مقالات

في الذكرى الثالثة والخمسين للميلاد…………….

د. طه حامد الدليمي

من مقالب

الصغر .. وذكريات الطفولة

في الحياة مواقف وأحداث..

آمال وأحلام.. خيالات وأمنيات.. قصص وذكريات،، يتمنى لها صاحبها البقاء والخلود.. أو أنها لو ترجع فيعيشَها من جديد. يحس كأنها جزء من كيانه أو قطعة من نفسه.

وتمر الأيام والليالي سريعة سريعة بهذه الأجزاء ، وتلك القطع، وهي تتناثر بلا نظام على جانبي طريق الحياة الطويل!

فإذا وقف الإنسان يوماً من الأيام واستدار بطرفه ينظر خلفه عبر ذلك الطريق الممتد طويلاً، والموغل في السنين الخوالي بعيداً بعيداً، يحاول أن يلتقط أملاً من هنا وذكرى من هناك أو يتلمس حلماً قديماً سعدت به الروح في ليلة من الليالي، إذا به يراها وكأنها غرقت في بحر من السراب، أو لفتها غاشية من الضباب، فهو لا يبصر منها إلا الشيء بعد الشيء وقد تلاشت وراء الأفق الغابر أو تكاد!

وكلما مرت بالخاطر ذكرى بهت لونها، أو حادثة ضاعت معالمها، أو قص عليك جليس قصة كنت أحد أبطالها لكنها الآن نسيت، وكلما رحت تحاول عبثاً التقاطها… تمنيت لو أنك قيدتها في كتاب أو سطرتها في ورقة، فإذا رجعت إليها بعد حين فكأنك وأنت تقلب صفحات ذلك الكتاب أو تقرأ تلك الأوراق، إنما تقلب أجزاء حياتك نفسها وتنظر إليها من قريب!

يوم (22) من كل نيسان تمر بي ذكرى مولدي. وقد عودت قراء (الموقع)، ومنذ أربع سنوات، على أن أصور لهم بعضاً من ذكرياتي.

فتحت عيني وأنا طفل صغير أدرج في أرض جدي بريف (المحمودية القديمة). و(المحمودية القديمة) نهير ينبع أصله البعيد من نهر الفرات، يغذي منطقة واسعة من الأراضي تسمى (الخياميات) تقع إلى الشرق من مركز المدينة.

وكانت أول حادثة علقت في ذاكرتي من تلك الأيام الموغلة في تاريخ العمر وفاة عم والدي، وكان عمري آنذاك سنة ونصف السنة. ها هي أمي تحملني على كتفها وأبي في المقعد الخلفي للسيارة التي تحمل التابوت يضرب على الدف مع آخرين وهم ينشدون في طقس من طقوس الدراويش يشيعون به الميت!

أتذكر الحادثة كصورة مقتطعة من فلم باهت قديم.

mmm قطعة أُخرى باهتة لكنها ما زالت ناشبة في مشجب خيالي القديم، قريبة العهد باللقطة الأولى: أهلي في حقل الباميا وأنا ألعب بالقرب منهم على متن ساقية، نبتت على جرفها شجيرة صفصاف. وفي لحظة غفلت عني فيها عين الرقيب الذي كان يراوح النظر بيني وبين الثمار اليانعة، تسلقت أغصان الشجرة. ثم.. لا أدري كيف هوَيت إلى القاع. وتتلفت أمي ناحيتي.. لا شيء سوى الشجرة تلعب بها ريح الصيف الجافة ولا من أحد تحتها! فتهتف صارخة: “حامد! طه ماكو!”.

ويلقي الجميع بالآنية التي يجنون فيها المحصول، ويركضون تجاه الشجرة. لا أذكر من المشهد سوى صورتين كحلم تشتتت أجزاؤه وتفرقت بدداً: أهلي بين أغصان الباميا العالية أتطلع إليهم جهة الغروب. وأنا، محمولاً بين يدي والدي أنظر من خلفه إلى طاقيته الطافية في ماء الساقية.

لقد كان في العمر بقية..

وتستمر (البقية) حتى يأتي يوم بعد ذلك بحوالي خمسين عاما،ً أسمع فيه وأنا عنها بعيد بمصرع أختي (أم أحمد)، وكانت من شهود تلك الذكرى التي تخللت طيات قصيدة طويلة رثيتها فيها فجاءت هذه الكلمات:

( ها أنتِ في الحقلِ الجميلْ

والوالدانِ ..

تراودونَ ثمارَه

وأنا على غصنٍ نحيلْ

بشجيرةٍ قامتْ على نهرٍ قريبْ

طفلٌ صغيرٌ تحتَ أنظارِ الرقيبْ

هلْ تذكرينَ ،، أُخيتي ! ،،

هلْ تذكرينْ

لمّا هوَيتُ لقاعِهِ

في غفلةٍ منْ عينِ ذياكَ الرقيبْ

الماءُ يشهدُ والنجيلْ

وخيالُ طاقيةٍ طفتْ

وأبي على مَتنيهِ يحملُني

ووالدتي على الشاطي تجولْ

هل تذكرينْ ؟ )

آكِلُ الأطفال

thik3 في تضاعيف العمر أشياء لم تكن الذاكرة عندها في وضع يسمح بحفظها. وتسمع الأهل بعد حين يذكرونها ويتندرون بها.

“هنا طفل يأكل الأطفال! أيتها النساء “!

أذيع هذا البلاغ وانتشر انتشار النار في الهشيم في حفل عرس ريفي. تقول والدتي: فكانت الصبيات الصغيرات يحملن إخوانهن الصغار على ظهورهن ولم يفارقنهم طيلة الوقت حتى انتهى الحفل. وما زال أثر عضة تبدو قاسية في جفن ابن خالة لي، وأثر آخر في فروة رأس ابن عم له. وهناك آخرون تعرضوا لهذا الهجوم (منهم ابن خالي محمد). “كنا نجدك رابضاً على الأرض وأنت ما زلت تحبو، وننظر فنكتشف أنك تخفي تحتك طفلاً صغيراً تعضعضه من خده أو رأسه والدم يسيل منه.. حتى عرفت بذلك من بين الأطفال”. هذا ما أخبرتني به إحدى خالاتي السبع.

ظهر يُشدّ بفَخِذ

كنت يوماً مع والدتي نزور خالتي (وضحة) التي تسكن في ريف اللطيفية. وفي الفضاء الواسع خارج باحة الدار، كأني الآن أنظر إلى خالتي وهي تؤز النار تحت القدر الكبير عند الضحى تُعد لنا الغداء، والدخان يتصاعد ثم ينحني في حزمة غليظة طويلة تتشتت وتتلاشى شيئاً فشيئاً كلما ساقتها الريح باتجاه الشرق. وأنا أروح وأجيء ألعب مع الأطفال في ثوب كان بينه وبين جلدي عقد أن لا يفصل الدهر بينهما بثالث، يلامس طرفه ركبتيّ ينزل عنهما قليلاً ثم ينحسر حسب ما تقتضيه الحال، والله وحده أعلم بتقلب الأحوال.

كنت يومها وسطاً بين الثانية والثالثة من العمر. وكان لخالتي ولد يكبرني بثلاثة أعوام اسمه (نعمة)، وهو مما يصلح حقاً لأن يستدل به على أن “لكل امرئٍ من اسمه نصيب”! مدلل أفسده الدلال، لا يرضيه شيء، ولا يكاد أهله يردون له طلباً أو يفرّطون له برغبة، أما أنا فكم ردت لي من طلبات وتغافل أهلي مرغمين عن رغبات. ما لهذا الولد يبكي وبين أصابعه فخذ دجاجة بحاله؟ عجباً لا يرضيه ذلك؟ ويريد المزيد!

واستمر في بكائه يرضّونه ويتأبى .

كنت أراقب المشهد وأنا أتلمظ من الجوع والرغبة؛ من يحصل منا على كسرة جناح، وهذا في يده فخذ بالتمام والكمال!

وبلمح البصر لمعت في رأسي الصغير فكرة!

ولم لا؟ أوليست الحاجة أُمَّ الاختراع؟

وبينا هو يغمض عينيه ويفتحمها والدموع تتجارى منهما اهتبلت إغماضة خاطفة لأنتزع الفخذ من بين أصابعه وأنطلق بكل ما في ساقيّ النحيفتين من قوة لا ألوي على شيء! أما هو فقطع بكاءه وصار يجري ورائي. كنت مقدراً أنه سيلحق بي حتماً وعندها سينتزع الغنيمة؛ فما العمل؟

لم يكن أمامي إلا أن أستغل المسافة التي فصلت بيننا والتي تتقاصر مع الثواني واللحظات فأمرط ما بيدي وأنا أركض، ووالدتي تضحك وخالتي تنادي ، فلم يدركني إلا وقد تحول الفخذ إلى عظام جرداء! فلما تكورت في يده لم يتحمل المسكين الصدمة.. فأسرع إلى عمود صغير كان ملقى قريباً منا فحمله بيديه الاثنتين وظل يطاردني إلى أن هوى به على عاتقي بضربة هدته هداً. لكن، ولله الحمد، قد شد ذلك الفخذ من ظهري. فتحملتها راضياً مرضياً.

ها؟ جميل أن يشد ظهر بفخذ! أليس كذلك؟

فشلت العملية ..!

aadd2-e1555bc499 كان ثوبي منشوراً على الحبل وأنا ألعب خارج الدار مرتدياً جلدي!

كنا آنذاك نسكن في حي (كرادة مريم) بالقرب من شاطئ دجلة بجانب الكرخ، وكان والدي يعمل فلاحاً في حدائق (المجلس الوطني)، فجاء بنا إلى هنا وأسكننا في دار مبنية من طين ضمن بضعة دور مشابهة مجاورة تسكنها عوائل قادمة من الجنوب. يقع هذا المجمع الصغير في بستان للنخيل مزروعة أرضه بخضروات المائدة، وساقية متدفقة على الدوام تمر من أمام دارنا، كان ماؤها صافياً رقراقاً، وكم كان يذهلني منظر دعبلة (كرة زجاجية ملونة) سقطت في الساقية أراها من خلل الماء! وأهبط أحياناً لأنتشلها وألهو بها. أحياناً أذهب مع الأطفال لنلعب قرب السفارة الإيرانية القريبة ونجمع ثمار النبق المتساقط على الأرض من الأشجار العالية في مدخل البناية، وبقربها على الجهة الثانية من الشارع وعلى شاطئ دجلة عمارة تسمى (عمارة الدامرچي) من عدة طرائق أو طوابق، تسكنها عوائل عديدة جاءوا بغداد من مدن شتى. أما الزوارق والقفاف فكان منظرها أخاذاً وهي تمخر الماء والشباك بأيدي أصحابها، أو تنقل الناس ليعبروا من هذه الضفة إلى الضفة الثانية وبالعكس، وكانت أغنية (يمسيرين البلم) [والبلم هو الزورق الصغير] و (يا صياد السمك) تتردد على مدار اليوم على أفواه الكبار والصغار.

بعد ثلاثين سنة من ذلك التاريخ أخذت العائلة في سفرة نهرية استقلينا فيها زورقاً من عند شاطئ المدرسة المستنصرية القديمة وغنيت لهم والزورق يتهادى بنا على صفحة الماء (يمسيرين البلم خلوني وياكم * عن گلبي زال الألم فرحان بهواكم)، و (يا صياد السمچ صِدْ لي بُنّيةْ * شْعَجبْ انت حْضري وانا بْدويةْ). بعد أن زرنا (المتحف البغدادي) قرب تمثال (الرصافي)، ثم تسللنا سالكين (شارع النهر) لنتناول المشويات اللذيذة في مطعم تحت شجرة سميقة الطول كثيفة الظل بجوار المدرسة المستنصرية، حيث يلتقي جمال الجغرافية بعبق التاريخ.

دخلت البيت فوجدته صامتاً واجماً! ناديت (يما !).. كررت النداء.. ليس من مجيب! كانت أختي الوحيدة تزورنا، وقد علمت أن الوالدة ستذهب معها توصلها إلى بيتها في شارع فلسطين ثم تعود. كانت فرصة طيبة لي للانطلاق ورؤية بغداد وشوارعها وحدائقها. لكنني شممت رائحة تنبئ عن أن والدتي لا تريد مرافقتي.

ها؟ هل عملتها وغافلتني وذهبت!

لقد كانت هنا قبل قليل؛ ربما إذا أسرعت لحقت بها قبل أن تركب السيارة! نظرت إلى ثوبي تلعب به الريح، وحتى أنزله وألبسه يكون الوقت قد فات. ومن لحظتي أطلقت ساقي للريح وأنا على تلك الحال. أقول في نفسي: ستدثرني أمي بعباءتها.. المهم أن ألحق بها. وما هي إلا دقائق حتى لاحتا لي واقفتين على الشارع . الحمد لله، وها أنا أقترب وأقترب لاهثاً منهما. لكن سيارة نقل عامة توقفت قبل أن أدركهما، ورأيتهما تمرقان إلى داخلها دون أن تأبها لوجودي ومنظري (البديع)! فصرخت بأعلى صوتي (يمّا.. يمّاااا)، وتلفتت لكنها لم تفعل شيئاً. وجلستا في الصف الخلفي لكراسي السيارة، وها أنا أقترب منهما، لكنهما لا تزيدان على أن تنظرا إلي دون رحمة وأنا أصرخ وأركض بلا جدوى. وتحركت السيارة، وما زلت أركض وأركض، وتزداد المسافة بيننا بعداً، فتتباطأ قدماي الصغيرتان حتى اختفت السيارة بمن فيها عن ناظري. وأتوقف مبهور الأنفاس، حسير البصر، كليل القدم.

يا للأسف ! ويا للخيبة!

والآن كيف سأعود وأنا على هذه الحال؟!

وا سوأتاه! ماذا سيقول عني الناس والجيران؟ يا للخجل!

كنت أحاول التخفي بين الأحراش وجذوع النخيل. وقبل أن أصل الدار رأيت يوسف ابن أبو يوسف واقفاً بباب العمارة وهو يضحك علي ويقول: ها؟ فشلت العملية؟!

طبق الكباب

ونكبر فتكبر المقالب. وقد تتشابه أحياناً.

,,,,,,,, أختي (أم أحمد) تكبرني بتسع سنين، تسكن مدينة المحمودية. ونحن في ريف (اللطيفية) في قرية (البطين). كانت أمي تفرح كثيراً لمجيئها، وتخصها بمزيد عطف واهتمام. زارتنا يوماً من أيام شتاء (1972)، وسررنا جميعاً لرؤيتها. وفي إحدى الليالي وجدت الوالدة قد أتحفتها بطبق من الكباب! وكنا قليلاً ما نرى مثل هذه الوجبة المغرية في بيتنا في ذلك العهد! نظرت فإذا اليأس يكتنفني من كل جانب.. فأنا صغير أولاً، ولأني من أهل البيت ثانياً، فلا يجمل بي أن أكون شريكاً للضيف في طعامه حتى وإن كان أختاً لي! وقلبت النظر في الطبق وفي الأيدي التي أخذت تعبث فيه وكأنها تعبث بأحشائي! أيعقل أن ينتهي كل شيء وأنا أنظر هكذا بلا نصيب!؟! لكن كيف لي أن أفوز بشيء من ذلك ولا مجال، كما يبدو، والأيدي قد عملت عملها.

غير أنه لا يأس وفي الرأس تلك الجوهرة التي تتوهج كلما أثرتها بلا كلل. وهكذا كان. وفي لحظة واحدة هجمت على الطبق وخطفته بسرعة مذهلة شلت تفكير الوالدة، وخرجت به من حجرتنا الطينية (الخرابة) يعدو خلفي أخي الصغير علي. كان البرد قارصاً، ولكن الطعام لذيذ يستحق المغامرة. جلسنا ناحية في ذلك الظلام حتى أتينا عليه. لا أذكر كيف رجع علي بعدها وتدبر أمره فتمكن من الدخول، ربما لأنه ليس هو الذي تولى كبر الجناية. لكن المشكلة أنا، أنا كيف سأدخل؟ أم أين سأذهب في ذلك الليل الموحش، والبرد الشديد؟

تذكرت حكاية قصتها أمي قديماً عن طفل كان مصاباً بهلاوس بصرية يرى عجوزاً تهاجمه فيصيح: (ماما عجوز!).

“فكرة رائعة”! وبالطريقة نفسها التي هربت فيها من الخرابة دخلت وأنا أصرخ: (يما عجوز! يما عجوز! عجوز…!) وهجمت على حضن أمي مرة واحدة لأدس وجهي في حجرها وأنا ما أزال أصيح، وهي تردد فزعة: (اسم الله وليدي! اسم الله اسم الله). وحتى تكتمل التمثيلية لا بد أن أنتفض وأجعل جسدي يرتجف وصوتي يتقطع، ولعل البرد الذي تخلل عظامي النحيلة ساعدني كثيراً. وأمرت بالمصحف فجيء به إليها فجعلت تمرره على رأسي وهي تدعو وتستغيث، وتحاول رفع وجهي لتنفث فيه ولا تستطيع وأنا أتهادأ بين يديها شيئاً فشيئاً حتى سكنت وسكتّ. لقد كنت أخفيه في حجرها بكل ما أوتيت من قوة؛ فماذا سيكون مصيري لو كشفت عن وجهي فوجدتني غارقاً في ضحك لا ينتهي من هذا المشهد الذي لا يمكن أن أتخيله أو يخطر لي، ولا في الأحلام؟!

الخيار الصعب

68051172 في تلك الأيام وفي المكان نفسه، كنا مجموعة من الصغار جلوساً في البستان القريب، يرعى بعضنا البقر، وبعضنا تجمع حول نار أشعلناها والشمس قد احتجبت وراء الغيوم، وكأن السماء تهيأت للمطر، وقطرات صغيرة متقطعة بدأت بالنزول.

وتنظر بين الأغصان فترى الحمائم والعصافير قد انكمشت على نفسها في أعالي الشجر، ورفوف من طيور الزاغ الأسود كقطع الليل المظلم تُحوّم فوق رؤوسنا وتطلق أصواتها في ذلك الفضاء الفسيح. كان بيننا شاب يكبرنا بكثير اسمه (عباس) نحبه للطفه، وخفة ظله وكثرة مرحه، وحكاياته الفكاهية المحببة إلى نفوسنا.

وبينا هو مستغرق في حديثه الشيق إذا هو يقول: “رأيت نسيبكم قبل أيام جاء إليكم ومعه أختك”، ثم أردف “جميلة الله يستر عليها”!

يا لَلهول! يذكر أختي..! لا، ولا يكتفي حتى يقول عنها “جميلة”..!!

اعتداء سافر ورب الكعبة، لا يمكن السكوت عليه!

لا بد أن أرد (الإهانة) بمثلها. ولكن..؟ أنى لي ذلك وأنا طفل صغير وعباس شاب كبير في الثلاثين من عمره ؟ غير أنه لا بد.. لا بد من أن أتصرف.. أن أفعل شيئاً. كانت الدماء تفور في شراييني وأنا أتلفت حولي أبحث عن حل؟ وعباس مستغرق في حديثه والصغار يضحكون، والأبقار ترعى والحمائم جاثمة والعصافير واجمة.

http://t0.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcSO2oJYUQYiTNkv2vSkBzj-yDF1TkE46PRWGYJJ_3nhz8PD_KIvnA كان الدخان يتصاعد من النار ، والمجلس على متن النهر في ناحية من مجرى الريح ونبات الحلفاء وأشجار ملتفة من ورائنا تصدها عنا. ولاحت لي فكرة ! قفزت فعبرت النهر، نظرت يميناً وشمالاً فوجدت حجراً صلباً عبارة عن طينة يابسة انخلعت من بين ظلف بقرة ، وهذه تكون قاسية جداً من كثرة ما ديست فتداخل بعضها ببعض وصارت كالصخرة! لم يكن بيني وبين غريمي سوى النهر ولم يكن كبيراً ولا واسع المسافة بين الضفتين. من المؤكد أنه لم يكن في تلك اللحظة المسترخية يدور في باله قط أن حجراً سيصكه على وجنته اليسرى بعنف فيتطاير الشرر من عينيه كأنهما أصيبتا برصاصة! كانت الإصابة مباشرة وقوية جداً ومن مسافة قريبة.

“الله!” وأطلق ساقيّ للريح صوب بيتنا. أما عباس فكأنه كان مع الحدث على ميعاد؛ فقد قفز لحينه وعبر النهر دون أدنى تأخير وصار يجرى خلفي. لم يكن ثمة طريق سالك أهرب منه. كان متن النهر مرتفعاً ومتعرجاً ومليئاً بالأحراش والأشواك ؛ فليس لي إلا أن أنزل عنه لأخوض في الحقل وكان قد سقي قريباً فكانت رجلاي تغوصان في الطين والحشائش المبتلة، وفي كل خطوة أقطعها كان الحذاء البلاستيكي يزداد حمله من الطين شيئاً ولكن بصورة متلاحقة، وأتلفت فإذا المسافة بيني وبين عباس تقصر باضطراد. وأخيراً أمسك بي وطرحني أرضاً في ذلك الوحل وبين أغصان الحقل المتشابكة القصيرة كانت تدور معركة غير متكافئة، لم أكن أملك فيها إلا أن أتلقى الضربات العنيفة، ولا أدري لماذا كانت لكماته المؤلمة تتركز في بطني وصدري؟ هل هي عقوبة القدر على طبق الكباب الذي اختطفته قبل أيام؟ حتى إذا اكتفى واشتفى تركني لمصيري ومضى.

وعدت إلى البيت أجر أذيال الخيبة وأنا متكدر البال مضطرب الحال، ووالدتي تدني مني الغداء وتسألني: ما لك لا تأكل؟ ما الذي دهاك؟ ما هذا الطين الذي يلوث ملابسك وجسمك؟ و….

أنا صامت لا أجيب.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى