سياسةمقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

الأممية والأحزاب والمؤسسات العابرة للحدود

د.طه حامد الدليمي

الفرق بين المؤسسة الربانية والمنظمة الحزبية

يخلط البعض بين العمل المنظم وبين الحزب وما يعتريه من تحزب. ويتساءل: أليس التنظيم معناه تكويناً حزبياً؟ ونقول: إن السؤال بهذا الوضع خطأ. والصحيح أن نسأل: هل يمكن تحقيق الإنقاذ دون تنظيم؟

فإن كان الجواب بالإيجاب قلنا: ليتك أثبت لنا ذلك! كيف يمكن مواجهة عدو منظم على جميع الصعد بعمل لا نظام فيه؟! وإن كان الجواب بالنفي قلنا: العلة ليست في التنظيم؛ فليس كل تنظيم حزباً بالمعنى السائد، وإنما العلة في الحزبية والتحزب. فتعال معي نتعرف على ماهية التحزب.

إنه التعصب بالباطل للفئة المنتمى إليها. وهذا له وجوده في الجهات غير المنظمة أيضاً. فالتحزب شائع بين العشائر بعضها ضد بعض. وفي الأوساط الدينية بمختلف توجهاتها. وبين أتباع المذاهب الفقهية، وعند طلاب شيخ تجاه طلاب شيخ آخر. فما الحل؟ هل بإلغاء تلك الجهات؟ أم بعلاج التعصب والتحزب؟ إن التحزب يمكن أن تلمسه داخل المؤسسة الواحدة، وعلاجه أو إزالته يكون باتباع الطرق السليمة، وليس بإزالة المؤسسة نفسها.

الأممية والأحزاب والمؤسسات العابرة للحدود

من مشاكل الأحزاب والحزبية، التي حرصنا على أن لا ننزلق إليها هي الأممية. والمقصود بالأممية: تكوين سياسي يتركب من ثلاثة عناصر: شعور بالانتماء إلى أمة ما، ينبثق عنه فكر، ينعكس على الواقع نشاطاً منظماً يتجاوز الوضع القطري دون النظر إلى خصوصية كل قطر على حدة.

تتحول الأممية إلى مشكلة وخطر على الجميع: أصحابها وغيرهم، حين تعبر الحدود القطرية للبلد، لا كفكرة فحسب، وإنما كتنظيم أيضاً؛ على اعتبار أننا كعرب أو مسلمين أمة واحدة. ويغيب عن البال أننا – في الواقع – أقطار منفصلة عن بعضها. لكل قطر منها خصوصيته السياسية والأمنية والقانونية والاجتماعية والثقافية. ولم نعد كما كنا من قبل في بعض الفترات التاريخية أمة لها كيان سياسي واحد.

الأممية في زمن القطرية.. هي أسوأ ما أفرزته الأحزاب في الشرق منذ مئة عام. تتمثل الأممية – أكثر ما تتمثل – في الأحزاب القومية والإسلامية. وقد تكون نشاطاً وطنياً لا يراعي خصوصيات كل مكون داخل القطر. أما أسوأ أشكال الأممية فأممية (ولاية الفقيه).

لا بأس أن يحلم المرء بوجود أمة جامعة. لكن الحلم شيء والواقع شيء. فأن تعيش الأممية إيماناً وشعوراً وحلماً جميلاً، هذا من حقك. أما عندما تتصرف فعليك أن تستيقظ وتهبط من فضاء الحلم إلى أرض الواقع. وإلا فمن أراد أن يعيش حلمه واقعاً أمسى الواقع الراهن الذي يرفضه اليوم بعد حين حلماً يتمناه ولا يلقاه. والقائد حالم لا بأس، ولكن رأسه في السماء وقدماه على الأرض. والقاعدة تقول: (فكّر عالمياً، لكن تصرف محلياً).

الأممية القطرية

ثمت قسم آخر من أقسام الأممية هو الأممية القطرية. وذلك حين يضم قطر ما عدة مكونات: قومية أو دينية وما شابه ذلك، ليس من اليسير التلاقي أو الاندماج بين مكوناتها دون مراعاة هذا التباين لبناء وضع سياسي يناسب ذلك. والعراق مثال.

حين تتحول الأممية إلى كارثة

 يجد الفكر الأممي نفسه ملزماً بما تفرضه الأممية عليه من واجبات، ومنها نقل (تجربته التنظيمية) بمختلف مستوياتها، حزباً كانت أم دولة، إلى خارج نطاق القطر الذي نشأت فيه، دون أن ينتبه إلى ضرورة مراعاة لوازم متغيرات الواقع الحادثة. وهذا أمر شرعي أصولي؛ فالحكم الشرعي يتغير زماناً ومكاناً وأعياناً.

في ظل هذا التناشز الحاد بين الفكر والواقع يواجه الفكر الأممي مشكلتين كبيرتين:

1. اصطدام التكوينات الحزبية بالوضع السياسي للقطر الآخر.

2. تعميم (تجربته الفكرية) بكل ما فيها دون الانتباه إلى الفروق الموجودة بين بلد وآخر، التي تقتضي تحويراً في الفكر أو تقديم فكرة وتأخير أخرى تبعاً للتحديات الخاصة. وهو ما نسميه بـ(بلدنة الفكرة أو الثقافة).

أممية الفكرة وقطرية المؤسسة

تتكون المؤسسة من عنصرين: الفكرة والتكوين المنظم الذي ينبني عليها.

ليست المشكلة في الفكرة ما لم تتحول إلى مؤسسة أو حزب منظم يتجاوز الحدود دون اعتبار للأوضاع الخاصة بالقطر الآخر.

نحن نؤمن بأممية الفكرة، ونرفض أممية الحزب أو المؤسسة. الفكرة بطبعها عابرة للحدود ولا ضرر منها ما دامت تتحرك في نطاق شروط ثلاثة:

– تلبية حاجة القطر أياً كان.

– تكييفها عند التطبيق بما يتوافق والوضع القانوني للبلد.

– أن يكون العمل بها تحت عين الشمس، وليس في الدهاليز الخفية.

خذ مثالاً على ذلك: الفكرة السنية، في مواجهة الفكر الشيعي المتخادم مع إيران. كل الأقطار – وأولها أقطار المشرق العربي – في حاجة إليها. لذا نحن ندعو إليها جميع المتضررين بالفكر الشيعي. أما التكييف التطبيقي فمن شأن كل قطر حسب ما يتناسب ووضعه السياسي والقانوني والاجتماعي.

إن وعينا بهذه الجوانب الدقيقة هو الذي جعلنا نطلق على مؤسستنا اسم (التيار السني في العراق). فهي كفكرة عابرة للحدود، لكن كمؤسسة هي خاصة بنا نحن السنة العرب في العراق. داعين كل متضرر من المشروع الإيراني أن تكون له مؤسسته الخاصة به ضمن الشروط التي سبق ذكرها. وهذه إحدى آليات تجاوز الحزبية في مشروعنا. علماً أن كل حزب مؤسسة منظمة وليس كل مؤسسة منظمة حزباً. فالمدرسة مؤسسة، والمستشفى والمصرف والصيرفة، كلها مؤسسات منظمة لكنها ليست أحزاباً.

انظروا إلى جناية الأحزاب القومية عندما رأت – بحكم الأممية – أن لها الحق في تجاوز حدودها القطرية ونقل تجربتها التنظيمية خارج تلك الحدود. غزو جمال عبد الناصر لليمن مثال، كذلك غزو صدام حسين للكويت. وانظروا إلى جناية الأحزاب الإسلامية على نفسها وغيرها للسبب نفسه. الفوضى التي تضرب المنطقة من ليبيا إلى اليمن على يد الإسلاميين مثال لا تخطئه العين.

تحوطات الانزلاق نحو الحزبية

إضافة إلى هذا الوعي الذي يضع الحد الفاصل بين العمل المنظم والعمل الحزبي، وضعنا ثلاثة أسيجة تحيط بالمؤسسة تحول بينها وبين الحزبية:

الأول: السياج الذاتي الذي يقوم على الشمولية في المفاهيم والعمل. فهي مؤسسة تقوم أولاً على المفهوم المدني بكل ما فيه من شمولية في العقيدة والفكر والإيمان والعمل. والأنشطة المتنوعة: دينية ومسجدية وشبابية وحقوقية وتعليمية ونسوية ورياضية وأدبية وخيرية وغيرها من المناشط التي لا تقتصر على العمل السياسي الذي هو أساس الحزبية.

الثاني: لا يتم الانتقال إلى أي خطوة لاحقة قبل اكتمال بناء الجسم المدني.

الثالث: القيادة العليا هي لمؤسسة الرأس القائد في الجسم المدني. والقوة المهيمنة تتركز بيدها. أما القيادات السياسية والعسكرية مهما علا منصبها فهي قيادات تنفيذية تابعية. بهذا نكون ارتقينا بفكرنا إلى مستوى دولة المؤسسات، لا دولة الحزب القائد. وإلى مستوى الأمة بعد الدولة.

اظهر المزيد

‫10 تعليقات

  1. تنظيم العمل شرط من شروط النجاح والفكرة مالم تكن ضمن عمل منظم سوف تموت،اما الحزبية فقد تكون سبب من اسباب موت الأفكار لاختصار الفكرة على فئة معينة ،دلا تنسجم مع فئة أخرى .

  2. جزاك الله خير دكتور على هذه الاضاءات.
    لا يمكن لعمل ان يصل ويبلغ مبلغه من دون تنظيم وتقسيم وترتيب وخطة وعمل حتى تبلغ غايات واهداف! وهذا ليس شرطاً ان يكون التنظيم حزباً سياسياً،، اما العمل الفردي والعشوائي لن يأتي بنتيجة طموحة ومرضية مالم تتوحد الجهود وتكون تياراً موجهاً منظماً.
    والله الميسر والمعين

  3. نعم نحتاج الي عمل منظم لا احزاب لان الحزب يجعل المنتمي اليه يذوب به حتى انه لا يرى اخطاءه ويكون عاجز عن نقده ويكون انتماء الفرد للحزب علي صالح المصلحه العامه.. مثال حركة حماس اوصلت غزة لحال انها مسحت وترى جماعة حماس يعتبرن بقاء الحزب فوق مصلحة غزة حتي لو تم ابادتها المهم ان تبقي الحركة.

  4. جزاك الله خير الجزاء على هذه المفاهم اكيد دكتورنا الكريم لايمكن لشخص يعمل عمل من دون نظام ونقصد بلنظام فكره ثم خطه وخارطة ترسم ثم مؤسسة وهذا يحتاج لعمل جماعي حتى يكون مشروع ناجح ومن الله التوفيق

  5. بارك الله فيك وفي جهودك القيمة دكتور د، ففكرك يوماً بعد يوم يثبت أنه الفكر الصحيح وأن المشروع السني هو مشروع الإنقاذ الذي بدونه سيبقى أهل السنة يدورون في حلقة مفرغة.

  6. ننتظر اليوم الذي نرى به افكارك القيّمه على الارض والله لو عرفوا قدرك لكنا الآن ننافس الامم علما وحضارةً كما كنا في القرون الاولى حفظك الله شيخي وبارك بك وامدك بالصحه والعافيه .

  7. دائما نجد نجاح المؤسسة المدنية بكل مجالاتها
    لأنها تسير وفق منهج صحيح خالي من التعصب والعنصرية، وهذا أحد اسباب نجاح مؤسسة التيار السُني في العراق ومن الله التوفيق
    بوركتم واحسنتم

  8. جزاك الله خير دكتورنا الفاضل.

    المؤسسة المدنية (الربانية) هي من أفضل المؤسسات لكونها تعمل ضمن أفكار حره . إما المؤسسات الحزبية لا يمكن العمل بيها ضمن حريه لانها مقيد بمقاليد الحزب .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى