مقالات

الإسلام ؟ أم الإسلاميون ؟

البداية جلسة بحضرة قناة (بغداد)

على قناة (بغداد) الفضائية كنت أستمع ظهر هذا اليوم (20 تموز 2008) إلى حوار يدور بين مقدم البرامج عبد الملك الحسيني والباحث في علوم الإعجاز العلمي في القرآن والسنة الدكتور المهندس خالد فائق العبيدي. جاء في تضاعيف الحوار السؤال التالي: “يقول البعض: إن الإسلام ضد العلم والتطور، وهو السبب في تخلف المسلمين” ؟ فرد الدكتور خالد هذه الدعوى بما يناسبها، وأورد من الأدلة ما يكفي لدحضها.

لست في خلاف مع ما قاله د. خالد، بل أنا على وفاق تام معه. ولكن ثمة مفارقة كبيرة لا يُنتبه إليها في هذا الموضوع؛ وذلك بسبب النظر إليه نظرة جزئية تعزل صاحبها عن رؤيته في صورته الكاملة، التي من خلالها تظهر المفارقة.

اختلاف في جهة النظر

غير المسلمين لا ينظرون إلى الموضوع كما ننظر إليه نحن. إنهم ينظرون إليه من خارجه، ومعهم بعض الحق. بينما ننظر نحن إليه من داخله، ومعنا كثير من الحق. ولكن ما لم نجمع بين الرؤيتين من المحال أن نصل إلى رؤية منصفة تمثل الحقيقة بجوانبها المتعددة. غير المسلمين ينظرون إلى الإسلام من خلال المسلمين، فيقولون ما يقولون، ونحن ننظر إليه من خلال ما هو عليه في حقيقته المجردة، ونريدهم أن يفعلوا ذلك ليحكموا بمثل ما نحكم، ويقولوا ما ينبغي أن يقال. وهذا بعيد المنال. حين يسمع غير المسلم قالنا، ثم ينظر إلى حالنا يرى مفارقة كبيرة بين ما نقوله بألسنتنا، وبين ما نحن عليه بأفعالنا وأحوالنا، فلا تزيده دعاوانا إلا تكذيباً، ومزيد ترسيخ لفكرته الخاطئة.

النظام السياسي والمنظومة الحضارية

الإسلام دين العلم والحضارة؛ لأن تعاليمه تضمنت منهجاً متكاملاً لبلوغ هذه الغاية الشريفة. هذا

صحيح. ولكن هذا المنهج غير قابل لأن يفعل فعله ليصل إلى غايته دون اشتباك أو تعشق مع بقية عناصر المنظومة الحضارية الفاعلة أو المفعلة. ولا يكون هذا دون أن يكون للإسلام (نظامه السياسي) المتمثل في دولة تحكم به قائمة على الأرض، الذي يدير بعجلته الكبيرة مفاصل المنظومة كلَّها، في حركة متساندة متناسقة تؤتي في النهاية أكلَها، كما ينبغي بإذن ربها.

حين يصيب الخلل (النظام السياسي) للإسلام، ينتقل الخلل إلى بقية أجزاء المنظومة. ومنه المنهج الحضاري، فيصاب بالتفكك والترهل، وتظهر نتائج معاكسة أو مخالفة لما وضع إليه المنهج في الأساس. فكيف إذا فقدنا هذا النظام من الأساس؟!!! عندها مهما عرفنا وتعرفنا على منهج الإسلام الحضاري وتفصيلاته وتطبيقاته، ومهما تخصصنا في ذلك وبلغنا درجة عالية في هذا التخصص، ومهما تحدثنا وبذلنا مجهودنا في الحديث والبيان، فلن نتمكن من تفعيل هذا المنهج على أرض الواقع؛ لأن عجلة التفعيل متوقفة بسبب توقف الماكنة التي تديرها، ألا وهو (النظام السياسي). والنتيجة أنه مهما تكلمنا لغير المسلمين، وغرفنا لهم من معين هذه المعرفة فلن يمدوا آنيتهم لاغترافها؛ لأن ما نقوله ليس له ما يصدقه في الواقع الخارجي الذي هو محط أنظارهم، ودليل تكذيبهم لما ندعي ونقول.

لننتقل خطوة أخرى للأمام.. ونقترب من المقصود أكثر وأكثر.

بين النفس والأرض

يتقاسم العالم الإسلامي اليوم في العموم منهجان معرفيان، هما: (المنهج السلفي)، و(المنهج الإخواني). لم يتمكن المنهج الأول إلى الآن من إقامة دولته المبتغاة التي يعبر فيها عن (نظامه السياسي)، أو الماكنة التي تدير العجلة التي تحرك المنظومة الحضارية كلها. وظهرت من بعض أدعياء المنهج ممارسات وتطبيقات تسيء إليه. أما المنهج الإخواني فأبرز ما دعا إليه هو إقامة (دولة الإسلام) و (تحكيم شريعته)، واشتهر مؤسسه رحمه الله تعالى بقوله: “الإسلام دين ودولة”. ولخلفه الأستاذ الهضيبي قول مشهور هو: “أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم تقم على أرضكم”. وتحدث (الإخوان المسلمون) طويلاً عن (النظام السياسي) في الإسلام، وأنه صالح لكل زمان ومكان. ورفعوا شعار (الإسلام هو الحل)، وقالوا جازمين: إن سبب ضعف المسلمين هو في تخلي الأنظمة الحاكمة عن (الحكم بما أنزل الله)، وتحكيم (نظام الإسلام السياسي).

المفروض إذن حين تسنح الفرصة لـ(الإسلاميين) لممارسة الحكم أو العمل السياسي أن يعلنوا (نظامهم السياسي) الذي طالما تبجحوا به وقالوا: إنه صالح للتطبيق في كل زمان ومكان، ليكون عملهم السياسي طبقاً لذلك النظام، و (يقيموا دولة الإسلام في نفوسهم)، ويحكِّموا شرع الله على أنفسهم. ليظهر للعالم من خلال النتائج المرئية من الخارج تفوق هذا النظام على بقية الأنظمة السياسية، التي قالوا هي السبب في ضعفنا. هذا أولاً. وثانياً ليثبتوا للمراقب مصداقيتهم في دعواهم. ومن دون هذين الأمرين: (التفوق والمصداقية) لن يستمع أحد إليهم، بل لا يزيدهم الكلام في هذه الحال إلا خسارة، وبعداً عن تحقيق أهدافهم، وبعد الناس وانفضاضهم عنهم. وهذا هو ما عليه الحال اليوم.

النظام السياسي للحزب العلماني و الحزب الإسلامي

الأخ عبد الملك الحسيني من عائلة إخوانية معروفة في مدينة الفلوجة، وأخوه الأستاذ الدكتور الفاضل زياد العاني هو الأمين العام المساعد للحزب. والدكتور خالد العبيدي أحد أعضاء الحزب المذكور أيضاً. وقناة (بغداد) هي قناة الحزب. والحزب اليوم يمارس العمل السياسي، وهو جزء من النظام الحاكم في العراق.

في زمن النظام السابق كان أكبر اعتراض، وأول تهمة كان يوجهها (الحزب الإسلامي) للنظام هي أنه لا يحكم بما أنزل الله، ولا يرجع في (نظامه السياسي) وغيره من الأنظمة المسيرة للدولة إلى شرع الله. وبعد الاحتلال وصل الحزب إلى سدة الحكم، وأخذ نصيبه من المقاعد والوزارات، وصار يمارس العمل السياسي العلني. لكننا عند البحث والنظر في الواقع لا نجده يمارس عمله طبقاً لمرجعية دينية إسلامية واضحة، وإنما طبقاً لمرجعية سياسية ارتجالية تحكمها المصلحة المجردة، غير المحكومة بنظام ديني إسلامي محدد ومعروف، كما هو المفترض في حزب موصوف ومعرف بأنه (حزب إسلامي). بصرف النظر عن ماهية هذه المصلحة، وهل هي مصلحة دينية؟ أم حزبية؟ أم شخصية؟ فذلك شأن آخر لسنا بصدد الخوض فيه؛ حتى لا نبتعد عن لب الموضوع.

إذن وقع (الحزب الإسلامي)، الواجهة السياسية لـ(الإخوان المسلمين) في العراق، بما كان النظام أو الحزب العلماني الحاكم واقعاً فيه. وفقد (النظام السياسي الإسلامي)، الذي كان السبب في قوة دولة الإسلام، وظهور فاعلية منظومتها الحضارية في عهدها الغابر. وتركه من قبل الأنظمة الحاكمة هو السبب في ضعف الأمة في عهدها الأغبر كما كانوا هم يقولون. ولا زالوا يقولونه بألسنتهم في زوايا المساجد، بينما نجدهم ينقضونه بعملهم عندما يجلسون على طاولة السياسة، دون أن يتنبهوا إلى المفارقة التي يقعون فيها بين زاوية المسجد وطاولة المجلس.

حينما ينظر العلماني وغير المسلم إلى واقع ( الإسلامي )

حينما ينظر العلماني، إلى هذه المفارقة يترسخ عنده المفهوم السابق لديه عن الإسلام وعلاقته بالسياسة، وهو “لا سياسة في الإسلام”، وأن الإسلام مجرد عبادة وعلاقة محصورة بين العبد وربه. وأنه خير للإسلام أن يبتعد عن دائرة السياسة، ويترفع عن قاذوراتها. وأنه أعظم وأسمى من أن يتدخل في شؤونها. وأن الإسلام يفتقر إلى (النظام السياسي) المتطور الصالح لكل زمان ومكان. أتدري لماذا؟ لأن هذا هو ما قاله (الإسلاميون) لهم بعد أن وصلوا إلى الحكم. قالوه بلسان الحال، وهو أبلغ وأدهى وأمر من لسان المقال. وإنه يكفي لكي تدمر أي فكرة أن تدعو إليها بلسانك وتخالفها بأقوالك.

لقد تساوى هؤلاء مع أولئك في (النظام) الذي يحكم (سياستهم) ، ولم يبق من فرق بين الطرفين: (العلماني والإسلامي) سوى أداء الشعائر العبادية، وهذا ليس فرقاً مؤثراً: لا تأصيلاً: فـ(الإسلامية) لا تعني تحكيم الشرع في العبادات دون الحياة، ولا تطبيقاً: فكثير من العلمانيين يؤدون الشعائر العبادية، وربما يؤديها البعض منهم بخشوع وتدبر أكثر من بعض (الإسلاميين). وهذه المفارقة واقع لمسناه هنا وهناك، ولسنا الآن في مقام تفسيره أو البحث في أسبابه. ولا عجب؛ فنحن في زمن العجائب والمفارقات!

أما غير المسلم فسيمر بهذه المحطات الفكرية نفسها، وتترسخ عنده المفاهيم الخاطئة بدرجة أشد. ويتأكد لديه أن الإسلام مجرد مبادئ وأفكار هائمة، تفتقر إلى الواقعية؛ لأن الإسلام نفسه – كما يرى ورأى – يفتقر إلى (النظام السياسي)، الذي يحرك بعجلته مفاصل هذه المنظومة من الأفكار والمبادئ، التي هي أصلاً بلا نظام. وحين يستمع إلى أخي العبيدي وأخي الحسيني أو العاني يتحدث عن المنهجية الحضارية الإسلامية، لا يفعل أكثر من أن يبتسم ويقول: شبعنا من هذه الدعاوى. الإسلام دين الفوضى، دين التخلف؛ لأنه بلا نظام. والنظام أساس التقدم والعلم والحضارة.

الأولى إذن أن يثبت (الإسلاميون) للعالم أن إسلامنا هو دين النظام، من خلال إثباتهم لوجود وتفوق (نظامه السياسي) بأفعالهم قبل أقوالهم. وإلا فهم – لا غيرهم – السبب في جلب تهمة التخلف إلى ديننا العظيم، وإسلامنا القويم.

عفواً.. ماذا قلت؟ نثبت ذلك للعالم؟! عذراً.. فنحن بحاجة لأن نثبت ذلك لأنفسنا أولاً. ثم بعد ذلك – نعم بعد ذلك – نثبت ذلك للآخرين.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى