مقالات

ذكريات قرآنية مشرقة من أيام الاحتلال المظلمة

(الحشر).. نعم الحادي في طريق التحرير! وما وجدت ألذ من (ألم.. وألم..) في الجزء الأخير!

اشتدت العمليات العسكرية للمقاومة ضد الغزاة في الأنبار أرض الأسود البواسل، وذرى النسور الكواسر. كان الأمريكان وعملاؤهم يحاولون جاهدين أن يضعوا لها حداً، أو يقللوا منها عداً! ولكنهم كانوا عبثاً يحاولون. ويوماً بعد يوم تشتد العمليات والضربات، ومعها تكثر نقاط التفتيش والكتل الخرسانية، فيشتد الزحام. وكنت إذا خرجت من المدينة إلى بغداد أو دخلتها من جانبها الغربي أسلك جسر الجزيرة. كان الأمريكان قد وضعوا نقطة تفتيش ضخمة بالقرب من الجسر، وجاءوا بجنود شيعة يحتمون وراءهم في بناية كبيرة. كنت أرى التخلف والمعدنة (صفة المعدان) بادية على وجوههم الكالحة، وأنظر إلى خوذهم الذليلة وعليها شعاراتهم الطائفية (يا مهدي ، النجف، يا حسين…) يتحدون- بوجود إخوانهم الأمريكان – بها أهل الرمادي.

أيام سود، ومناظر مؤلمة لا ردها الله!

في طابور التفتيش عند جسر الجزيرة في الرمادي

كنت ضمن الطابور أنتظر دوري للتفتيش، وبالقرب مني أحد هؤلاء الجنود موكلاً بكلب مدرب، رأيته يضحك وهو يقول مستخفاً بعقول الذين يهاجمون المحتل: كيف تعقلون أن الأمريكان يخرجون؟ والله لن يخرجوا، أي شيء يخرجهم؟

حين تنظر إلى هذه القوة الهائلة بعساكرها ودباباتها وطائراتها وتحصيناتها، وتقارنها بقوتك المجردة تقول في نفسك ما يقوله هذا الجندي الذليل. لكنني استحضرت عزة الإيمان وآيات القرآن فقلت له: بل سيخرجون. فتنبه لكلامي وكأنه ضرب على أنفه! لم أمهله حتى أردفت: اسمع ماذا يقول رب العالمين: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) (الحشر:2). نظر إلي وقد تغيرت قسمات وجهه، واختفت علامات البشر منها، وبدا حائراً لا يدري ما يقول؟ وكأنه لم يسمع بالآية من قبل. بل أكاد أجزم وأقسم على ذلك!

في زحمة السير عند جسر الورار

بعدها بمدة ليست طويلة، وفي يوم من أيام ربيع 2005 رجعت من بغداد الحزينة ومعي بعض أهلي. تذكرت الزحام على جسر الجزيرة، فقلت: لماذا لا أجرب جسر الورار، من جهة معمل الزجاج؟ وصرت شاطراً وذهبت من هناك، فإذا الحال لا تقل سوءاً، وزحمة السير أشد وطأة. حاولت أن أسلك أكثر من طريق لأعود من حيث أتيت، فلم أفلح. لقد وقعت في ورطة! كنت عند جامع الإمام الشافعي حين أذن المؤذن لصلاة العصر. نزلت فصليت. واستمر طابور السيارات يتحرك على طريقة السلحفاة، والناس يتأففون. وتحركت عقارب الساعة بطيئة بطيئة.. وغابت الشمس ولم نتحرك مسافة مئتي متر! كان الظلام قد بدأ يعتكر حين لامست عجلات السيارة أرض الجسر لأدخل المدينة!

Untitled

رأيت مجندة فلبينية – كما خمنت من شكلها – تفتش النساء، نظرت إلى مظهرها البائس، وكونها امرأة ضعيفة جاءت من بلاد غريبة بعيدة فرق لها قلبي. وحين رجعت أم عبد الله منها وهي تقود ولدي عمر، ومعها ابنتي الصغيرة سمرقند حدثتني وهي تبتسم أن المجندة كانت تنظر إلى عيون الطفلة الخضر وهي تقول بلهجة متعثرة: (عويونا ،، جميلا)! وانصرفنا فكانت تؤشر لنا بيدها وهي تبتسم وتقول: (باي باي ،، باي باي)؛ فرقّ لها قلبي أكثر. سبحان الله! أي قدر جاء بهذه التعيسة إلى هنا؟ أين سيكون مصيرها لو قتلت؟ النار والعياذ بالله. وكدت أبكي لهذا الخاطر! وما زلت كلما تذكرتها يعاودني ذلك الشعور!

كان بعض سائقي السيارات قد ترجلوا قبل ذلك أمام المسجد، وتجمعوا زمراً زمراً. توقفت عند زمرة من ثلاثة شباب، كانوا منزعجين، والألم بادٍ على وجوههم. قلت لهم: لا عليكم؛ سيخرجون. فما كان من أحدهم حتى رد عليّ بلهجة خشنة ووجه عبوس: (والله فلا يطلعون.. يمعوّد..! شيطلعهم؟!!!). وتلوت عليهم الآية: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ…).. من الذي أخرجهم؟ (هو). من هو؟ الله ! والله هو الله لم يتغير سبحانه! وما إن مست الآية العظيمة مسامعهم حتى ردوا عليّ مذعنين وهم يقولون: آمنا بالله.

أمام كل عوامل اليأس التي كانت تدب سافرة على الأرض لم يكن عندي ما أدفع به هجمتها القوية على كل ذرة من كياني سوى ضربات المجاهدين، ومعها ثلاث سور محكمات، وثلاث آيات أُخر من القرآن. كانت هي الأمل الأقوى، والبشارة الأحلى. لم أكن أجد في القرآن ألذ منها، وكنت أتلوها كثيراً. وأرشد إليها تلاوة وحفظاً.

سورة (الحشر)، وسورة (الشرح)، وسورة (الفيل). كانت هذه السور الثلاث ذات تعلق عجيب بواقعنا، وعلاقة رائعة بمستقبل واعد يبشر بالأمل، ويقضي على عوامل اليأس. وأما الآيات الثلاث فهي قوله تعالى من سورة (آل عمران): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران:118-120).

في مقر ( الحزب الإسلامي ) في الحصوة

في يوم من أيام صيف 2003، لا أعادها الله على مخلوق، كنت في مقر (الحزب الإسلامي) في الحصوة. وحانت صلاة المغرب فتقدمت بالحاضرين، أذكر منهم في هذا المقام الرجل الشهم البطل فلاح عجاج الجنابي رحمه الله، وتلوت هذه الآيات في الصلاة. واستدرت بعد الانتهاء منها إليهم. وكنت حزيناً.. حزيناً. لو مررت بأناملك على أنفي لطفر الدمع من عيني، ينز من كل خلية في جسدي. لا أدري كيف تمكنت من البقاء على قيد الحياة وأنا هذي الحال! يومها كان المد الشيعي الشعوبي على أشده، لا تكاد الأرض تسعه من الفرح والمرح والخيلاء، والاستقواء بالأعداء. وتهدج صوتي وأنا أقول لتلك الرفقة الصالحة: أبشروا والله! ثقوا سيخزيهم الله. أليست هذه أوصاف الشيعة الذين اصطفوا مع المحتل؟ لقد اتخذناهم بطانة فماذا كانت النتيجة؟ ها أنتم تسمعون نعيقهم وترحيبهم بالمحتل واستبشارهم به، ووعيدهم وتهديدهم لنا، وسبهم لرموزنا وصحابة وزوجات نبينا صلى الله عليه وسلم والصالحين من أسلافنا (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ). كم من أهل السنة من هو مخدوع بهم ويردد معهم كالبهيمة وهم به يتغامزون وعليه يبصقون: (إخوان سنة وشيعة وهذا الوطن ما نبيعه)؟! هذا والوطن قد باعوه بالمزاد الجهري العهري، وقبضوا ثمنه أمام العالم! ويحبهم عن صدق وهم لا يحبونه! يتلقونه بالكلام المعسول، فإذا خلوا عضوا عليه الأنامل من الغيظ! انظروا إلى دقة الوصف المطابق للحال: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا): هل هناك سيئة أو مصيبة على بلد أكبر من الاحتلال؟ غير أنهم في فرح ونشوة لم نرهم عليها قبل اليوم؟!!! لكن انظروا إلى نهاية الآيات وأبشروا: (إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).. فما دام الله عليماً بخططهم، قادراً عليهم فنهايتهم التي تسوءهم آتية لا محالة، و(لاْ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً)، ولكن بشرط .. (تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا). هذا قول الله تعالى وموعوده، وهو كائن لا محالة. أما كيف؟ ومتى؟ فهذا ليس من شأننا، إنما شأننا أن نصبر ونتقي، نعمل ونخطط وندفع سوط القدر بأمر الشرع. وما بقي فنكله إلى الله (إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).

كنت أقول هذا، بينما كل شيء على الأرض يكاد يكذبني، ويعبث بدمعي، ويهزأ من حزني! لولا نفحات سماوية كانت تهب على قلوبنا تخترق الحواجز والجدر، متحدية عوامل اليأس، ودواعي الألم والحسرة والإحباط.

والآن وبعد أقل من ست سنين.. ستٍّ فقط! بدأت البشائر تلوح. وها أنتم ترون الأمريكان يتأهبون للخروج من حيث أنكم (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ).

شكراً لك يا رب! شكراً لك يا من هديتني إلى دينك، وعلمتني كيف أقرأ كتابك. شكراً لك على سورة (الحشر)! شكراً على سورة (الشرح)، شكراً على سورة (الفيل). شكراً على ثلاث الآيات من (آل عمران). شكراً يارب على أن جعلتني من أهل القرآن. أللهم فاجعلني من أهلك وجندك واستعملني في طاعتك برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى