سياسةمقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

الفدرالية .. فكرة في واقع يفرض نفسه

د.طه حامد الدليمي

أحياناً.. يكون علم الإنسان ناتجاً عن تعلم يحصل له دون قصد منه ترميه به الأحداث المقلقة والدواهي الملجئة، وهو يقلب وجهه في السماء يبحث عن حل عسى أن يراه في زاوية من زوايا الأفق. وأعترف أن هذا هو ما حصل معي فيما يخص (الفدرالية). وكان تحولي من النقيض إلى النقيض متدرجاً.

قبل أكثر من خمسة عشر عاما (وتحديداً في 3/2/2008) كتبت لأحد السائلين من زوار الموقع ما يلي: (نحن في العراق نمر بمرحلة تشبه في بعض جوانبها المرحلة التي مر بها أهل فلسطين عند قيام دولة إسرائيل. لم تكن الحلول التي اتبعت واقعية، بل كانت عاطفية حماسية. وهكذا ضاعت فلسطين).

ثم بعد شرح وتفصيل قلت: (تأسيساً على ما سبق ذكره أُرجحُ أن العراق سيكون دولة فدرالية إلى أن تتغير الظروف القاهرة، وربما عندها سيتقوى أهل السنة ويعيدون توحيده من جديد. فالحقيقة تقول: العراق لن يتوحد الا باهل السنة. ولن يتمكن اهل السنة من توحيده الا عندما يكونون أقوياء).

وفي نهاية الرسالة كتبت: (ونحن وإن لم نكن مع الفدرالية، ونعلم أن الفدرالية خطوة باتجاه التقسيم، الذي يريده الشيعة والكرد، فإن لم يتمكنوا منه لجأوا الى الفدرالية، أقول: نحن مع كل هذا نرى أن الحل إما بامتلاك القوة لحكم العراق وتوحيده، وإما أن نقبل الفدرالية كخيار مرحلي من باب أكل الميتة للمضطر، ريثما نمتلك القوة. فنستطيع خلال هذه المرحلة التحرك في مناطقنا بأمان، وتقويتها وإعداد العدة لليوم الموعود. والا فقادتنا لا يعول عليهم. وإن بقوا وبقينا على هذا المنوال فسيفرطون بالعراق تحت لافتات حماسياتهم الفارغة، وينتهون به الى التقسيم. لا سمح الله. ولله الأمر من قبل ومن بعد. والسلام)([1]).

في يناير/2011 كتبت مقالاً بعنوان (انفصال جنوب السودان بعيداً عن الحماس والفكر القديم)، أرى من المناسب استعادة بعض ما جاء فيه:

(أذكر أنه في أواخر سنة 2005 وافقت حكومة السودان على منح حق تقرير المصير بالنسبة لإقليم الجنوب، تلك الدِّمَّلة المتكررة الانفجار في جنب ذلك القطر الشقيق، الذي يمتلك أكبر مساحة جغرافية من بين الدول العربية على الإطلاق. يومها لم أكد أصدق ما رأيت على شاشات الفضاء! وقلت مباشرة ومن دون تأمل: سينفصل الجنوب لا محالة.

أظنني اليوم أمتلك بعض الرؤية لإدراك شيء مما جرى ويجري، يمكنني بها أن أتفهم موقف الحكومة السودانية في اتخاذ هذا القرار الجريء، كما أُسميه اليوم، بينما اعتبرته في ذلك الوقت قراراً غير مفهوم، وربما اعتبرت الحكومة بسببه تريد التناغم مع المشروع الأمريكي التقسيمي. أقول “التناغم” تخفيفاً للهجة التي كانت تحكم ثقافتي تلك الأيام، وقد كانت حينها في منتصف طريق الانسلاخ من أوضار الماضي، الذي تشيع فيه مصطلحات “العمالة” و “التخوين” و “المؤامرة”.

كانت صدمات الاحتلال شديدة، بما ترافق معها من مواقف كشفت المستور القديم وأظهرت عواره، تحرك لها وسط الثقافة الراكد بمفاهيمه ومصطلحاته. ولكنني كنت في حاجة إلى صدمات أشد، ومدة أطول لأواصل الانسلاخ والتغير.. والتكيف أيضاً. ولكي أملأ الفراغات والتجاويف الحاصلة ببديل أجتهد أن يكون أفضل…

كعراقي يمكنني أن أسجل بعض الملاحظات على حادث انفصال جنوب السودان:

  1. الدول في شكلها الحالي لم تكن على ما هي عليه الآن قبل مئة عام مثلاً. وما آلت إليه هو نتيجة تراكمات وتفاعلات سياسية واجتماعية وعسكرية، وقرارات دول ذات نفوذ وتحكم في شؤون السياسة والقوى العالمية. وليست خرائطها المرسومة نازلة من السماء. وإنما رسمت في الأرض، على الأرض، وللأرض.
  2. تتكون الدول عادة من شعوب مختلفة في أعراقها وأديانها ومذاهبها ومشاربها. والذي يجمع بين هذا الخليط، غير المتجانس – أحياناً – إلى حد بعيد، هو (عقد وطني) يفترض أن يكون قد تواضع عليه الجميع بمحض اختيارهم.
  3. العقد الوطني كأي عقد (عقد الزواج والبيع والإيجار… وغيرها من العقود) لا يقوم على الإكراه، وإنما على التراضي بين الأطراف المتعاقدة. ومن دون هذا الشرط يمسي العقد لاغياً، وإن كان مطلوباً ومرغوباً من طرف واحد. فالشعوب لا تتآخى بالإكراه، والدول لا تستقر بشعوب جمعت دون أساس صالح للاجتماع. كما أنه لا ينبغي النظر إلى مصلحة فئة دون فئة أو على حساب فئة، أو النظر إلى مصلحة البلد ووحدته وقوته ككل غير مجزأ، مع انسحاق فئة من المجتمع ثمناً لوجود الكل. لا بد من توازن يحفظ الحقوق. وإلا فالواجب الانتباه إلى صوت تلك الفئة والاستماع إليه بموضوعية، بعيداً عن تنظيرات (المصلحة العليا)، ونظريات (المؤامرة).
  4. النظر إلى الأحداث من زاوية المنظار العام الذي يذوب المشكلة الخاصة في مشكلة (الأمة)، والأُمة لا وجود لها خارج نطاق الذهن، غير مقبول ولا منصف. لا يصح أن يسحق موجود خاص من أجل مفقود عام. وليس من العدل ولا الواجب أن تلغى المصالح الخاصة لأجل المصالح العامة – حتى الموجودة منها – دون أدنى اعتبار يوازن المعادلة ويلطف الحكم العام لصالح الخاص، وأن يدفع الخاص الثمن لأجل عام هو أشبه بالوهم أو الحلم.

هكذا كان، حتى صرت الآن أقول: أنا مع (الفدرالية) لا كخيار سياسي مرحلي، ولا حكم شرعي اضطراري، بل أنا معها حلاً واقعياً ونظاماً متطوراً، كان علينا أن ننتبه إليه، ونتبناه منذ سنة 1921. إن هذا الحل الواقعي والنظام المتطور اتبعته دولة الإسلام في سابق تاريخها؛ كحل مناسب جداً لحكم أو إدارة دولة كبيرة ذات شعوب مختلفة الثقافات واللغات.


[1]– مقالة (رؤية فدرالية) المنشورة على موقع القادسية في 16/1/2011.

اظهر المزيد

‫7 تعليقات

  1. لفتت انتباهي تلك الجمله كثيرا يال روعتها (لايصح أن يسحق موجود خاص من أجل مفقود عام)
    إذاً شيخي علينا ان ننطلق ضمن المحال اي الموجود ومنه نسير خطوه خطوه الى ان يأذن الله سبحانه ويأتي الوقت المناسب لتعميم التجربه الخاصه بعد العمل على نجاحها اذ ان فقه الواااااقع الذي غفل عنه الكثير من العلماء يحتم علينا ان نرضى بما لايرضينا وهذا بالضبط الذي غفل او تغافل عنه الاخوه في فلسطين بدل ان يكسبوا كل ارضهم على مراحل خسروا مااكان تحت قبضتهم تدريجياً ونفس الشئ حدث معنا في العراق عندما قدمت لهم المشروع المتكامل (الاقليم) حين كان الشيعه يحلمون ان سُنة العراق يوافقون على الانفصال بأقليم فأتهموك انك تريد تقسيم العراق للأسف لم يفهموا ولازالوا ومايحزنني ويحز في قلبي كثيرا انهم قبل اقل من شهر فرحون يتداولون فتوى لعبد الملك السعدي تحلل لهم ان ينفصلوا بأقليم يحفظ كرامتهم ودينهم . لماذا يصرون على ان يصلوا بعد نهاية السباق لماذا علينا ان نغرق بدمائنا وان نُذل على ارضنا وان يُسرق منّا ديننا ووجودنا لماذا ونحن الاعلون !
    للأسف لان من يتصدر صفوفنا رغماً عنا أبى إلا ان يسير فوق الجثث والاعراض كي ينتبه انه نسي الحوت منذ سقوط بغداد وان العوده ستكلفه الكثير . ليته فهم رسالة ذلك العبد الصالح..

  2. الفدرالية دائما تكون الحل المناسب
    لكل بلد فيه خصومات مستمرة ولها
    آثار سلبية لمكوناتها الداخلية
    بوركت جهودك شيخنا الجليل

  3. لماذا نختار الفدرالية أو الإقليم لأننا نعيش
    مع عدو معبا بالعقد الفارسية التي تربا عليها
    في حوزة النجف وقم يرفض كل المعايير الإنسانية والأخلاقية والدينية والاجتماعية والثقافية التي اثنا عليها القرآن الكريم يرفض العيش مع الآخرين فكيف مع السني الذي يعتبره العدو الأول وهذه التجربه مرت علينا منذ سقوط بغداد وألى الآن

  4. فعلا القائد هو الذي يستشرف المستقبل وهو الذي يقدم من المستقبل ليأخذ رعيته اليه
    من روائع الدكتور الدليمي

  5. بارك الله فيك شيخنا.
    الفيدرالية هي القضاء على كل متطرف يريد أن ينتقم من الطرف الآخر ونحن أهل السُنة كنا ضحية للشيعة لاننا لم نتحصا ‏عبر ‏منطق الهوية ولا عبر أمر سياسي والفيدرالية هي الان حل الوحيد ‏لإنقاذ أهل السنة . ‏ ‏

  6. لماذا يضع الدكتور ملاحظاته على انفصال السودان (كعراقي).. لان الدكتور تعمق في دراسة النفسية الفارسية.. وبحكم ان العراق الاقرب والاكثر تأثرا بالجار الفارسي.. حيث يعتبر شعب فارس الاكثر عقدا بين شعوب العالم…

  7. جزاك الله خيرا دكتور طه الدليمي
    الفدرالية هيه المنفذ الوحيد لاهل السنه في العراق ولكن فات الاوان وحضرتك الكريمة تكلمت منذ سنه 2011 على قناه صفاء ولكن نظره القائد الرائد لا يقدرها الجمهور الراقد التي دخلت فيه عقده الوطنيه والدين فوق الوطن.

    (وكما نظر بني اسرائيل الى موسى عليه السلام)

    (

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى