مقالاتمقالات أخرى

الصراع العثماني الصفوي على العراق تجاري أم ديني

أ. ابراهيم بالحمر

لم يكن توسع العثمانيين في العراق واحتلالهم له من سطوة المحتل الصفوي الآخر ذو هدف ديني يتمثل في استعادته من يد الشيعة إلى يد السنة كما يروج قطاع عريض من أنصار العثمانيين الجدد، بل كان وراء الأمر صراع ظاهر متمثل في السيطرة الدولية على طرق التجارية العالمية البحرية والبرية ومراكزهما  لصالح قوتين جديدتين ظهرتا في الشرق الأوسط وهما العثمانيون والصفويون وزاحمتهما  قوة خارجية تتواجد لأول مرة في المنطقة وهي البرتغال .

ولم تظهر هذه الدعاية عن العثمانيين “السنة” المحررين للعراق من يد الشيعة إلا مع ظهور موجة العثمانيين الجدد ورغبات متعددة تمثلها تيارات الجماعات الإسلامية لتبرير التدخلات الخارجية لتركيا في العراق في سبيل إظهارها بمظهر المخلص من سطوة إيران عليه وقد قيل التاريخ يعيد نفسه , وإلا لو عدنا بالزمن للوراء فالعراقيون لم يسموا العثمانيين إلا محتلين لهم وساووهم في احتلالهم بالاحتلال المغولي للعراق , إذ لم يخطئ المؤرخ العراقي الكبير عباس العزاوي في تسمية موسوعته عن تاريخ العراق باسم “العراق بين احتلالين” , فمنذ خروج العباسيين من العراق على يد هولاكو يتفق كافة المؤرخين على وقوع العراق تحت سلطة احتلال مباشرة , لكننا إن رجعنا بالزمن سنجد العراق وقع تحت سلطة احتلال آخر زمن فوضى الأمراء الأتراك ثم حكم الدولة البويهية ثم حكم الدولة السلجوقية مع بقاء خيال الخليفة العباسي في بغداد . ولا يعنينا كثيرا من هذا الأمر حيثيات تلك الحقب السابقة لسقوط بغداد فهي مما لا يسع مقال لبسطه.

وإن عدنا لما ذكرنا سابقا حول تسمية العزاوي لموسوعته باسم ” العراق بين احتلالين ” وقصد المؤلف بالاحتلالين هما الاحتلال المغولي والاحتلال العثماني، فالصفويون لم يملكوا العراق لقرون ومن ملكه لقرون هم العثمانيون.

وإن كان معظم المؤرخين خاصة في زماننا يسوّقون ما فعله العثمانيون بأنه تحرير للعراق  من يد الصفويين الشيعة وإعادته لأهل السنة فالبويهيون مثلا لم يكونوا إلا سلطة شيعية حكمت العراق باسم الخليفة , بل حتى الإيلخانيين المغول  كانوا شيعة وقد حكموا العراق , ولا تتعجب أن الخرفان السود قبيلة القره قوينلو التركمانية الذين حكموا العراق سماهم المعاصرين لهم بأنهم شيعة غلاة رغم عدم تظاهرهم بمظاهر التشيع , أما اتحاد قبائل الآق قوينلو التركمانية رغم انهم كانوا سنة لكن خرجت منهم اعداد من التنظيمات الصوفية ” الأخويات ” للانضمام للصوفي الاردبيلي الذي عرف لاحقا بـ “الصفوي” .[1]

وإن جئنا لمرحلة الصراع الصفوي العثماني فنجد أنها تزامنت مع حدث مفصلي تاريخي لم يعرف من قبل , هذا الحدث كان أول خطوة استعمار حقيقية غربية على موارد التجارة الشرقية التي احتكرها الشرق الأوسط والخطوط التجارية البرية والبحرية المرتبطة بها وتم ذلك على يد البرتغاليين وطموحاتهم التوسعية حين سيطروا على مصادر التجارة في الهند واسقطوا الإمارات الإسلامية هناك تباعا ثم تمركزهم في مضيق هرمز وبناء قلعة هرمز في الخليج العربي وبدء طرقهم لسواحل عدن وباب المندب لقطع الممر الثاني المتمثل بالبحر الأحمر , فتلك التحركات البرتغالية هي التي كانت أهم عامل في سقوط دولة المماليك اقتصاديا بعد تحول طريق التجارة الشرقي من البحر الأحمر لرأس الرجاء الصالح .

وهكذا ستجد أن العالم الإسلامي بقيت فيه ثلاث قوى إحداها قوة عجوز تمثلت في دولة المماليك وقوة شابة تمثلت في العثمانيين وقوة مولودة تمثلت في الصفويين , فما كان من العثمانيين إلا تسديد الضربة القاضية للمماليك عبر احتلالهم لبلاد الشام ومصر ودخول الحجاز في طاعتهم وبالتالي سيطرتهم على الممر التجاري المتمثل بالبحر الأحمر , ليتبقى للعثمانيين الممر التاريخي الآخر لتجارة المشرق نحو الغرب وهو ممر الخليج العربي فضلا عن الممرات التجارية البرية المعروفة لطرق الحرير وهذا ما استلزم مع عوامل أخرى وقوف العثمانيين في وجه الصفويين زمن سليم الأول والتي كان أهمها عامل قدرة الشاه الصفوي ودعاته من قبائل التركمان في بث الدعوة الصفوية في القبائل التركمانية المتواجدة في الأناضول لاستقطابهم للجانب الصفوي , وهو ما نجح فيه الصفويون نجاحا كبيرا حتى أنهم استطاعوا اختراق بعض رجالات السراي العثماني , ما دفع سليم الأول لوضع حد للأمور وإيقاف الصفويين عن التوغل أكثر في الأناضول أو استقطاب القبائل التركمانية

فالعثمانيون خسروا بالاستيلاء الصفوي على مناطق كانت تدر لهم الربح، فمعظم مناطق طريق الحرير كانت في الأراضي الصفوية والصفويون خسروا بالتواجد البرتغالي في الخليج وكانت هذه الأحداث من الأسباب الرئيسية لنشوب الصراعات العثمانية الصفوية فاستولى العثمانيون على الشام ومصر والحجاز من المماليك واستولوا على السودان والحبشة ( أريتريا ) واليمن فوسعوا دائرة استفادتهم من الطرق الدولية ومداخيلها ليبدأ الفصل الآخر من المواجهة والذي يتمثل فيمن يسيطر على العراق وممراته التجارية البرية والبحرية  .

ولو تتبعنا تاريخ الدولتين في توسعهما قبل صراعاتهما سنجدها أساسا تمثلت في السيطرة على حواضر طرق التجارة الدولية كالتالي

خط توسع الدولة العثمانية :

1 – في أول القرن الـ 13 الميلادي كان العثمانيون قبيلة صغيرة قرب بلخ فرت من البطش المغولي نحو الأناضول حازت على منطقة قراجه طاغ من السلطان السلجوقي علاء كيقباد.

2 – استولت هذه القبيلة على قره حصار (افيون ) وصار زعيمها عثمان بن أرطغرل بك ( أمير ) من قبل السلطان السلجوقي

3 – بعد موت علاء الدين كيقباد سنة 1308 انفرط عقد دولة سلاجقة الروم وتطور العثمانيون شيئا فشيئا حتى عهد أورخان غازي 1326 – 1360 الذي استولى على بورصة أحد أهم محطات طريق الحرير والمشهورة بإنتاج الحرير ونسجه وتسويقه

4 – في عهد مراد الأول 1360 – 1389 تم ضم أدرنة ذات الموقع الاستراتيجي مع التجار والتجارة الأوروبية ثم قام السلطان مراد الأول بضم سالونيك الشهيرة بسلعها ومنسوجاتها

5 – نقطة الانعطاف العثمانية كانت في استيلاء محمد الثاني “الفاتح” على القسطنطينية ثم استيلاؤه على مملكة طرابزون على البحر الأسود والتمدد العثماني الكبير في البلقان فطرابزون التي كانت من أهم مداخل آسيا الوسطى والقوقاز وروسيا ثم توّجوه بالاستيلاء على البغدان = مولدافيا على البحر الأسود زمن بايزيد الثاني.

6 – حتى هذا الوقت امتلك العثمانيون 4 مراكز تجارية فقط ( اسطنبول , أدرنة , سالونيك , بورصة ) وبهذا لم تكن الإيرادات كافية.

7 – انطلق العثمانيون زمن سليم الأول نحو المنطقة العربية فاستولوا على تبريز وديار بكر وماردين والموصل وسنجار وآمد والعمادية وجزيرة ابن عمر. فديار بكر نقطة على نهر دجلة صالحة للملاحة النهرية نحو الموصل وبغداد، ثم انتقل العثمانيون لبلاد الشام ومصر وغرب الجزيرة العربية وبهذا صاروا يسيطرون سيطرة شبه تامة على طريق الحرير ممثلا بمحوري:

الأول: الطريق الذي يربط تبريز بحلب

الثاني: الطريق الذي يربط تبريز ببورصة

أما خط توسع الدولة الصفوية:

1 – بدأ الصفويون من عهد صفي الدين الاردبيلي 1253 – 1334 في زاويته في اردبيل حين استطاع ان يحل قضية تحاكم بين أسرتين من كرمان فصارت تهب لزاويته مبلغا سنويا من المال فزادت ميزانيته حتى صار يذبح كل يوم 1000 رأس من الاغنام لمريديه.

2 – في عهد الحفيد علاء الدين 1392 – 1428 قام تيمورلنك باقطاعه اردبيل وقراها وقصباتها وكافة الاراضي المتعلقة بها وبعض الاراضي في اذربيجان وعراق العجم وجعلها وقفا لميزانيتهم.

3 – في عهد جنيد ابراهيم 1447 – 1460 حفيد علاء الدين تلقب بالسلطان وقام بدعوة القبائل التركمانية في الاناضول والتي كانت معادية للعثمانيين بسبب سياسات محمد الثاني “الفاتح” توجه بعدها إلى أوزون حسن سلطان القره قوينلو في العراق 1438 – 1467 وتزوج اخته نظرا للعداء بين العثمانيين والقره قوينلو وانطلق بعدما نظم مريديه نحو شيروان سنة 1460 للاستيلاء عليها لكنه قتل في تلك المحاولة.

 وقصده لشيروان لأنها المنطقة الوحيدة التي يستطيع ان يهجم عليها لأن باقي المناطق كانت تابعة لصهره قره قوينلو او يهاجم العثمانيين او المماليك وهو ما لا يقدر عليه وخلَفَهُ ابنه سلطان حيدر والذي قتل ايضا في هجوم على شيروان.

4 – قام الزعماء التركمان بتنصيب الشاه إسماعيل سنة 1501 وعمره 12 وقيل 14 سنة في زاوية أجداده وهجموا مجددا على شيروان واستولوا عليها واعلنوا الحرب ضد الاق قوينلو لمساعدتهم حاكم شيروان وهزموهم فاستولى الصفويون على تبريز وبالاستيلاء على تبريز وضعت الدولة الصفوية يدها على أول وأهم النقاط الاستراتيجية في طريق الحرير.

5- استولى الصفويون على همدان سنة 1503 فدخل إقليم فارس لحكمهم ثم في 1504 كرمان وعراق العجم ومازندران.

6- اجتاحوا بعدها ديار بكر فكسبوا محور ( تبريز – ديار بكر )

7 – توجه الصفويون بعدها للعراق وعيونهم على عوامل فيه منها:

  • الاستيلاء على ( الموصل – بغداد – البصرة ) ومنها تسيير  التجارة النهرية جنوبا –
  • استخدام البصرة كمحطة في الخليج العربي وكذلك ربط ايران بالشام عبر العراق ( طريق بغداد – حلب ) وفي 1507 تم الاستيلاء على بغداد ثم الحويزة في الأحواز لاحقا.

8 – في 1510 انتصر الشاه اسماعيل شرقا على محمد شيبك خان الاوزبكي في مرو بخراسان وبذلك صار بيده كافة مدن طريق الحرير من مرو وحتى ديار بكر.

هذه باختصار الأسباب الرئيسية للتحركات العثمانية وهم في عنفوان قوتهم للسيطرة على ممرات التجارة البرية ومراكزها على طريق الحرير وكذلك السيطرة على أحد مراكز التجارة في الخليج العربي وهو مدينة البصرة، ولم يكن لعامل الدين أي محرك في نفوسهم سوى حشد الأتباع والظهور في مظهر المقاوم والمنافح عن أهل السنة والجماعة.

ويبقى السؤال المفتوح هل نجح العثمانيون بعد احتلالهم للعراق في الارتقاء به على مدار 385 سنة؟

وللحديث بقية..

المصادر

  • العراق بين احتلالين عباس العزاوي
  • الشيعة في لبنان تحت الحكم العثماني ستيفان ونتر
  • تاريخ العلاقات العثمانية الإيرانية عباس إسماعيل صباغ

[1] الشيعة في لبنان تحت الحكم العثماني , ستيفان وينتر , ص33 – 34

اظهر المزيد

‫14 تعليقات

  1. العراق ابتلي بجارتين كلاهما تحمل ضغينة شعوبية تجاه العرب فالاتراك لا يختلفون كثيرا في شعوبيتهم عن الفرس..
    وقد احسن الكاتب حقيقة في تتبع مصالح القوميتين في احتلال العراق والسيطرة عليه..

  2. الذي يغيظ العاقل هو تصفيق السذج للوجود العثماني في دول العرب ولو عاشوا في ذلك العهد لـرددوا كل الشتائم في هؤلاء المحتلين الذين عاشت المنطقة العربية في عهدهم في جهل وفقر

    سددكم الله وبارك فيكم عل هذا التوضيح

  3. هذا مقال قيم ومفيد … لا بد من التطرق للاحتلال والتجهيل العثماني للعراق .. اجدادنا لا يذكرون وجودهم بخير وقد عانوا كثيرا في عهد الولاة العثمانيين عل بغداد

  4. احسن الله اليك أخي الكاتب فقد احسنت اختيار العنوان الذي أجد أنه لخص الفكرة الرئيسة للمقال وكان المقال لائقا بالعنوان فشكرا وشكرا على هذا البيان

  5. كان الصراع بينهما ولايزال صراع مصالح وكلاهما بعيدان عن الدين فلا يختلف التصوف القبوري عن التشيع القبوري كثيرا كان الله بعون العراق وأهله وخلصه ممن اراد به سوءاً واعاده الى امجاد القادسيه حيث عزة الاسلام والتوحيد الصافي .

  6. جزاك الله خيرا ع هذا المقال الذي يطابق الواقع الذي نعيشه اليوم الفرس المجوس احتلو العراق احتلال فكرياً ثم كونوا جمهور يدعمهم في العده والعدد أصبح العراق الشيعي الفارسي ركيزة أساسية عنده الفرس للانطلاق منها إلى الدول العربية والإسلامية مثل لبنان
    و سوريا و الأحواز المنسية و اليمن الى …إلخ
    وكمل قال النبي محمد( ما حن أعجمي على عربي قط)
    العثمانيون فعلوا ما فعلوا في العراق من الظلم والاضطهادو.. …الخ

  7. جزاك الله خيرا اخي الكاتب
    كلاهما عدو
    وكل واحد فيهم جاء لتحقيق مصلحته
    والضحية والخاسر الأول والأخير هو العراق

  8. كل احتلال حاسد يود اهلاك بلد اول شيئ يفعله ضرب التعليم حتى يركب المجتمع كيف يشاء؟

    اذا ذهب او تعطل العقل ولم يبق إلا القلب يصبح الانسان محكوم وليس حاكم…….
    العثمانيون ارجعونا إلى زمن ياجوج وﻤاجوج

  9. جزاك الله خير الجزاء على هذه المقالة المثالية والمفاهيم التي اصغتها اكيد ان الاحتلال العثماني احتلال تجاري وليس لغرض الدين بل اثرُ على الثقافة في العراق لغرض الاستفادة لأنفسهم بل حتى منعُ الدراسات والثقافات وجعلُ مجتمع جاهل في زمنهم

  10. لم يرتقي العراق بحكم العثمانيون
    لأنهم يحملون عنصرية قاتلة ضد
    العرب وحان دور المفكرين والباحثين في
    فضحهم وكشف مؤامرتهم والتي اخفيت
    وخدعنا بهم بعد تلميع تاريخهم المزيف
    شكرا استاذ ابراهيم لهذه البحوث التاريخية

  11. جزاك الله خير.

    العثمانيين لم يزيدوا العراق إلا خراب وتدهور نظامة التعليمي .
    وهم السبب الثاني بعد الفرس بتملك العراقيين بعض العقد .

  12. الاحتلال الأعجمي بكل اصنافه لم يبني الدولة التي يحتلها بل يجعلها تبعاً له يستهلك مواردها وخيراتها وثقافتها وكل شيءً فيها
    الدولة التي لاتبني نفسها بنفسها تكون عبيد لغيرها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى