متعددة الألوان.)[1]

كتبت هذه النسخة على الرِق “ويتميز الرق عن بديله ورق البردي أو ما كان يسمى القرطاس آنذاك بالمتانة لمقاومته البلي والتمزيق ولسطحه الأملس المناسب للكتابة. يتراوح ثخن الرق بين الـ 0,3 و 0,5 مليمتر. وبذلك تكون المصاحف سميكة جداً بالمقارنة مع المصاحف الورقية التي نتداولها اليوم، ويذكر أن المصحف الحجازي المجموع في مجلد واحد المحفوظ في جامعة توبينجن الألمانية يبلغ سمكه ما يزيد على الـ13 سم لمصحف مؤلف من 450 صفحة!

وتقول المصادر الغربية بأنه لم يعثر على مصحف كامل مكتوب على البردي. وذلك لأن المسلمين كغيرهم فضلوا الرق على القرطاس لكتابة المصحف الشريف.”[2]

أسطورة رفع جيش معاوية رضي الله عنه المصاحف على رؤوس الرماح

يقول غوستاف لوبون في كتابه فلسفة التاريخ: “ينشأ أحد مصادر الخطأ الكبرى في تفسير الحوادث الماضية عن محاولة المؤلفين إيضاح الوقائع بأفكار الحاضر بدلا من تقديرها وفق أهواء كل زمن ومشاعره المتقابلة”. فالنظر في الوقائع التاريخيةبأفكار الحاضر، بل وبعيدا عن سياقها أفسد فهمنا للتاريخ وصنع تفسيرات عوجاء للأحداث ومنح الفرصة لكل متصيّد دعيّ يبتغي بث دجله ودسائسه في دواوين التراث كما يشاء.

وأسطورة رفع جيش معاوية رضي الله عنه المصاحف على رؤوس الرماح من الروايات التي رغم خلل متنها وفساد معناها المخالف للواقع التاريخي الثابت إلا أنها راجت وشاعت وتشبّع بها العقل الجمعي السني حتى النخاع وهي حلقة في سلسلة طويلة من الدسائس والاكاذيب الشعوبية التي امتلأت بها دواوين التاريخ!

متن الرواية:

تقول الرواية أن جيش معاوية رضي الله عنه قد رفع المصاحف على أسنّة الرماح في الحرب بين علي ومعاوية رضي الله عنهما سنة 37 هجرية، بل وذكرت أيضا أن عددها نحو ثلاثمائة مصحف!!

التفكير كفعل يعتمد على تفعيل ملكة النقد وإعمال العقل؛ وهذه الرواية فساد متنها يكفي لإسقاطها فكيف يقبل العقل أن تكون المصاحف بهذه الوفرة في تلك الفترة، أضف إلى ذلك فإن حجم المصحف كاملاً لا يمكن حمله على رأس الرمح بسهولة. وقد مر آنفا ذكر حجم المصحف الذي نسخ من المصحف العثماني الذي وزع على الأمصار.

وقد يقول قائل ربما كانت هذه المصاحف التي رفعت هي أجزاء من القرآن لا القرآن كاملاً، وحتى هذه غير معقولة فكيف يمكن أن يرفع العسب والألواح والأكتاف والرق على رأس الرمح لأنه إن كان قرطاسا أو رقاً فسيتلف نتيجة خرقه بالرمح أو السيف، وإن كان غير ذلك من الالواح والعسب فكيف سيستقر على رأس الرمح!

سند الرواية:

جميع روايات رفع المصاحف لا تثبت سنداً.  فقد ساق ابن جرير الطبري كل روايات معركة صفين -عدا روايتين – عن بي مخنف لوط بن يحي، وهو شيعي محترق، ويحيى بن أبي حية الكلبي (أبو جنابٍ الكلبي) شيعي متروك. 

أما الروايتان اللتان ذكرهما ابن جرير عن غير أبي مخنف ويحيى الكلبي: فالرواية الأولي جاءت عن أبي بكر الهذلي الذي قال عنه ابن حجر (إخباري متروك الحديث) بينما الرواية الثانية التي جاءت عن الزهري فيها علتان: الانقطاع في الإسناد بين الزهري وبين صعصعة بن صوحان ونكارة المتن.

دراسة التاريخ دون إدراك لخطر الدسائس الشعوبية سيجعل من تاريخنا مسخا مشوها في أعيننا، وأمر آخر لا يقل خطورة عن دسائس الشعوبية لا بد من ذكره وتكراره وهو أن شيوع مثل هذه الروايات في حق بعض الصحابة ليس إلا لكونهم في العقل الجمعي للأمة خصوماً لعلي رضي الله عنهم أجمعين، وقد سمى الدكتور طه حامد الدليمي هذه الظاهرة العجيبة: التشيع الثقافي (وأحد مظاهره الميل الزائد إلى علي وابنائه وذريته ويجعل صاحبه يبالغ في فضله ومنزلته فيتساهل في قبول ما يروى في هذا الجانب وإن تعارض مع النقل والعقل والتاريخ، وقد يجره ذلك إلى التساهل في التعامل مع مرويات أخرى ذمت خصومه، وربما زاد فتنقص منهم)[3].

2023/8/25


[1]  الدكتور عبد الرحمن بن معاضة الشهري. إطلالة على المصحف المنسوب لعثمان بن عفان بالمشهد الحسيني بمصر

[2] خالد عبدالله، الرَّق – مادة المصاحف الحجازية

[3] د. طه حامد الدليمي، شقوق في جدار السنة 

اظهر المزيد

‫9 تعليقات

  1. كلام منطقي .. وإلا كيف يمكن عقلا ان يرفع المصحف على رأس الرمح!
    هذه الروايات مزوروها فيهم غباء عجيب والاغبى منهم من صدق هذه الترهات!

  2. سلمت يمينك .. هذا النقد العلمي يثبت لنا مدى صحة وجوب اعاد النظر في تاريخنا المروي على ألسنة المزورين.

  3. بارك الله في الاستاذة العنود الهلالي
    بالفعل اسطورة بل واسطورة سخيفة والا كيف للعقل ان يقبل بهذا القول والاغرب ان هناك من يقول ربما ليست المصاحف كاملة بزعم انه وجد مخرجا لحجم المصحف!
    العلة الاساسية هي كيف استقرت على رؤوس الرماح ولم تتلف!

  4. بارك الله بك اختي العنود
    هذه الروايات تسير على خط واحد وهدف محدد الا وهو تشوية تاريخنا العظيم وتسويد صفحاته البيضاء لكن نحن لها بالمرصاد ان شاء الله وقد علمنا الدكتور طه الدليمي حفظه الله كيف نقرأ التاريخ وكيف نكتبه.

  5. يعني المناداة بما جاء في الآيات والتذكير بالله ورسوله والحساب والرحم واخوة الاسلام لم يجد آذان صاغية
    وهل مابين دفتي المصحف الا هذه!!
    هذه الرواية يقصها علينا الخطباء منذ عقود لم يكلف احدهم نفسه عناء البحث في مدى صحتها
    الى ان من الله علينا بمتابعة الدكتور طه الدليمي حفظه الله وحفظ من حمل معه مشروع ايقاظ الوعي وازالة رواسب التشيع من التاريخ والعقول السنية

  6. العقل الواعي والحر عندما تمر به هكذا روايات لاتناسب واقعنا الحالي في كتابت وطبع المصحف في عصرنا هذا يدرك أن هذه الروايات كاذبة ملفقة مزوره مهما كان متنها وسندها
    سؤال؟ يطرح من المستفاد من هذه الروايات التي تسربت الى كتبنا وتلوثت بها ثقافتنا غير أعداء ديننا اليوم.

  7. لو فكر الذين نقلوا هذه الأسطورة من القصاصين ورواد المنابر الذين رددوها ونقلوها كيف ؟لجندي المقاتل إن يحمل مصحف فوق رأسه وهو في حالة قتال شديد
    وماذا يفعل بالمصحف فوق رأسه أم أن القدسية للكتب
    جعلتهم يصدقون كل حديث ورواية تطعن في الصحابة رضي الله عنهم والعرب اجمعين
    بوركتي استاذة عنود لهذا الطرح التاريخي القيم
    فلا حرمنا قلمك ومقالاتك الواعية الجميلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى