مقالات

أما للمقاتل من واحة استراحة ؟

د. طه حامد الدليمي

قبل أيام وردتني هذه الرسالة من إحدى زائرات الموقع المتميزات بحضورهن ومشاركاتهن، والتي توقع باسم (روابي الحلبوسي) تعليقاً على قصيدة لي عنوانها (أحبك حب العراق) نشرتها قبل أشهر على موقع (القادسية):

“ما هذا يا شيخ طه كنت اظنك سعد ما الذي احالك قيس ابن الملوح؟ وكيف تنشر مثل هذه الغراميات على الموقع وتكشف احاسيس زوجتك الخاصه على الناس ليطلع عليها وما علاقه هذه الغراميات في التصدي  لمذهب التشيع الذي اسست عليه موقع القادسيه وما هذا الوصف الذي تصف به زوجتك يا غيور يعني اذا قال لك احدهم زوجتك كالغصن به عقود الورد لاهيا ماذا ستعقب وهذا وصفك لها ثم اذا كنت عبدا وهي الطاغيه كيف ستحررنا وانت مستعبد يا ابن العم فك الله قيدك ثم اذا انت قائدنا هذا حالك كيف سيكون لنا اسم وهويه وقظيه لابد ان نوجه الجهود لتحريرك اولا يا شيخ يا عكيد يا اسد يا هصور يا تاج راس الحلابسه ارجوكم يا اداره الموقع استحلفكم بالله لايهمني ان ينشر التعليق ولاكن يجب ان يصل لصاحب الشان هذه امانه وانت يامن يقع تعليقي بين يديه مسؤول عنها”.

الأخت روابي الحلبوسية حفظك الله ورعاك!

شكرا لك على كلماتك ونصيحتك.

لكنك أبعدت النجعة.. ورميت في غير مرمى؛ إذ خلطت بين لغة الأدب ولغة العلم. والعرب تقول: (لكل مقام مقال).

المرء حين يقاتل يكون على حال من الغيظ والتجبر على الخصم لا يكون عليه من التضرع والتذلل حين يصلي. وحاله حين يخطب غيره حين يحاضر أو حين يتبسط في الحديث مع خلانه. وهو عندما يكون مع أهله وأولاده غيره بين ضيوفه وأصدقائه.. وهكذا.

روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يمشي على يـديـه ورجليـه وأولاده على ظهره يلعبون وهو يسير بهم كالحصان. ويراه أحدهم وهو على هذه الحال فيقول: أتفعـل ذلك يأمير المؤمنين؟ فيقول : نعـم وكان يقول: ينبغي للرجل أن يكون في أهلـه كالصبي، أي في الأنـس والتبسط ـ هكذا يكون معهم في البيت، فإذا كان في القوم كان رجلاً.

ثم من قال إن شيخ الدين أو خطيب المسجد أو القائد العسكري أو عقيد القوم، بلا قلب يخفق، ولا عين يتجاذبها الجمال حيث يشاء بخيوطه الخفية، ولسان يتفجر أحاسيس ومشاعر يفيض بها جوفه فتبوح بها شفته وتنِمّ عليها قسماته؟

ليست حياة أحد من هؤلاء كلها على النسق الذي يراه عليه الناس وهو على المنبر أو ميدان المعركة أو كرسي المحاضرة أو شاشة الرائي!

الشيخ – يا روابي! – إنسان قبل كل شيء. ومن إنسانيته تنبع كل الصور، التي تصطبغ بشتى الألوان.

وللشيخ شخصية وإن كانت في أعماقها واحدة، إلا أن لها في كل حال صورة تمثلها، ولوناً يعبر عنها. وشكلاً يحدد أبعادها، يتناسب والحال التي هو عليها. فهو لا شك بشر كباقي البشر الذين أودعهم الله تعالى فطراً وغرائز كثيرة: منها غريزة حب الدنيا وزينتها: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) (آل عمران:14)، وهو من الناس، والله تعالى يقول: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:33،32). وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)([1]). فهذا دليل ينتهي معه زعم اولئك القوم الذين ابتدعوا رهبانية وحجروا واسعاً. وإلا فالفطرة السوية، والمشاعر النقية، هي بلسم يلطف سموم الحياة وهجيرها.

وطه صاحب القلم الذي يشدو بحب العراق، هو نفسه صاحب القلب الذي يخفق بالغرام، ولعله في هذا الشأن بلغ شأواً لم يصله قيس بن الملوح! وعنده من شعر الحب والغزل أكثر من ديوان. ويوم يطبعه ويظهره للملأ لعلك تعجبين، وربما تصرخين عجباً واستغراباً. وما قاله إنما قاله بلغة الشعر والأدب، لا لغة الحديث الجاد المباشر.

أهذا الذي أثار حفيظتك واستثار غيرتك التي أحييك عليها يا ابنة العم:

أماني ! أُحبُّكِ في كلِّ ما
أراهُ ومَا غابَ في الخابِيَهْ

ففي البدرِ عندَ اعتكارِ الدُّجى
وفي بسمةِ النجمةِ الساجِيَهْ

وفوقَ الغصونِ وأوراقِهَا
إذا ما النَّدى جلَّلَ الدالِيَهْ

يُغرِّدُ ما بينَهَا بلبلٌ
أراكِ بمِنقَارِهِ أُغنِيَهْ

وطافَ بأبهائِها كوكبٌ
يُلَوِّحُ بالنورِ والعافيَهْ

أماني ! وأنتِ على عرشِهِ
استويتِ بهالتِكِ الباهِيَهْ

مليكاً طغى فأطعتُ لهُ
فما أروعَ العبدَ والطاغِيَهْ

أقيمي بهِ ما أقامَ النهارُ
وأرختْ بأستارِها الداجيَهْ

أماني ! وأحببتُ فيكِ المُنَى
تميسُ بأذيالِها الراخيَهْ

تَشِعُّ الثرَيَّا بأطرافِها
وتُرسلُ نظراتِها الحانيَهْ

وأحببْتُ فيكِ سجايا الغصونِ
عقودُ الورودِ بها لاهيهْ

تَضِجُّ نداءً وتُغضي حياءً
تُواربُ حمرتَها القانيهْ

وأحببْتُ فيكِ شُموخَ النخيلِ
تمطَّى بسعفاتِهِ العاليَهْ

ودجلةَ في زهوِها والفراتَ
خيولُ المثنى بِها عاديَهْ

ما الذي في هذا؟!

ماذا تقولين لو قرأتِ له قصيدة (أشتاقك)، وهذا بعضها:

شوقَ الليالي للقمرْ

والصيفِ أفردَ حضنَهُ

يرتادُ أنسامَ البحَرْ

والشاعرِ المسحورِ

يخفقُ ظلُّهُ

شغَفاً بكركرةِ النهَرْ

يا قمَري ..! يا بحَري ..! يا نهَري ..!

أشتاقُكْ

***

شوقَ النسائمِ للزهَرْ

والعاشقَينِ ،، تلاقيا

أضناهُما طولُ افتراقٍ ،، للسهَرْ

شوقَ المقاتلِ في العراقِ

لشعلةٍ

في صاعقِ متفجرٍ تحتَ ( الهمَرْ )

يا زهَري ..! يا سهَري ..!

يا شُعلةً في صاعقي المتفجرِ ..!

أشتاقُكْ

وأغتنم هذه الفرصة لأهدي زوار الموقع إحدى قصائد الغزل التي أكتبها. وهي قصيدة (قمرية البلد الحرامِ). وربما استمررت في نشر قصائد أُخرى، إن راق لهم ذلك. وأنا أعلم أن بعض القراء رغم هذا سيجفلون، ولكن لا بأس؛ لكل رأيه وذوقه، وكلنا في دائرة الشرع نختلف فيه لا عنه. والاختلاف في توجيه وفهم النص أو الدليل سائغ بشروطه.

لقد كان شعراء الصحابة – يا روابي! – يتغزلون بمن يحبون، ويلقون ذلك الشعر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقصيدة (البردة) لكعب بن زهير رضي الله عنه أشهر من نار على علم قالها في رسول الله يوم جاءه معتذراً يعلن إسلامه:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
إلا أغن غضيض الطرف مكحول

هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً

لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ

تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
كأنه منهل بالراح معلول

ولم يكن أسلافنا بعيدين عن أشعار الغزل وأحاديث الغرام، والاستشهاد بها. فعامة شواهد (شرح ابن عقيل) شعر غزل. واقرئي – ان شئت – ما كتب العلامة ابن القيم في (روضة المحبين) ولا أريد أن أقول لك: اذهبي إلى كتابه (أخبار النساء).. ثم أخبريني!

أخيراً أقول.. أما للمقاتل يا ابنة العم من واحة استراحة؟!

وعلى كل حال.. شكرا لك على حرصك وغيرتك ونصيحتك. ولكن لا يذهبن بك الظن بعيداً. واستفيدي من خبرة الخبراء.

والسلام

_______________________________________________________________________________

  1. – رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى