ديوان القادسيةقصص وخواطرمقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

يوم الشهيد .. الذكرى الـ (41)

مقتبس من فصل (الحسين الأسير) في رواية (هكذا تكلم جنوبشت)

د. طه حامد الدليمي

في يوم 1981/11/29 وفي منطقة (البسيتين) نحر الفرس قرابة ألف وخمسمئة أسير عراقي بأساليب بشعة. اتخذ العراق من هذه المناسبة الأليمة يوماً تذكارياً تاريخياً فكان يوم الأول من كانون الأول (12/1) من كل عام (يوم الشهيد) في العراق.

( 3 )

في الجمعة الماضية وعدت المصلين بأن أستضيف الأسبوع القادم أحد الضباط الأسرى.. كنت قد زرته في بيته قبل أيام. وضَعنا في وسط الحرم – بعد انتهاء الصلاة – طاولة وكرسيين، وجئنا بمصور كي نوثق الحدث بشريط مرئي.

وكان يوماً مشهوداً.. ازدحم فيه الناس يريدون أن يسمعوا من الضابط الأسير طالب اللامي.. ماذا يقول!

لم يعامل الإيرانيون أسرانا طبقاً للشريعة والقوانين الدولية والأعراف الإنسانية.

هكذا ابتدأ الأخ طالب حديثه..

لقد عاملوهم كما يعامل الحاكم الظالم رعايا له خارجين عليه. وهذا أثر متخلف عن نظرة تاريخية متأصلة عند الفرس، وهي أن العراق ذيل ملحق بإيران؛ فمن قاتلهم من العراقيين فإنما هو متمرد على حاكمه وولي نعمته، تنفذ بحقه القوانين التي تنفذ في حق الخارجين على الدولة!

 وراح في سياحة أشبه بالخيال عن ملابس الأسير.. طعامه.. شرابه.. أمراضه.. العقوبات التي يُصْدرونها بحقه.. أسبابها التافهة. ورغم تفاهتها قد يدفع الإنسان حياته ثمناً لها. وهذا قد حصل كثيراً!

الجوع والبرد وحشان مفترسان ينهشان جسد الأسير وروحه طوال وجوده (هناك). عمّاذا أحدثكم حول الطعام والشراب؟ عن قلَّته أم عن انتهاء صلاحيته؟ عن الرمل والحصى.. عن الحشرات والديدان؟ المواد المسهلة، ومساحيق التنظيف، ومواد مجهولة يخلطونها به؟ اليرقات التي تسبح في ذلك الشيء الذي يسمونه ماء. هل يكفي هذا؟ أبداً. كيف أختصر لكم عالًماً، يضج بالأسى!

وتأوه ثم سكت. وبعد قليل رفع رأسه ليقول:

لن أحدثكم عن عذاباتنا في قضاء الحاجة. لا.. لن أحدثكم.

وخذوا بدل ذلك هذه اللمحة عن عذابات المرض عند الأسير.. لكن كيف؟

هل رأيتم الأمراض وكيف تنبثق من تحت الكرابيج.. وتطل برأسها من خلف القيود. أو تعرّش تحت الجلود المتهرئة.. وفوق البلاط.. وبين الصراصر والجرذان والفئران. بعضنا يعجز عن الصمود فيغادر لكن بصمت.. إشّ… لا عزاء ولا بكاء، ولا دموع! وبعضنا يواصل السير بين ضجيج الحياة، يحمل على كاهله جؤنة من الأمراض.. بعضها لها اسم..  ذبحة صدرية، زُحار، شلل ارتعاشي، فقر دم، يرقان، تليف كبد… وقائمة تطول. وبعضها لا نعرف لها اسماً يميزها ولا لوناً ولا شكلاً. يبدو أن الأمراض تختلط كما تختلط الأصباغ فتنتج ألواناً أخرى لم تكن تعرف من قبل!

أما القمل.. فلا أدري هل إيران عبارة عن غيران أو ينابيع للقمل! والجرب؟ (والتفت إلي) يا شيخ ياسين اعذرني من ذكر هذه الأشياء المقرفة. لكن ماذا أفعل وهذا هو كل ما وفرته لنا من رفاهية دولة أهل البيت.. بيت النار في إيران؟ هل يمكن أن يتحدث المرء عن الورود وهي تحترق بين ألسنة اللهب! (ثم عاد بوجهه إلى الجمهور) تخيلوا.. ومع هذه الحال ترى بين ساعة وأخرى أسيراً يمر بك وهو يدفع عربة تزن مع حمولتها طناً أو أكثر.. ذهاباً وإياباً ساعاتٍ وساعات. ويأخذه التعب والجوع والمرض فينطرح أرضاً ويفقد القدرة على الحركة.. وقد تحركه فتجده قد فقد الوعي من شدة الأعياء.

أنتم لم تروا وجه الأسير وكيف تتماوج تضاريسه عندما يؤمر بنزع نعليه ليقف حافياً على الثلج في زمهرير الشتاء. أما كيف تمحى تلك التضاريس لأن وجهه قد تخشب تحت وطأة البرد وقد طُمر جسمه في الثلج إلى ركبتيه أو حقويه أو خاصرتيه.. فذلك شيء فوق الخيال!

وفجأة ضحك الضابط طالب اللامي بوجه جامد لا أثر للحياة فيه.. وقال: أسير اسمه صدام حسين. تصوروا.. صدام حسين يقوده حظه فيقع أسيراً في أيديهم! صدقوني هكذا عاملوه وكأنه صدام.. صدام حسين نفسه! واكتملت المصيبة يوم أرسل إليه أهله رسالة عن طريق (الصليب الأحمر) جاء فيها: “ابنك عدي يسلم عليك. ورزقت بمولودة أسميناها حلا”! يا لَلجريمة النكراء!

ودارت على جسده الواني عجلة التعذيب.. يدخل فيُضرب بكرباج.. يخرج يضرب.. يجلس يضرب.. يقوم يضرب.. يأكل.. يشرب… مصيبة! ثم لم يكتفوا حتى أدخلوه المستشفى قسراً.. وهناك أجروا له عملية جراحية وبتروا له ساقه.. وكانت سليمة تماماً..!

وتهدج صوت الضابط الأسير وهو يقول: أحيانا يكون التعذيب بالرفس. يؤتى بالأسرى عشرة عشرة أو عشرين عشرين.. يُطرحون أرضاً مكتوفي الأيدي. ثم يتقدم أفراد من الحرس الثوري أو العادي نحوهم وبعدد مقارب لعددهم. ليبدأ فصل من الرقص رفساً بالبساطيل على الأجساد المفروشة تحتها، وبإيقاع منتظم. وشيئاً فشيئاً يدخل الراقصون في حال أشبه بحال (الجذب) عند الدراويش. تزيغ فيها العيون وتتوحش الحركات، وتنطلق الأفواه بالزعيق وصيحات الضحك والعواء وسط التأوهات والصرخات التي تنبعث من تحت البساطيل. رقص كرقص الزنوج في الغابات يأخذ فنوناً غريبة الأداء متنوعة الصور… .

بصعوبة بالغة نطق الأسير السابق كلماته الأخيرة. أخذ يرتج ويرتجّ.. وبدا أنه يبذل جهداً كبيراً في مقاومة موجة من بكاء. كز على أسنانه، وأغمض عينيه.. وجمع أصابع يده اليسرى إلى بعضها.. وضعها فوق شفتيه. وسكت.

كنت في تلك اللحظات أراقب وجوه الحاضرين. كانت مشاعرهم تنتقل من يمين إلى شمال، ومن شمال إلى يمين.. ترتفع حتى يغيب الشاهد عن المشهود، وتغوص حتى تكون في أشد حالات الحضور. ذهول على الوجوه.. دموع سكبت.. آهات حارة نفثت وتعليقات مؤلمة ارتجت لها الجدران. بعضهم انتقد الإعلام لماذا هو ساكت عن هذه الجرائم! وآخرون هاجموا شيوخ الدين لسكوتهم. ورأيت عدداً من كبار السن بكوا بكاءً مراً، منهم من غطى وجهه بغترته، ومنهم بيديه، وصاح أحدهم: “أويلي جمال يابا!”.

ورأيت أنه لا بد أن أتدخل فأمسك بزمام الأمر قبل أن ينفلت. تناولت لاقطة الصوت وسيطرت على الوضع ببعض كلمات أعدت بها الهدوء إلى ما كان، ختمتها ببضع آيات من الذكر الحكيم.

* *

بعد يومين كنت راجعاً إلى البيت فإذا طالب اللامي يضرب على غير هدى في أزقة الحي بعيداً عن داره. كانت علامات التوهان بادية على محياه. وقفت السيارة وسلمت عليه!

– ها أخي العزيز!

– من؟ شيخ ياسين! ساعة مباركة.

– ما الذي تفعل هنا؟                     

تردد كثيراً قبل أن يقول:

– لا أظنك تصدق يا شيخ!

وسكت متأسفاً.

– إن شاء الله خير؟

– منذ حوالي ساعة وأنا أتجول في الأزقة أبحث عن بيتنا ولا أجده. رأسي يا شيخ، ما زالت آثار الأسر تفعل فعلها فيه. تعتريني دوخة أنسى معها كل شيء، وتنمحي من صفحة ذاكرتي كل السطور الجديدة التي أحاول عبثاً تثبيتها هناك.

– الأمر يسير، أليس هو البيت الذي زرتك فيه قبل أيام؟

– نعم نعم.

وما هي إلا دقائق حتى كان، وجهاً لوجه، عند باب البيت!

* * *

اظهر المزيد

‫15 تعليقات

  1. رحم الله شهداءنا وفرج عن اسرانا ..
    شيء يمزق الروح ومأساة تبكي الصخر ..
    اللهم أنت حسبنا ونعم الوكيل

  2. مؤلمة .. مؤلمة حد الوجع الذي يبكي الروح..
    بارك الله في قلمك دكتور طه أجدت طرح المأساة التي غفل عنها الكثير من بني جلدتنا وفضحت خبث المحتل الفارسي الذي طالما اخفى خبثه تحت جلده الناعم

  3. الله أكبر .. اللهم جبرا لهذا الحزن الطويل لكل من مسه ضرر من جارة السوء ..
    سدد الله قلمك دكتور طه رواية نزداد كل يوم شوقا لقراءتها والنظر فيما خطته يمينك …
    بارك الله جهودك .. ونفع بعلمك

  4. حزن الأسير تحكيه هذه السطور بدقة ..
    ما أشد وجعك يا عراق .. ما أكبر مأساتك ..
    ليت بيننا وبين ايران جبل من نار .. ليت بيننا وبين إيران جبل من نار ..

  5. رحم الله من كان تحت رحمة من لا رحمة له واعان الذي لا يزال تحتها، حقدهم طغى على فطرتهم البشرية حتى تحولوا الى وحوش مفترسة بهيئة بشر كأنهم يأخذون ثأر التاريخ من هؤلاء الأبرياء، فما ذنبهم؟ لأنهم سُنة ومنهم من اسمه عمر أو معاوية؟ او لأنهم عرب وسُنة جدهم عمر ومعاوية (رضي الله عنهم) الذي مزق ملك كسرى ومزق كسرى ذاته.. متى يستفيق سنة العراق من غيبوبة العاطفة والتي ثمنها أرواح الأبرياء حتى يعقتوا الأجيال التي تأتي بعدهم من ظلم الشيعة أحفاد إيران لعنهم الله.
    مقال جميل دكتور سلمت يداك

  6. لا حول ولا قوة الا بالله ، اللهم رحمتك ، سلمت أناملك شيخي الحبيب وأستاذنا المجدد

  7. حينما طال التيه في هذه الامة ولايجدوم الحلول الجذرية المانع من هذا السرطان؟
    حل بنا ماحل من قتل وتشريد ونتهاك الأعراض،
    ومن يهن لله فماله من مكرم
    نسأل الله العظيم ان يهدينا لما يحب ويرظا

  8. رحم الله شهدائنا واسكنهم فسيح جناته لكل ذكرى مؤلمة لنا نجد إيران المجرمة وراءها تعددت المآسي والمجرم واحد

  9. لايوجد جرائم مثل جرائم هؤلاء الفرس المتمثل اليوم بدولة إيران الحقد الدفين للعرب يؤسس كل الانتهاكات التعذيب التي يتلذذ بها هؤلاء أعداء الإسلام والإنسانية
    متى نعرف عدونا الحقيقي ونجعل له موانع التي نحصن بها أنفسنا يرحمنا الله.

  10. لولاك شيخنا الفاضل لما كتبت هذه السطور الحزينة
    عن جرائم إيران لعينة وافعالها الوحشية باسرى العراق
    وكيف اذاقتهم انواع التعذيب بسبب حقدها ونارها المسعرة لأهل العراق وإلى يومنا هذا يدفع الضريبة سُنة العراق بسيطرة إيران وشيعتها وحتلالها للعراق
    رحم الله شهدائنا الأبرار وفك أسر العراق
    حفظك الله ورعاك شيخنا المجدد

  11. ما شاء الله دكتور طه رغم ألم الموضوع المطروح إلا أن هذا النص المقتبس من الرواية شوقنا كثيرا لقراءتها …
    بارك الله قلمك وسددك واعانك لتحقيق ما تصبو اليه من نصرة سنة العراق والمشرق العربي..

  12. شعرت بالغصه والحسره والقهر والكآبه وقلة الحيله فقط عند قرائتي للمقال . بكيت كثيراً في السابق لأسباب كثيره حالي حال البشر لكن هذه الدموع حارقه شعور بالألم لايوصف . ماذنب هؤلاء الاسرى غير انهم عرب مسلمين عراقيين. سمعت عن حقد الفرس وعقدهم النفسيه مراراً وتكراراً من شيخي الدكتور طه الدليمي لكن المقال هذا جعلني اعيش عذابهم كتب الله اجرهم وعوضهم جنات تجري من تحتها الانهار وشلّ اركان الفرس المجوس وشيعتهم وحمى المسلمين من شرهم وحقدهم اسأل الله العظيم رب العرش العظيم ان يرينا بهم عجائب قدرته وان يجعل بأسهم بينهم شديد وان يفعلوا اضعاف مافعلوا بالاسرى بكل كلابهم من المليشيات والعصائب والمعممين وماذلك على الله بعزيز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى